لابن الجوزي كتاب بعنوان "تلبيس إبليس"، وفيه يتناول موضوعات متنوعة ذات صلة بالدين ويفندها بمنطق سليم، ويَعزوها إلى أنها من نتائج تلبس إبليس بأصحابها، والتلبس بمعنى الاستحواذ وامتلاك البصيرة ومصادرة العقل وتأجيج العواطف والانفعالات والإقامة في منحدرات الضلال والبهتان، وفي حقيقة ما يريد قوله أن إبليس قد انتصر على هؤلاء وغرر بهم وأخذهم إلى مآخذ معادية لأنفسهم ولدينهم.
وخلاصة ما تصدى له ابن الجوزي أن البشر يتخذ من الدين سبيلا أعوجا، ويمضي في دروب الخسران، بإنشاء الفرق والجماعات والفئات والتحزبات والحركات، والاعتقاد العجيب الغريب بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، حتى لتجده وكأنه يقول لك، انظر جنون العقل البشري وسوء نواياه ونتانة محتواه!!
فما يتطرق إليه من توجهات وآليات تفكير تتحكم بالذين انشقوا عن الدين وتوهموا بأن الحقيقة الكبرى عندهم، وحسبوا مواقفهم وسلوكياتهم ومعاييرهم وترجماتهم وتصوراتهم وما يرونه صحيحا وعين الحق، حتى وكأنهم يترجمون بأصدق ما تكون عليه الترجمة السلوكية منطق "دينهم هواهم".
فإبليس المتلبس بالعقول هو النفس الأمّارة بالسوء المستفحلة المتسلطة الفاعلة في دنيا البشر، والتي تأخذهم إلى حتوفهم بعد أن تصورها لهم على أنها غير ذلك تماما، اي أنها تخدعهم لتقتلهم وتفنيهم وهم لا يشعرون.
هذه النفس حالما تنتصر فإن ما نسميه إبليس هو المنتصر، وما إبليس إلا هيّ!!
قد يقول قائل أن هذا الطرح غريب، لكن الواقع السلوكي البشري وعبر العصور يؤكد أن ما نكنيه بإبليس هو النفس الأمارة بالسوء، وهي التي تحقق إرادة الأهواء السيئة المتلجلجة في الأعماق البشرية.
وابن الجوزي في كتابه هذا يشير إليها بصورة غير مباشرة، ويحسبها إبليسا المتلبس بالأفراد والجماعات، وهذا الإبليس موجود في جميع المخلوقات وخصوصا المخلوق البشري. فالرحلة مع تلابيس الأباليس في عقول ونفوس الخلائق الآدمية، تقدم وصفا رائعا مروعا لما يعتمل في دنيا البشر من نوازع ومطمورات وخفايا ومستورات، تتكيس في أوعية متنوعة لتبدو على غير ما هي عليه، حتى لتنفجر ذات برهة تواتت فيها الظروف، وتجمعت الوسائل الكفيلة بتحريرها من الانضغاط التكيسي، الذي أهّلها للانطباخ والتخمر والنضوج والاستعداد لتحقيق أقصى قدرات الانفجار الدخاني الطباع والمنطلقات، فتحيل ما حولها إلى ظلام دامس، وتجسد مسيرة الانفلات النوازعي والتطلع التوحشي، الكفيل بإرضاء ما اختبأ فيها من السيئات والآثام والخطايا والموبقات.
ويبدو أن الأعماق البشرية ذات أهلية عالية لاندلاق سوئها ورضوخها لأمارة الأسوء التي فيها، لأنها تمنخها لذة كبيرة، وتمدها بطاقات الشعور بالقدرة على امتلاك تقرير مصير الموجودات من حولها، وهي تسعى للفتك والتعبير عن غرائز الفناء.
ورحلة ابن الجوزي في تلابيس الأباليس تكشف لنا تنوعها وتماثلها في المبتدءات والخاتمات، وتتشابه منجزاتها وآلاتها، وكأن التتار قد تعلم مما سبقه من السلوكيات، التي تتخذ من الدين وسائل ومرتكزات للقيام بأبشع ما يمكنه أن يتحقق بفعل البشر المخمور بالبهتان.
فهل أبلسَ إبليس أم تلبّس؟!!
وهل أن المُتلبس هو المنتصر؟!!
ويبدو أن إبليس ابن الجوزي قد انتصر علينا، ولابد لنا من العودة لكتابه لكي ننتصر على أباليس هذا الزمان الذي يقوده ألف إبليس وإبليس مُستعرب ومُستضرب!!
واقرأ أيضاً:
الموت بتخمة التحليلات!! / ما قبله وبعده وما سيأتي كمثله!! / حوار مع القلم!! / أمة بلا فِكِر, أمة بلا ذِكِر!!