أسلوب تفكير أولي يفعل الكثير من الويلات في عالمنا الصاخب الأيام، فعندما نقترب من الوقائع والأحداث والمستجدات وعلى مختلف المستويات، بهذا المنظار ذي العدستين المشوهتين، لا نرى من خلاله شيئا واضحا، لكننا نحسب بأننا قد رأينا ما رأينا، ولكن الذي رأيناه ليس واقعا أمامنا بل قائما في داخلنا.
ويبدو وفقا لمفهوم إما وأو الصلب السميك الجدران، أننا نسجن الحياة في حفرتين مظلمتين ظالمتين، لا يمكن لنور العقل والمعرفة والإدراك أن يدخلهما ليجعلنا نرى أكثر، ونفهم أبعد من محيط نقطتين بلا معنى أو مغزى. فالعالم بناءً على عيون إما وأو المصابة بضعف النظر، يكون أما أسودا أو أبيضا ولا لون آخر بينهما.
ولو عدنا إلى هذا المنطق الأولي في التفكير، لرأيناه قائما في المخلوقات الابتدائية في سلم التطور والارتقاء الحياتي على وجه الأرض، ويكون عندنا في زمن الطفولة الأولى، حيث لا نعرف كثيرا سوى الجوع والشبع ونقرن الأشياء بهما، فإما أنت جيد ومفيد لأنك تطعمني أو أنت شرير وضدي لأنك تجوّعني.
فقد ولدنا من عنصرين متفاعلين، وتحقق فينا اندماج ثنائي لجينات مختلفة وبمناصفة خلقية خاصة، فالصيرورة الثنائية في لحظة كينونتنا الحية، تتحرك لتحقيق مسارات اقترابنا وتفكيرنا وتفاعلاتنا مع الحياة.
لكن هذه الثنائية تتفاعل وتصنع حالة الإنسان الذي تم بناؤه وتمازجت أعضاؤه بتفاعلاتها الحيوية، فالخلق يبدأ باندماج لخليتين نصفيتين في الظلماء، ومن ثم يتحقق الانقسام والاختلاف وتفاعل ذلك لبناء عمارة الإنسان ببدنه وعقله ونفسه وروحه.
ووفقا لهذا فنحن لابد أن نمتلك الإمكانيات الفعلية والفكرية، التي تعبّر عن تفاعل الاختلاف وامتزاج الأفكار مثلما حصل لنا في رحلة التكوين على مدى تسعة أشهر متنامية ونشطة في بناء معالم هيأتنا الشاملة.
ويبدو أن المسافة بين النضج البدني (الفسيولوجي والبايولوجي) وبين النضج الفكري والنفسي قد تطول أو قد تتعرض للعوق، فترى بشرا ناضج الأجسام لكن نضوجه النفسي والعقلي قد تأخر كثيرا عن ذلك، برغم أننا نمر بمراحل النمو والتطور المعروفة من الطفولة إلى البلوغ، لكن يبدو أن في بعض المجتمعات هناك أسباب ومضادات لا توفر الظروف الصحية والنفسية والفكرية اللازمة لنضج التفاعلات العصبية في أعماق الأدمغة البشرية، ولا تسمح بتحقيق الارتباط العصبي السليم، الذي يوفر الوسائل الضرورية للتفاعلات الصحيحة ما بين مراكز الحس والإدراك الدماغي، مما يدفع إلى فقدان الآليات والأدوات اللازمة لبناء القدرات المفيدة لتحقيق الحياة المطلوبة.
ومن هنا فإن هذا الضرر الذي يلحق بالأدمغة البشرية هو الذي يساهم بإصابتها بسلبية التفكير، لعجزها عن التلقي الواضح والاستجابة الصحيحة في تفاعلاتها مع المحيط الذي حولها، وهكذا نراها قد تخندقت في ثنائية تعيق قدراتها على التقدم والنماء.
وكلما تطور البشر ونضج بسلوكه وصناعة وجوده الاجتماعي الحضاري المعاصر، كلما تخلص من ثنائيته المريرة، وانتقل إلى مستويات متقدمة في التفكير مستحضرا آليات التفاعل الشامل والواعي مع المحيط الذي يكون فيه.
ومصيبة أي مجتمع أو حضارة تكمن في السقوط في مأزق إما وأو، وهكذا نجد غياب اقتراب إما وأو في المجتمعات المتقدمة، وتأكده وتناميه في المجتمعات المتأخرة التي تفرض التأخر وتمنع التطور، وتلغي المسافات بين الألوان وبين الضوء والظلام، لكي لا تفكر أبعد من الظاهر البسيط، فالضوء بلا لون، ولا يمكن أن يكون بسبعة ألوان مختلفة تفاعلت وتخلصت من لونها لتصنع الحياة التي تعبر عن ألوانها الرائعة بأسلوب عظيم.
ونحن نرى الألوان بسبب تفاعلها الخلاق الذي أنجب ضوءً صنعته بتفاعل لا يريد الكثيرون أن يرتقوا إليه، بل يرغبون البقاء معزولين واهمين ومدثرين بوحشتهم وأنانيتهم وعدم ألفتهم وارتقائهم، فلا يرون أنفسهم ولا الآخرين من حولهم، لأنهم لا يعرفون صناعة الأضواء الحضارية، التي تظهرهم وتجعل الحياة تأنس بهم وتتمتع بإضافاتهم الخلاقة.
وحضارتنا لم تتعامل بمنهج إما وأو، بل إنها تفاعلت مع جميع الألوان وأكثر ولهذا فهي حققت وجودا متواصلا وغير مسبوق في الأرض، إذ استمرت مشرقة منذ الهجرة للمدينة وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
فأين تلك الروح المنيرة التي أطلقت أضواء الحضارة والفكر والحياة؟
ولماذا أطفأنا تلك الأنوار الوضاءة وانحسرنا في آبار إما وأو؟
سؤال يبقى يبحث عن ضوء، لكي يقرأ الجواب على صفحات الأيام الجدباء، التي تختنق في معضلة إما وأو الغنية بالأضرار الفادحة!!
فتبا لإمّا وأو الفاعلة في طبقات وعينا ولا وعينا الفتاك!!
واقرأ أيضاً:
كل شيء أو لا شيء: التفكير القطبي / القائد الجاهل والشعب العائل؟!! / صحيح أفكار وفحيح أسفار!! / الصراعات وسائل نهب الثروات!!