وبالفعل عرض البروفسير عبد الله السبيعي نتائج الدراسة التي اتضح أنها أضخم كثيرا مما تخيلت وأنها ما تزال مستمرة وأظهر ما أثبت كثيرا من الانطباعات الموجودة عندي وغيري من الأطباء النفسانيين، فمعدلات انتشار الاضطرابات النفسية خاصة العصابية بين مرضانا ليست مماثلة لما أظهرته الدراسات على المجتمعات الغربية وإن تشابهت المعدلات في الاضطرابات الجسيمة والتي تعلو مساهمة الخلل الكيميائي أو التركيبي الدماغي في تسبيبها مقارنة بالعوامل المسببة الأخرى، بينما تعمل العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية دورا أكبر في الحالات النفسية والعصابية .... الأهم من النتائج كان حجم الجهد والعمل والتعاون بين عدد كبير من المؤسسات والهيئات فضلا عن تعاون الأسر والأفراد والذي فصلت في إيضاحه د. ياسمين التويجري وهي تعرض منهجية البحث وطرق الإحصاء وكيف توزع مساعدو الباحثين في أرجاء المملكة وكيف كان تعاون الأفراد والأسر معهم مخالفا للتوقعات وباعثا للأمل ومؤكدا في نفس الوقت نجاحا -غير مسبوق- لتأثير برامج التوعية الصحية النفسية الموجهة لسكان السعودية...... كان مهما أن أثني على مثل هذه الدراسة التي نتمنى أن تتوسع أكثر وأن يجرى مثلها في كل بلادنا العربية.
انتقلنا بعد ذلك إلى استراحة القهوة وكانت المفاجأة الآسرة لي في ذلك اليوم هي معرض الفن التشكيلي الذي كان في الطابق التحتي من مكان انعقاد القسم العربي من المؤتمر، احترت بين الإمساك بفنجان القهوة وبين تصوير اللوحات وصورت أغلبها ورفعته بالفعل على مجانين -ودون استئذان... نظرا لغياب الفنان- وكل اللوحات المعروضة كانت لإناث ولم أتمكن من سؤال د. أحمد الهادي سهوا عن من هن الفنانات؟ هل هن منتميات لجمعية فنية ما؟ .. بالنسبة لي معرض لوحات في السعودية أمر غير متوقع فإذا هو ابتكار ثانٍ لهذا المؤتمر الذي يتكرر للمرة الثالثة، لقد تغيرت السعودية كثيرا .... تجاه أشياء كثيرة منها الرسم ومنها الموقف من الطب النفسي ومنها الموقف من انفتاح المرأة على المجال العام وتواجدها جنبا إلى جنب مع الرجل .... وإذا المرأة السعودية كغيرها من النساء منذ عقد من الزمان أو يزيد تتفوق على الرجل.....
لا أدري لماذا كنت متعجلا في تصويري للوحات حتى أني عندما راجعت ما صورت على المحمول وجدت أني بحاجة لأخذ لقطة أخرى أفضل ... ولذلك عدت إلى القسم العربي بعد انتقالي إلى القسم الإنجليزي من المؤتمر وتأخرت لهذا السبب عن حضور البحث الذي قدمته نائبة من الطالبات عن مجموعة تشارك في الإشراف عليها زميلتي في القسم بطب الزقازيق د. إيمان سليمان والتي تعمل الآن بجامعة الأميرة نوره والتي كانت من أهم ما لاحظت على الطريق من مطار الرياض إلى الفندق، وإيمان واحدة من مستشاري مجانين المهمين رغم أنهم كسالى .... الحقيقة أني وصلت في منتصف البحث عن تقييم البدانة والحمية والنشاط الجسدي وصورة الجسد بين طالبات جامعة الأميرة نوره بنت عبد الرحمن.
