الفصل الحادي عشر
حكمة الفصل: "لَنْ تُدْرِكَ مَرْتَبةَ الإِبَاءِ حَتَّى تَقُولَ «لا» صَرِيحَةً لِجَمِيعِ الإِغْرَاءَاتِ". (حكمة فرنسية)
حان الوقت للتكلم جهارا:
واجه أحد المرضى ضغطاً قاسياً في العمل، وحين تم الاقتراح عليه بأن ينال قسطا من الراحة أكد أن ذلك صعبا جدا!، لقد كان مكتبه يقع تحت الأرض بعيدا عن استنشاق الهواء المنعش. وحين سئل عن تناوله الغذاء، أجاب بأنه لا يستطيع الخروج!. وحين قرر الخروج وعاد بسرعة بعد تناوله للغذاء وجد زملاءه يسخرون منه!؛ لذا فإنه أصبح يشعر بضغط هائل بداخله.
لقد ذهب مرة أحد المرضى إلى مكتبه ليلا، وسئل عما وجد في العمل في ذلك الوقت، فأجاب بأنه وجد أناسا كثيرين هناك، فبعض الشركات تعين اجتماعات في صباح أيام الإجازات، وتنظر إلى الحضور على أنه فحص للالتزام والإخلاص، ويتم التصرف وفق هذه العادات كلها، ففي حين تطورت الثقافة المشتركة على مر الزمن، وبقيت الشخصيات القوية أو الموظفون الأقوياء يمارسون الضغط المماثل في مختلف الأحوال.
أبرز أفكارا حول تعزيز التغير: لا تفترض أن الثقافة المشتركة لا تتغير: بإمكانك التأثير على ممارسات الشركة، لو كنت معينا حديثا يمكنك أن تجلب أفكارا منعشة للمنظمة أو الشركة، لو كنت محاربا لكنت أضفت تأثيرا مرتكزا على المسنين وهي فرصة ومسئولية لإعادة تشكيل الثقافة المشتركة وتحريكها باتجاهات إيجابية.
حاول بجد أن تكون مختلفا: قدم بعض المرح إلى شركة مملة أو إلى اجتماعات أصبحت تأخذ منحا جديا، نظم مجموعة تتسلى باللعب وقت الغداء أو تتنزه مشيا بعد الظهر.
أدعم مبادرات اقترحها آخرون: ولتنضم مع زملائك عندما توافق على أفكارهم.
قيًم وقتك: إذا كنت جديدا في العمل خذ وقتك في مراقبة الجو المشترك السائد مع زملائك الجدد. لا تتباهى بالقواعد غير المكتوبة منذ اليوم الأول، ولكن لا تعرض مبادئك للشبهة أيضا، وقم في بعض الظروف (كتناول الغداء) بتأسيس أسلوبك الخاص، منذ البدء أظهر أنك تُقيم العمل على الرغم من أنك ما زلت تقوم بعمل جيد.
أخيرا قد تقرر أنه من الضروري المغادرة: في حال شعرت أن قيم الشركة وممارساتها غير مقبولة بالنسبة لك، وأنك تحتاج إلى إيجاد عمل آخر أكثر تناغما؛ فعندئذ يمكنك التفكير في مغادرة ذلك المكان للعمل في مكان آخر تعمل فيه بكل طاقاتك.
يمكن لأي أحد أن يؤثر على الثقافة المشتركة، فهي لا تتغير من المستوى الأعلى إلى الأسفل، إذا كنت تعمل في شركة فأنت من خلال التعريف عنها جزء من ثقافتها، أنت مستلم الرهان ولديك حقا كافيا في إعادة تشكيل الثقافة كأي شخص آخر في تلك الشركة، أو تلك المنظمة، لقد حان الوقت للإفصاح عن الأمر علنا!.
عليك أن تكون انتقائيا لحماية ذاتك: عندما كان ابني في عمر السنتين طلبت منه مرات عديدة أن يقوم بأمر ما، ولكنه كان يجيبني ببسـاطة قائلا: "لا". فأنظر إليه متعجبا، معجبا بشجاعته، ومفتونا بإصراره، وأقول لزوجتي ألا يدرك أن طولي أضعاف طوله وبإمكاني إجباره على فعل هذا الشيء ومع ذلك هاهو ذا يرفض أن يغير رأيه، فترد زوجتي قائلة: لقد تعلم قول "لا" قبل أن يتعلم قول نعم أو حاضر أو أبشر أو طيب!.
