القوة في الحق
الفصل الثامن
نماذج من تأكيد علماء المسلمين لذواتهم في القرون المتأحرة
الحسن اليوسي
كان الإمام العلامة الحسن اليوسي من أكابر علماء المغرب في القرن الحادي عشر الهجري، ومن الأعيان المشاهير حتى وقتنا هذا، وأصله من أحواز فاس. وقد كان الشيخ العلامة اليوسي قد دخل مدينة فاس في إحدى زياراته لها فسمع به علماء المدينة، وكانوا لا يحبون تفوق أحد عليهم من غيرهم، فاجتمعوا باليوسي وطلبوا منه أن يلقي لهم درسا بجامع القرويين، وعينوا له موضوع الدرس الخاص فأجابهم إلى ذلك.
ولما حان الوقت وصعد على منصة المحاضرة واستقر به المجلس وقد التف حوله حشود غفيرة من العلماء والوجهاء، وامتلأ المسجد بالحاضرين على كبره واتساعه، فوجئ عالمنا اليوسي بقارئ يفتتح فيقرأ آية لا صلة لها بالموضوع المعين له، وقد قرأ قوله تعالى من سورة الأعراف [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ] (الأعراف:175). فعرف اليوسي أنهم دبروا له أمرا، وبيتوا له ما لا علم له به، وأنه المقصود بالآية، ولكنه –وهو خريج الزوايا الأخلاقية علما وسلوكا– ملك أعصابه، وافتتح الدرس بحمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على نبيه الكريم، ثم قرأ الآية الكريمة وجعل يتكلم عليها وأسهب في ذكر فضائل الكلب، وأورد له من الأخلاق الكريمة التي يتصف بها ما يربو على الخمسين خصلة، وعند مسك ختامه من الكلام على فضائله قال في النهاية: "غير أنه فيه خلق واحد ساقط سافل مذموم وهو أنه ينبح على الضيف إذا جاء... " وكأنه يقول لهم: "كحالكم يا أهل فاس" ولكنه لم يصرح واكتفى بالتلميح أدبا منه. فاضطر علماء فاس وأهلها إلى الاعتذار إليه واستسمحوه واعترفوا له بالعلم والفضل وأكرموه.
وأذكر من العلماء الأعزة الفضلاء من المتأخرين الشيخ العجيمي والذي واجه شريف مكة في أوج عظمته وأبهته عندما فرض الأخير ضرائبا على التركات:
الشيخ العجيمي
كان الشيخ العجيمي –رحمه الله– من خيرة وكبار علماء مكة المكرمة من قبل القرن الحادي عشر الهجري، وكانت له حلقة دراسية كبيرة، ومع ذلك كان يتعهد المريض والغائب والمسافر من طلاب العلم ويزورهم ويٍسأل عنهم. واتفق أن غاب أحد الطلبة عن الدرس ليلة ما، فسأل عنه فقال زملاؤه: لا ندري سبب غيابه.
وفي اليوم التالي علم أن أباه كان مريضا جدا وتوفاه الله فحضروا جنازته وعزوه، فغاب أيضا أياما، فذهب الشيخ وقال له: ما خطبك؟ قال: إنه لم يكفني موت الوالد حتى جاءت المصيبة الأخرى معه أو بعده، قال الشيخ العجيمي كيف وما هي؟
قال تلميذه: جاءنا مأمور بيت المال يقول إن عليه جرد متروكاته، وبيعها وأخذ نصف قيمتها كما أمر سيدنا لسيدنا، وبقينا في حيرة من أمرنا وكل التركة لا يفي بضرورياتنا وبسداد ما علينا وعليه.
قال الشيخ أتقول جداً؟
قال: نعم.
قال الشيخ مكانك ولا تبرح ولا تسلم شيئا حتى أعود إليك، وصعد إلى داره واغتسل ولبس طيلسانه واصطحب معه تحت إبطه حنوط وكفن، وأقبل على الشريف في قصره، فتلقاه بالترحيب والتكريم كعادته.
فقال له الشيخ: جئتكم لأمر هام جدا، وهو أن فلانا توفي وخلف زوجة وولدا وبنتين وسيدنا.
فقاطعه الشريف: وسيدنا؟ وماله يدخل مع الورثة.
قال: هكذا قال مأمور بيت المال، وفرض أخذ نصف التركة لسيدنا!!.
وأنا الآن أراجعكم في أن هذا الأمر الذي لا يقره الشرع الشريف، ولا يرضى به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن سمعت النصيحة فعد عن هذا الأمر بإلغائه وإلا فإني سأصيح في الناس بالجهاد، ما دام حامي الشريعة ينقضها ويخالفها، وهذا كفني وحنوطي تحت إبطي، وألقى الله وقد وفيت بعهدي وقمت بما أمرني به.
قالوا: فما كان من الشريف جزاه الله خيرا إلا أن بادر في الحال بإلغاء ذلك الأمر، وإعادة ما سبق أخذه من قبل إلى أهله، وشكر الناصح، وقبل النصيحة وأذعن للحق ودحض الباطل، إن الباطل كان زهوقا.
