بعض الناس يستهجن حُكمَك على كلام معيّن أو نظرة معيّنة للأمور. والسبب هو استغرابه من تنميطك السريع لمبتغى الكلام، ممّا يُعطي عنك انطباعا أقرب للتعجرف والاستعلاء والجهالة! وهنا سأنبّه بعُجالة إلى أمر يجهله أمثال هؤلاء.
- بعض الأسباب في تقديري هو أن المعرفة تتشكل عندهم شذَرات دون تأطير ولا منهجية معيّنة (لا يهمّ السنّ)... فقد يكون الاستحسان عندهم هو المؤدّي إلى القراءات والأحكام، فإذا استحسن فكرة أخذ بها، ثمّ قد يأخذ بفكرة مضادة لها تماما مع غفلته عن ذلك التناقض، لغياب نسق فكري أعمّ يتم تأطير كل فكرة داخله.
وواضِح أنّ الخلْط بديهيّ وتلقائيّ عِندهم بين "المعلومة" و"العلم" وبين "المعارف" و"المعرفة" فعندما يتكلمون مع من تشكّلت له معرفة محترمة في مجال معيّن أو كان له منطق ممتاز يختبر به الأفكار، يصطدمون مع نسق مختلف عنهم تماما في تقييم "الفكرة" وإخضاعها للمحكّ العقليّ... فيستغربون "المجازفة" في رفضها أو نقدها بتلك السهولة.
وكل ما في الأمر أنّهم يُساجلون فقط "بمعلومات" كل واحدة تصبّ في قالب عموديّ، وليس بعلم ذو رؤية أفقية، وبالتالي أكثر شمولية ووعيا بجذور تلك الفكرة وتبعاتها وامتداداتها... أو قد يكون منطقهم غير مُتَماسِك ولَـم يبلُغ نُضجا يخوّله نسْج كل الخيوط المعقدة للموضوع. ولهذا يَـرى أنّ نقدك متسرّع للغاية ودليل على ضيق الأفقْ، ولا يُدرك العلاقات الخفية التي يتمتّع بها العلم (ويُمتّع بها)، وتضُمّها المعرفة، في حين تعجز معلوماتُه عن ملامسة بعضها، وتقتصر معارفه على "كيان" تحسِبه جميعا وهو شتّى! ونسيَ أن الخبرة قد تطوي المسافات وتقصّر المطوّلات... فمن هو ضيّقُ الأفق ؟!
- المشكلة الأخرى هي غياب قراءات أو تأملات في الأسئلة الفلسفية الكبرى وما ينضوي تحتها من نظريات وعلوم، وأيضا تاريخ الفكرة ومنشأها (ولو بشكل نسبي) الذي يعطي وعيا ممتازا بتطور الفكر وانبعاثه وأسبابه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وأجمل ما في هذا الوعي هو عدم الانبهار بالفكرة مثالية ومجردة عن كل سبب أو تقلّب أو تجاوزْ. فمن وعى الأسباب والملابسات صار أكثر موضوعية وأقدر على تجنّب الغلط القبيح في إسقاط ما لا يُمكنُ إسقاطه على الواقع الخاص به، أو التشبّث بفكرة لا تستحق منه كل ذلك الحرص...
وبهذا الوعي، يمكن استيعاب أيّ نقد للفكرة، فلا تعصّب، ولا تمجيد، ولا عاطفية في التبنّي لأن الإيمان بها ليس نابعا من حاجة نفسية فقط... أو لأن العمل بها يقلّل من خجله أو توتّره أو يعطيه فرصة "ثورية" على بعض مشاكله ! وربما تطبطب على نظرته الرومانسية للعالم ومشاكل البشر رغم خطأها... وبهذا النقد تنتقل المعركة من "ميول ضد ميول" إلى "فكرة ضد فكرة" وأيُّ الأفكار انتصرت بعد التمحيص فرحنا بتتويجها ولا ضغينة !
- أحيانا تكون الفكرة أو الرأيُ محلّ الخلاف جزء من منظومة أكبر، يبقى الرأي دونها بريئا للغاية، فلا غَـرْوَ أن يدافع عنها ذاك "الطيّب" ويعتبرك متخلّفا تجهل في الذوق والفنّ وحوار الحضارات! والحقيقة أنّ تنعّمه نابع من حبّه لزهرة الشجرة، ورمي كلّ أثقالها من فروع وجذور وجذوع! فهو لا تهمّه إلا رائحة الزهرة ولونها الجميل، أما أصلُها وطبيعتها والثمرة التي تُنتج... فإلى الجحيم.
وهذا يحدث في الأخلاقيات والمذاهب الفلسفية والدينية كثيرا. فانعدام الوعي بالجماعات والمذاهب وفكرهم كاف لِصُنْع أعداء شرسين لمذهب خيّر، أو أنصار متعصبين لمذهب هدّام! والسبب كما أسلفنا؛ زهرة جميلة على شجرة سامة، وأخرى باهتة اللون قبيحة على شجرة نافعة (الإعلام يركّز على إظهار الزهور فقط في تسطيح وتقزيم متعمّدين للمشكل الحقيقي)
- القراءة مُمتعة لا شك، والكل متفق حول هذا إلاّ الأطفال, ولكن بأي اعتبار تُؤخذ هذه المتعة ؟ هل هي متعة معرفة الجديد أو تبنّيه ؟
فمعلوم أنّ متعة معرفة الجديد لا تُعارض رفضَه. إلا أنّ هذا النوع ربما يرى المُتعة في "مصداقية ما يقرأ" ! فالأفكار الغريبة والعلوم الزائفة والمقاربات الرومانسية والتفسيرات غير المألوفة... كل هذا يحفّز متعته متبنّيا ومدافعا عن هذه الأفكار ويلعَن من ينهاه عن تصديق ذلك ويرى أنّ ما يقوم به هو "تسامح وتصالح مع الثقافة" وانفتاح على الجديد المفيد!
