العلماء ومخالطة السلطان
الفصل الثامن
العقيدة المكينة، معين لا ينضب للنشاط الموصول، والحماسة المذخورة، واحتمال الصعاب ومواجهة الأخطار، بل هي سائق حثيث يدفع إلى لقاء الموت دون تهيب إن لم يكن لقاء محب مشتاق.
تلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستمكن، إنه يضفي على صاحبه قوة تنطبع في سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقا من قوله، وإذا اشتغل كان راسخا في علمه، وإذا اتجه كان واضحا في هدفه، وما دام مطمئنا إلى الفكرة التي تملأ عقله، وإلى العاطفة التي تعمر قلبه، فقلما يعرف التردد سبيلا إلى نفسه، وقلما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه، بل تجده يقول لمن حوله: [قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ] (الزمر:39، 40).
هذه اللهجة المقرونة بالتحدي، وهذه الروح المستقلة في العمل، وتلك الثقة فيما يرى أنه الحق. ذلك كله يجعله في الحياة رجل مبدأ متميز، فهو يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إن رآهم على الصواب تعاون معهم، وإن وجدهم مخطئين، نأى بنفسه، واستوحى ضميره وحده.
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (لا يكن أحدكم إمعة، يقول أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت!! ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسِنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم). - أخرجه الترمذي.
والرجل الضعيف هو الذي يستعبده العرف الغالب، وتتحكم في أعماله التقاليد السائدة، ولو كانت خطأ فيجر معه متاعب الدنيا والآخرة. وقد أحدث الناس في أفراحهم وأحزانهم بِدَعاً شتى، وتمسكوا بعادات وتقاليد وأعراف المجتمع المبتدعة أشد من استمساكهم بحقائق الدين نفسه.
ولكن المؤمن الحق لا يكترث بأمر ليس له من دين الله سند. وهو في جرأته على العرف والتقاليد سوف يلاقي العنت، بيد أنه لا ينبغي أن يخشى في الله لومة لائم وعليه أن يمضي إلى غايته، لا تعنيه قسوة النقد، ولا جراحات الألسنة.
والباطل الذي يُروج حينا، ثم يثور الأقوياء عليه فيُسقطون مكانته، لا يبقى على كثرة الأشياع أمدا طويلا، وربً مخاصم اليوم من أجل باطل انخدع به، أمسى نصيراً لمن خاصمهم، مستريحاً إلى ما علم منهم، مؤيدا لهم بعد شقاق.
وتشير هذه القصة الطريفة بين جعفر الصادق حفيد الحسين رضي الله عنهما، وبين أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي -الذي كان يطيح بالرقاب لمجرد الشبهة في عدم الولاء له- إلى أن صدق العبد مع الله منجاة من كل مهلكة؛ ولو شى به الواشون، وأراد قتله أو سجنه الظالمون:
جعفر الصادق رحمه الله تعالى وأبو جعفر المنصور
هو جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم جميعا.