كيف نستخدم روح المرح في تأكيد الذات
عندما يعجز الشخص عن تأكيد ذاته مع ظالم أو طاغية؛ فلا يستطيع أن يواجهه بظلمه وطغيانه، فيمكنه في هذه الحالة أن يستخدم روح المرح أو الدعابة في مواجهة الظالم أو الطاغية؛ ومن المعروف في علم النفس أن استخدام "روح الدعابة" في المواقف الصعبة يُعَد من الحيل الدفاعية الناضجة التي يستخدمها بعض الناس لمواجهة تلك المواقف الصعبة؛ وبالطبع فإن استخدام هذه الحيلة الدفاعية يحتاج إلى سرعة بديهة، وحضور عقلي جيد، مع استيعاب كامل للموقف من معظم جوانبه، والتاريخ الإسلامي يزخر باستخدام روح الدعابة في حل بعض المشاكل الصعبة والمعضلات، فلا يملك صاحب السطوة والبأس إلا التبسم أو الضحك مع تناسيه لغضبه وحنقه على من أغضبه أو أثار حنقه:
بين الخليفة العباسي الواثق بالله ونديمه وفتنة خلق القرآن:
يُحكى أن الواثق بالله كان له نديما يسليه و يضحكه يدعى "عبادة"؛ فدخل "عبادة" على الخليفة قائلا له: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين -وهي عبارة تقال عادة عند التعزية في عزيز- فارتاع الواثق لتلك المفاجأة من نديمه، وقال الخليفة: من توفى لا أم لك؟
فقال له النديم: القرآن توفى؛ أعظم الله أجرك في وفاة القرآن!!!.
فضحك الواثق - وكان قد شاع مناظرة الشيخ الأذرمي لابن أبي دؤاد؛ وإفحامه إياه بالمنطق والعقل- وقال الخليفة الواثق بالله "لعبادة": وهل يتوفى القرآن، لا أم لك؟!.
فقال له "عبادة"، ألم تجعلوا هذا القرآن مخلوقا؟!!، وكل مخلوق لابد وأن يتوفى يوما ما!؛ وبم يصلي الناس التراويح الآن؟!!.
فقال له الواثق: قاتلك الله أمسك!.
لقد قال "عبادة" كلمة الحق في صورة دعابة، ألا ترى معي أن "عبادة" قد عبر عن رأيه، وأكد ذاته؛ بنكتة مضحكة للخليفة، أدت إلى حالة من العصف الذهني للواثق بالله، والذي توقف تماما بعد هذا الموقف؛ و موقف الشيخ الأذرمي وإفحامه لشيخ المعتزلة "ابن أبي دؤاد"؛ عن اختبار علماء الأمة بهذه الفتنة المؤلمة، والتي راح ضحيتها الكثير من علماء الأمة.
ومن أمثلة استخدام روح الدعابة من جانب بعض البسطاء من عامة الناس وبين بعض الحكام المتسلطين على عباد الله الضعفاء، حيث نجد أن بعض البسطاء قد ينجون من السجن أو الموت أحيانا؛ نتيجة لحضور بديهتهم واستخدامهم لروح الدعابة مع الظالمين:
بين "باجو" وشريف مكة:
ذكر جماعة من أهل الحجاز أن رجلا يسمى "باجوه" في حدود عام 1330 و 1333هـ، قالوا أنه استدان مبلغا كبيرا مقسطا ولم يتمكن من السداد في حينه، وذلك في أواخر عصر إمارة الشريف عون الرفيق – رحمه الله. ولم يجد حيلة إلا الشكوى إلى الشريف بعريضة كانت عباراتها مؤثرة جدا، فأرسل الأمير المشار إليه جنوده إلى الشيخ "باجوه" فأحضروه في زفة عرف أهل الشارع ما وراءها –وهو الجلد- وأحاط به الغلمان وهو في شبه ذهول من الفاجعة. فلما أدخل على الشريف في مجلسه حملق فيه وردد البصر في وجهه كرتين، ثم قال له: يا ولد لماذا لا تسدد دينك وتماطل في آدائه؟
فقال باجوه: يا سيدنا أطال الله عمرك. فرج الله قريب، وأرجو أن يمنً علينا بموسم طيب و نسدد إن شاء الله.
قال الشريف: إيش تقول؟ وما هي علاقتك بالموسم والحجاج؟ (وكان الشهر شوال في ذلك الوقت)
قال: يا سيدنا لا بد أن الله يرحمنا ويرزقنا ويكون عملنا فيه ناجحا وربحنا كبير.
قال الشريف: إيش حرفتك أنت؟
قال: قبوري (يدفن الأموات)
قال الشريف: أما عجيب، أتتمنى للناس وللحجاج الموت؟ وتحب أن تقع شوطة في البلد، والا إيش؟ أعوذ بالله منك ومن جماعتك!!. وصاح بجنده أن يأخذوا به إلى السجن ولا يطلق حتى يدفع ما عليه للدائن.
وانتقل باجوه مستدبرا إلى الباب وحوله من يغله ويدفع به إلى السجن، وكان في استدباره يدمدم بكلمات لا تكاد تفهم، وهي بين السر والعلانية.