كان علي بعد استراحة القهوة الثانية أن ألقي محاضرتي عن التواكب المرضي بين الوسواس القهري والرهاب الاجتماعي وهل هو مجرد تواكب، وهي محاضرة بالإنجليزية عن رسالة دكتوراه أشرفت عليها وكنت قد ألقيتها من قبل في مؤتمر الأردن الأخير لاتحاد الأطباء النفسانيين العرب وكانت ختام اليوم الأول للقسم الإنجليزي للمؤتمر... وللأسف كان يوازيه في القسم العربي محاضرة عن العلاقة بين الوقت المنقضي على الأجهزة الكفية واضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة في الأطفال.... كنت أتمنى حضوره ... لكنني ألقيت محاضرتي وأجبت الأسئلة بعدها... ثم بعد انتهاء المحاضرة جلست أنا وإيمان نتحدث عن الأبحاث التي تشاركني فيها... ثم صعدت إلى غرفتي في السادسة مساء لأستعد لحفل المساء في الثامنة.
سبقت محاضرتي محاضرة للبروفسير الكويتي عثمان الخضر عن التفسير السيكولوجي للعنف المسلح وكان طرحه عن الإرهابيين جديدا ومتميزا وينم عن خبرة طويلة في العمل في هذا المجال، ثم تلتها بعد استراحة قهوة قصيرة جلسة فيها محاضرتي وسبقني الدكتور ياسر الدباغ في محاضرة بعنوان : "نظرة تاريخية ومجتمعية حول العلاج النفسي بالمملكة العربية السعودية ود. ياسر مستشار في التحليل النفسي ! Psychoanalysis هذه كانت مفاجأة أخيرة في هذا المؤتمر ... لم أتوقع أن يتخصص سعوديون في التحليل النفسي ! ... لكنني عرفت من حديثه أنه يمارس العلاج بالتحليل النفسي بالفعل، ... كان علي بعد إلقاء محاضرتي أن أكون جاهزا خلال ساعة للانتقال إلى المطار للسفر إلى القاهرة..... وصعدت إلى المنصة أقدم المحاضرة ...وقدمت أمثلة من الواقع العملي مع المرضى ومن الخبرة التي اكتنزناها من مجانين... ثم أنهيت في موعدي وإن اضطررت للاستعجال في آخر شريحتين... وحقيقة كانت التعليقات والاستفسارات عميقة ومفيدة ومثلجة للصدر، ..... ولولا أني على عجل كان يجب أن أكون لبقيت فترة أطول مع المستفسرين.
بعد ربع ساعة بالضبط كنت جاهزا في استقبال الفندق .... وأنا أستشعر بدايات الإنفلونزا التي لا أدري أمن مصر راحت معي وانتهت فترة الحضانة في الرياض؟ أم من الرياض أخذتها وجاءت معي إلى مصر؟، وفي الطريق إلى المطار رحت أسترجع ما عايشت على مدار يومين دسمين علميا وثقافيا، وشعرت بضرورة الكتابة عن مؤتمر ترك أثرا عميقا في نفسي وأثار أسئلة علمية وأخرى بشأن حال تخصص الطب النفسي ولم أكن أعرف متى سيكون ذلك ممكنا، وفي استراحة الفرسان بالمطار التقيت الدكتور عثمان الخضر مسافرا إلى الكويت وتناولنا غذاء خفيفا معا وتجاذبنا أطراف الحديث عن أحوال أمتنا النازفة من كل جهة وتعاهدنا على استمرار التواصل بعد المؤتمر.... وتركني البروفيسور لأن موعد طائرته كان قبل موعدي بنصف ساعة، .... تسليت قليلا بمطارعة موقعنا مجانين دوت كوم على أحد أجهزة الحاسوب في القاعة حتى سمعت النداء الرحلة فقمت لركوب الطائرة .... وعندما وصلت إلى مصر كانت أعراض البرد قد بدأت في الاشتداد وبقيت أشعر بضرورة الكتابة ولما أستطع، لكنني وبعد أسابيع من العلاج والتعافي وجدت الفرصة أخيرا للكتابة وإن جاءت الأخبار متأخرة أو بايتة كما نقول في مصر.... وإلى لقاء آخر في مؤتمر طبنفسي جديد.
واقرأ أيضًا:
مؤتمر دمشق لأطباء النفس العرب (3) / سارة وأخواتها في المؤتمر، ما شاء الله / مؤتمر حوار الحضارات
التعليق: من نجاح إلى نجاح يا أستاذ وائل :)