من مواقفه:
حينما واجه المنصور جعفر الصادق لوشاية وصلته، ودخل على المنصور فقال له ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلًي بن خنيس؟ فقال جعفر معاذ الله من ذلك يا أمير المؤمنين، فقال المنصور أتحلف على ذلك بالطلاق والعتاق، فقال جعفر ألا ترضى بيميني بالله الذي لا إله إلا هو؟، فقال المنصور دع عنك هذا، إنني سأجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع هذا عليك حتى يواجهك، وطلب الرجل الذي رفع ذلك الخبر إلى المنصور فأٌحضر فقال له جعفر أحقا ما رفعت إلى أمير المؤمنين، فقال نعم، فقال المنصور أتحلف على ذلك أيها الرجل، قال نعم، قال المنصور احلف، فقال والله الذي لا إله إلا هو، فقال له جعفر الصادق: تمهل؛ ليس هكذا يكون اليمين، إن العبد إذا مجد الله في يمينه أمهله بالعقوبة، ولكن قل: "أنا برئ من الله والله بريء مني، وأنا خارج من حول الله وقوته، راجع إلى حول نفسي وقوتها، إن كنت كاذبا فيما أقول"؛
فحلف الرجل كما طلب منه جعفر الصادق فلم يتم كلامه حتى خر ميتا. فارتاع أبو جعفر المنصور وأجلس جعفر الصادق إلى جنبه، ثم قال له انصرف يا أبا عبد الله فلست أسألك بعدها عن شيء. وعندما خرج تبعه الفضل بن الربيع -وكان وزير أبا جعفر- وسأله: ما الذي كان يحرك به شفتيه عندما دخل على المنصور، فلم يجبه، ولكنه قال لبعض أصحابه بعد ذلك إنه قال: "اللهم بك أستفتح، وبنبيك محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أتوجه، اللهم ذلل لي حزونته (خشونته) وكل حزونة، وسهل لي صعوبته وكل صعوبة، اللهم اعطني منه من الخير فوق ما أرجو واصرف عني منه من الشر فوق ما أحذر، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أسخط الله في رضى الناس سخط الله عليه، وأسخط عليه من أرضاه في سخطه. ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه من أسخطه في رضاه، حتى يزيًنه ويزين قوله وعمله في عينيه)- أخرجه الطبراني. فليصبر المسلم على ما يوقن به، وليستخف بما يلقاه من سخرية واستنكار، ذلك عندما يشذ عن عرف الجهال، ويخط لنفسه نهجا يلتمس به مثوبة الله وحده. ولئن كان الإيمان بالأوهام يغري البعض بأن يسخر ويتهكم، فإن الإيمان بالإسلام يجب أن يجعل أصحابه أقوياء راسخين. [وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً * إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً] (الفرقان،41 – 42 ).
أجل، يجب أن يكون المسلم شاعرا بقوة اليقين في شخصه، وروعة الإيمان في نفسه. فإن لم يستطع فرض ذلك على ما حوله بقي كالطود الأشم، لم تجرفه الغمار السائدة، ولم تطوه اللجاج الصاخبة. وماذا عسى أن يفعل الناس لامرئ اعتز بإيمانه، واستشعر القوة لصلته بربه، واستقامته في دينه؟ إنهم لو تألبوا عليه جميعا ما نالوا منه قليلا ولا كثيرا.
والحق أن فضيلة القوة ترتكز في نفس المسلم على عقيدة التوحيد، كغيرها من الفضائل التي تجعله يرفض الهوان في الأرض، لأنه رفيع القدر بانتسابه إلى السماء، ولأنه يستطيع في نطاق إيمانه أن يكون أمة وحده. وعلى لسانه قول الله عز وجل: [قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ] (الأنعام:14).
ومن فضائل القوة التي يوجبها الإسلام: أن تكون وثيق العزم، مجتمع النية على إدراك هدفك بالوسائل الصحيحة التي تقربك منه، باذلا قصارى جهدك في بلوغ مأربك، غير تارك للحظوظ أن تصنع لك شيئا، أو للأقدار أن تدبر لك ما قصرت في تدبيره لنفسك!! فإن هناك أقواما يجعلون من اللجوء إلى الله ستاراً يواري تفريطهم المعيب، وتخاذلهم الذميم، وهذا التواء كرهه الإسلام.
فعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين، فلما أدبرا قال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل! فقال صلى الله عليه وسلم "إن الله يلوم على العجز! ولكن عليك بالكيس "العقل"، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل" – أخرجه أبو داوود.
أي أن المرء مكلف بتعبئة قواه كلها لمغالبة مشاكله حتى تنزاح من طريقة فإن ذللها حتى استكانت له فقد أدى واجبه. وإن غلب على أمره أمامها بعد استفراغ جهده كأن ركونه إلى الله عندئذ معاذاً يعتصم به من غوائل الانكسار، فهو على الحالين قوي، بعمله أولاً وبتوكله آخرا.
إن الإسلام يكره لك أن تكون مترددا في أمورك، تحار في اختيار أصوبها وأسلمها وتكثر الهواجس في رأسك، فتخلق أمامك جوا من الريبة والتوجس، فلا تدري كيف تفعل. وتضعف قبضتك في الإمساك بما ينفعك. فيفلت منك، ثم يذهب سدى. إن هذا الاضطراب لا يليق بالمسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان". أخرجه مسلم.