فصاح بهم الشريف: أعيدوه، وسألوه ماذا كنت تقول الآن؟ (لأنه فهم أنه يشتمه ويسبه).
فقال: عفوك سيدنا أنا ما قلت شيئا أنا بس عمًال ألعن "عُبيد الله بن زياد"، (عبيد الله بن زياد: هو قائد الجيش الأموي الذي قتل الحسين بن علي و أتباعه في موقعة كربلاء، ولم يبق من آل بيت النبوة من الذكور إلا طفل واحد هو علي زين العابدين بن الحسين عليهما رضوان الله، والذي يُعد الذكر الوحيد الذي بقي حياً من آل بيت النبوة بعد موقعة كربلاء)
قال الشريف: لماذا تلعنه؟ (الشريف عون من نسل علي زين العابدين)
قال: أقول الحق والا أنافق؟
قال: لا، قل الحق.
قال: والله إن الناس يلعنونه لأنه أفحش فيكم التعذيب والقتل، ولكنني أنا ألعنه لأنه –لا رحمه الله– ما استأصلكم مرة واحدة بل ترك فيكم بقية تفعل فينا ما تشاء وتظلم عباد الله الضعفاء أمثالي؟
وهنا تحبك النكتة، فيضحك الشريف عالياً ويقول: إننا مكافأة لك على صراحتك وتفريجا لكربتك نطلقك ولا نشق عليك، على أن تسدد دينك حين ميسرة، ولكن بدون انتظار موت حجاج بيت الله الحرام!!. وأخذ يداعبه معجبا بما أعلنه من ذات نفسه ومقدرا أنه ما قال ذلك إلا من ضنك وعسر. وخرج ناجيا بنفسه من قصر شريف مكة، وأخذت الحكاية مجالها في كافة الأوساط والمجالس والمقاهي والحارات بمكة المكرمة.
العـــــزة وتأكيد الذات:
قال الله تعالى [....... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...] (المنافقون: 8)
عزة الله هي عزة الربوبية، وعزة الرسول هي عزة النبوة، وعزة المؤمنين هي عزة التلفظ بكلمة "لا إله إلا الله"، ثم كما أن عزة الله وعزة رسوله لا يقبلان الذل فكذلك عزة المؤمنين لا تقبل الذل؛ ولذا فإن محافظة المؤمن على احترام حقوق أخيه من فرائض الدين، وهذا مما ألح عليه النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من موقف في حجة الوداع: "كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، أشد من حرمة يومكم هذا في موقفكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
ولله سبحانه عزة الإنشاء والتكوين، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ](يس: 82 )، وللرسول عزة الدنيا حين أشار للقمر فانشق ببركة دعائه، وللمؤمنين عزة الإيمان والشهادة. ثم إن الأشياء تكونت عند قوله "كن"، والقمر انشق عند دعاء الرسول، فنرجو أن يحل الغفران والرحمة للمؤمنين عند نطقهم بالشهادتين.
عز المؤمن في أن قيده معرفة الله، ورصيده الجنة، وعيده الرؤية، فإذا كان للعبد المؤمن رب كاف وكتاب شاف ورسول واف، لسانه شاهد الله ونفسه طالبة مرضاة الله وقلبه محل نظر الله وسراجه معرفة الله وشهادته محبة الله وبصيرته مشتاقة إلى رؤية الله، فحقيق أن يكون عزه متصلا بعز الله. ومن يعزه الله لا ينبغي لنا -نحن البشر- أن نحقره، وأذكر هنا القول الجميل المتواضع للأمام الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم لعلِّي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواءا في البضاعة
ووالله إنه لمن الصالحين، ولا نزكي على الله أحدا نحسبه كذلك!!.
لذا عليك أخي أن تحترم "تأكيد ذوات الآخرين"، أو بلفظ أبسط "أحترم حقوق الآخرين"، وفي نفس الوقت عليك أن تحترم ذاتك، وإلا فعليك أن تراجع إيمانك.
لله العزة سواء أوجد أو أعدم، وللرسول بالولاية سواء بلًغ أو سكت، فكذلك المؤمن له العزة سواء أطاع أو عصى....
لله العزة بالولاية لقوله [إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ] (الأعراف: 196)......
وللرسول بالولاية أيضا لقوله [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ...........](الأحزاب:6).
وللمؤمنين العزة أيضا بالولاية لقوله [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ.......] (التوبة:71 )......
ولله العزة بالعلو والعظمة لقوله [..... وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ](البقرة : 255 ).......
وللرسول بالرفعة لقولــــــه [ورفعنا لك ذكرك] (الانشراح، الآية 4 )............
وللمؤمنين بالقبول والرحمة لقوله "إن الله يغفر الذنوب جميعا"(الزمر، من الآية 53).
و لله عزة الاستغناء "والله الغني وأنتم الفقراء" (محمد، الآية 38 )......
وللرسول عزة الإغناء "ووجدك عائلا فأغنى" (الضحى، الآية 8).........
وللمؤمنين عزة الإغناء "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته" (النساء 130).
ويتبع >>>>>>>>>>> حدد غايتك في الحياة