ذات يوم في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كنت جالسا على مائدة الغداء لوحدي في الكافتيريا، فاقترب مني شخص لا أعرفه واستأذن بالجلوس معي على المائدة، وقدم نفسه على أنه من بنما ومن المهتمين بالحضارة العربية، وعرف بأني عربي وود مشاركتي الحديث، فرحبت به وبعد مقدمة بسيطة، وجدته يزفر بحسرة وألم وهو يتحدث عن الحالة العربية وما يراه سيحصل، فقال والدموع تترقرق في عينيه: المنطقة تتعرض لهجمة محق حضاري، وسيتم إعداد الممحاة الكفيلة بإنجاز ذلك!!
قلت: وماذا تقصد؟!
قال: الموضوع ليس كما يروج له على أنه كذا وكذا، إن اللعبة أكبر مما ترى!!
قلت: وماذا سيحصل؟
قال: ستباد آثاركم وشواهدكم الحضارية، ولن تجدها بعد سنوات إلا في الصور!!
قلت: ومن أين لك هذا التصور؟
قال: أنا أقرأ بمنظار آخر، وأرى آليات التفاعلات القادمة، إنها باختصار هجمة لإلغاء التأريخ وإزالة كل ما يشير إلى أنكم موطن حضارة، وأضاف: حتى مصر وأهراماتها لن تنجو منها، وجميع ما يتصل بمعتقدات وأديان المنطقة بأسرها سيُباد عن بكرة أبيه.
قلت: أرعبتني بكلامك!!
قال: هذه هي الحقيقة المرة التي ستواجهها المنطقة في العقود القادمة!!
قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله!!
لم يفهم ما قلته، لكنه قال: وددت مشاركتك بما أرى علك توصله إلى قومك فعساهم يحذرون ويتيقظون!!
قلت: إذا كان قولك صحيحا فإن قومي هم أول المنفذين!!
قال: وكيف يكون ذلك؟
قلت: لا يمكن لأية قوة تدّعي المعاصرة أن تمحق الإرث الثقافي والحضاري للآخرين، ولكي تحقق ذلك عليها أن ترعى همجا رعاعا من أبناء تلك المجتمعات يقومون بالتنفيذ الفتاك الذي أشرت إليه.
قال: هذا لا يمكنه أن يكون، لأن الشعوب تغار على آثارها وشواهدها الحضارية.
قلت: إن قومي لا يحترمون كل ما يمت بصلة إليهم، بل يحتقرونه ولديهم الأهلية للفتك بذاتهم وموضوعهم!!
قال: أدهشتني!!
قلت: هذه هي الحقيقة المريرة!!
قال: جعلتني أرى المنطقة بلا أثر!!
قلت: أخشى ذلك وأراه سيكون ما دامت أدوات الدمار جاهزة وفتاكة!!
فوجدته دامع العينين وقد بكى بحرقة على آثارٍ يرى أنها ستزول، ومجتمعات يعتقد أنها ستغادر مواطنها وتتيه في غياهب الدنيا التي ستذيبها وتمتص خلاصة ما فيها.
لم يتمكن من إتمام غدائه، وما تمكنت، فافترقنا والحزن يفترسنا، وقد تأملت خطواته الثقيلة، وظهره المنحني، واحترت في أمره وأمرنا.
ومرت الأيام والسنون، وكأنني أرى ما قاله لي يتحقق في الواقع العربي، وكأنني أترقب المزيد من الهجمات الإمحاقية لما يمت بصلة لأية حضارة على أرض العرب.
إنه الإلغاء المبرمج للتأريخ والهوية والسمات العربية والحضارية بأكملها، حتى سيظهر جيل بعد بضعة قرون يدين بحضارة وإرادة أمة أخرى تسعى للهيمنة على الوجود بأكمله في الأرض التي سيقال عنها كانت مأهولة بأقوام يسمون عربا!!
وإنها الممحاة الحضارية، وسمها بما شئت!!
وكل أمةٍ بمسعاها رهينة!!
واقرأ أيضاً:
إمّا وأو!! / صحيح أفكار وفحيح أسفار!! / الفن المُنحَط والعنف المُشْتَد!! / الشاشة مرآة واقع حزين!!