وعمل الشيطان هو تشييع الماضي بالنحيب والعويل، وهو ما يلقيه في النفس من أسى وقنوط على ما فات. إن الرجل لا يلتفت وراءه إلا بمقدار ما ينتفع به في حاضره ومستقبله، أما الوقوف مع هزائم الأمس، واستعادة أحزانها، والتعثر في عقابيلها، وتكرار (لو) و (ليت) فذلك ليس من خٌلق المسلم، بل لقد عدًه القرآن من مظاهر الحسرة التي تلجلج في قلوب الكافرين.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ] (آل عمران : 156 ). وقد جاء في الحديث: "من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله". والتوكل الذي يقوي الإنسان به ضرب من الثقة بالله، ينعش الإنسان عندما تكتنفه ظروف محرجة، ويلتفت حوله فلا يرى عونا ولا أملا!.
فالمكافح عدوا قوي الشكيمة، شديد البأس، على ضعف العدة، وقلة الناصر، يحس عندما يتوكل على الله أنه أوى إلى ركن شديد، ويستمد من هذا التوكل ثباتا ورباطا ويظل يقاوم حتى تبرق بشائر النصر خلال جو مكفهر، وقد بين الله تبارك وتعالى أن هذا التوكل كان غذاء الكفاح الطويل الذي قاوم به النبيون وأتباعهم مظالم الطغاة وبغي المستبدين. [وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ] (إبراهيم:12).
وقد كان الحكام الفجرة وأشياعهم يسمون تشبث المسلمين بما لديهم، وتأميلهم الخير في المستقبل، وطمأنينتهم إلى أن ضعفهم الحاضر سيتحول إلى قوة غالبة منتصرة في المستقبل، كانوا يسمون ذلك غرورا!. [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (الأنفال:49). فالتوكل الحق قرين الجهد المضني والإرادة الماضية، ولم ينفرد التوكل عن هذه المعاني إلا في العصور التي مُسِخ فيها الإسلام، وأصبح بين أتباعه لهوا ولعبا.
ومما يجعل المسلم قويا أن يبتعد عن حياة الخلاعة والفجور، وأن يألف مسالك النزاهة والاستقامة، فإن الرجل الخرب الذمة أو الساقط المرؤة لا قوة له ولو لبس جلود السباع ومشى في ركاب الملوك. وقد نصح الله قوم هود عليه السلام فأرشدهم إلى أسباب القوة الصحيحة، وكانوا عمالقة جبارين، فقال: [وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ] (هود:52).
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزين الطاعات للناس، وأن يغريهم بأدائها وأن يشرح لهم عظمة الإنسان عندما يفعل الخير، ويراغم الشيطان، ويسمو إلى الملأ الأعلى، فضرب لهم هذا المثل في سياق حديث له، قال: "لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتتكفأ، فأرساها بالجبال فاستقرت، فتعجب الملائكة من شدة الجبال، فقالت: يا ربنا هل خلقت خلقا أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، قالوا: فهل خلقت خلقا أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار، قالوا: فهل خلقت خلقا أشد من النار؟ قال: نعم، الماء، قالوا: فهل خلقت خلقا أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح، قالوا: فهل خلقت خلقا أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم، إذا تصدق صدقة بيمينه فأخفاها عن شماله!" - أخرجه الترمذي.
إن الإنسان هذا الكائن العجيب، يعتبر سيداً لعناصر الكون كلها، يوازن أعتاها وأقساها فيرجحه ويربو عليه، وذلك يوم يكون شخصا فاضلا، ولكنه يُلعن في الأرض والسماء ويرجحه الذر والهباء فضلاً يوم يكون شخصا ساقطا. والمثل الذي ذكره الحديث ليس إلا لإبراز قيمة الرجل المحسن، وتصوير لرسوخه وشموخه عندما يسبق في ميدان الخير.
ويتبع >>>>>>>>>>> العـــــزة وتأكيد الذات