طبعا النقد لن يفيد معه البتّة، كيف وهو لن يستطيع معك صبرا، وهل يصبر على ما لم يُحِط به خُبرا !؟ (فالحِلم...) ثمّ الحذر من تبديد الطاقات في نزع فكرة تظنّ أنّ نزعها يشكل نضجا فكريّا له (وهو كذلك) إلا أنّ ضريبة النضج هي عودته إلى وضع كرِهه طول حياته: تضييق على رأيه في الأسرة، حمله على اعتقاد غير مقتنع به، تسفيه اختياراته... أو ميوله لخيالات محبوبة... فيأخذ النقاش عنده طابعا وجوديا (وأنت غير منتبه) وينقلب "نقدك الفكريّ" إلى "تقريع تربويّ" قد سئمه ويعزم على التمرد عليه. فلا عجب أن تجِده عدوانيّا بشكل غير مفهوم (حتى عنده ربّما)
وهذا الموقف لا تكون فيه الفكرة أو المذهب سوى طفيليّ يعيش "تكافلا حيويّا" symbiose مع شيء أكثر أهميّة منه: "الحاجة النفسية والاجتماعية"! (من أجل هذا وغيره عملية الإقناع والإصلاح أصعب من الاقتناع والصلاح، لعدم تشابه الحاجيات، وتوهّم تصدير نموذج "تكافليّ" ناجح دون النظر لظروف الآخر) وهذا يسير بنا نحو شيء نفتقده كثيرا للأسف: التفهّم قبل محاولة التغيير
- غياب نموذج "موحّد" للتفكير والنقد (ولا أقصد الأدلجة هنا، بل النسقيّة)، على شاكلة بذور اللقاح، الرياح تتكفّل بنقلها دون أن تختار مسارها... وكثير من هذا راجع لانعدام أو ضعف الأدوات العلميّة، فلا اشتغال على منطق الاستدلال أو الاستنباط، غياب تامّ للرجوع إلى قواعد العلم التي وضعها المختصون، (السوبرمان ذو التأملات التي تفوق كل علم أو قواعد! وهذا يكثر في المواضيع الدينية في خلط رهيب بين التديّن (كحق متاح) وبين العلوم الدينية (كبحر لُجيّ)) [ومن جهة ليس كلّ تأمّل خاطئ دون قواعد!]
وعندما تغيب القواعد العلمية، تصير "ساحة الفكر" كساحة مدرسة يلعب فيها أطفال مصابون باضطراب فرط الحركة وقلة الانتباه TDAHـ (eng:ADHD)... وهذا ليس كلّ شيء، الظريف أنها مدرسة وتعلّمٌ وعلمٌ... يعني في مثال صاحبنا تحرّر من القيود مع شعور بأنه "في مدرسة عظيمة ومعهد علميّ"... المهمّ لا إشكال في غياب هذه القواعد مع الاعتراف بذلك. الإشكال الحقيقي هو التفاخر بغيابها أو الطّعن فيها دون معرفتها حتى ! (من قبيل: يجب غربلة التراث (وهذه دعوة محترمة) ولكن المشكل أنه لم يقرأ منه حرفا!)
* منشور كئيب ومتعجرف ؟ طيّب...أولا أنا أصف دون ادّعاء شيء ، ثانيا، أبشّركم أنّ كل هذه الآفات التي ذكَرتُ ضرورية في عملية النضج الفكريّ، ولا أحد يولد عارفا. فسيرورة التعلّم لا تستغني عن الخطأ أبدا، فالخطأ وجه آخر للصواب، وتجنّبه يعني معرفة الصواب. بل إنّ تجاوز مرحلة قبلية (بطريقة أو أخرى) قد يؤخّرها فقط ولن يكون استغناء حقيقيّا عنها. والآفة هي استمرار الآفة.
- كل ما قلته لا يصبّ في نسف هذه المظاهر من على وجه الأرض! فهي باقية ما بقينا. لكنّ القليل من تقبّل الآخر والحلم معه من جهة الأعلم، يكفي لمرور المراحل بسلام. والقليل من الاحترام وغياب الدوغمائية من جهة مثالنا أيضا.
- الفكر المبعثر وتبني الممتع دون المفيد قد يكون عاديّا في سياق "تجربة أدبية إنسانية وشاعريّة". لكن قد يخلق مشكلة في الأوساط العلمية والفكرية والتي لسوء الحظّ أو حُسنه.. لها اليد العليا على حلّ نزاعات من نفس طبيعتها...
- الصّواب وإن كان يتولّدُ في نسق معرفي متماسك، فلا يعني أنّه حكر عليه أو مستحيل تكوّنه عند من يفتقد المعطيات السالفة الذّكر (وجب التنبيه)
- الاستماتة في نصرة رأي والدفاع عنه مع وعيْ صاحبه بأن استماتته تدخل في تحيّزه لتصور أكثر عمومية (العلمانية، المحافظة، المؤامرة...) يضعُنا أمام شخص واع متّسق مع نفسه وتوجّهه. إلا أن النسق الداخلي لا يعني صحّة الفكرة مجرّدة (وقد يعني صحّتها، مثلا في نظام العقوبات الذي يكون مبرّرا في سياق العنف والاعتداء، وغير مبرّرا خارجَه)
ودُمتم ودمنا متعلّمين..
واقرأ أيضًا:
خطيب الجمعة والانتحار / العبادة في رمضان