سُئِل بعض الحضور عمن يملك أو يستطيع قول لا بثقة وقوة، فلم تكن النسبة إلا قليلة!. ومن السخرية أن أقوى مفردة في اللغة العربية هي أيضا أقصرها!، فعندما لا يستطيع الناس قول "لا"، يشعرون بحمل ثقيل بالضغط والامتعاض. إن من يقدرون على قول "لا" يشعرون بأنهم يتحكمون بزمام الأمور في حياتهم، ويشعرون بنطاق أوسع من الحرية، هم لديهم قدر أكبر من الطاقة، ويشعرون بأنفسهم بشكل أفضل، ويتقاضون رواتب عالية نسبياً من عالـــم صغير مماثل للعالم الذي نعيش فيه!!!، يقول شاعر النهضة الأوروبية دانتي: "بَيْنَ المَغْرُورِ بِمالِهِ والفَقِيرِ الأَبِيِّ أَخْتَارُ أَنْ أَكُونَ الثَّاني".
ولا يعني تعلم قول "لا" أننا أصبحنا أصعب في التعامل، أوغير متعاونين، فالتعاون والعمل الجماعي يعتبران أمرين أساسيين في أماكن العمل اليوم. ويدخل قول "لا" في الحماية الذاتية لأنفسنا، وتعلمنا هذه الكلمة بأننا لا نقدر على القيام بكل شيء، أو أن نجعل الجميع سعداء!؛ فنحن سنستنزف قوانا إذا حاولنا ذلك، ويدخل قول "لا" في معرفة حدودنا، وفي أن ننتقي جيدا ما نختار القيام به، تقول الحكمة اليابانية: "الرَّأْسُ المَرْفُوعُ بشَمَمٍ يَتَطَلَّبُ نَفْسًا عالِيَةَ الإِبَاءِ".
متى نقول "لا":
لا يجب أن تصبح كلمة "لا" كلمتك المفضلة أو أول ما تتلفظ به بعد إلقاء التحية، كما يجب ألا تقولها غالبا. يقول الشاعر عن خلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم يجيب في معظم ما يعرض عليه "بنعم": لولا الشهادة لكانت لاؤه نعم
إذا كان قول "لا" ملائما أو حتى ضروريا، فهذا تمرين لأخذ الإذن بقولها، ولا يجد معظمنا صعوبة في قول "لا" إذا كان علينا ترك العمل باكرا لأخذ الطائرة، وفيما يلي بعض المواقف الأخرى حيث يعتبر قول "لا" مقبولا:
عندما تكون متعبا أو مضغوطا.
عندما تكون مثقلا بالعمل أو ينقصك الوقت.
عندما يكون لديك أولويات أهم.
عندما لا يكون الأمر جزءا من عملك أو مسئولياتك.
عندما لا يكون الأمر في نطاق خبرتك، وأن هناك شخص آخر يمكنه أن يقوم بالأمر بشكل أفضل.
كيف نقول "لا":
يقول جوته: "عَلَـيْنَا أَنْ نُـحَافِظَ علـى عاداتِنَا القَدِيمَةِ بِإِبْقاءِ رَأْسِنا مَرْفُوعًا عالِـيًا".
إن السؤال التالي هو كيف نقول "لا" بطريقة يقبلها الناس العاقلون؟، وهذه سخرية ثالثة: فأنت إذا قمت بالعمل بشكل صحيح فلن تستعمل أبدا كلمة "لا" بشكل فعلي!.
عبر عن رغبتك في المساعدة: أحب أن أقوم بذلك من أجلك أو أتمنى لو أستطيع أن أساعد.
لا تقدم تفسيرا عن شئونك الشخصية مثل: أنا أقوم بمهمة حساسة في عملي، أو يجب أن أذهب إلى موعدي عند الطبيب. ليس عليك أن تُطلع الآخرين على أمورك الشخصية.
قدم مبادرات بديلة: لن أقدر على القيام بذلك ولكن يمكنني أن أوضح لك كيفية القيام به، أو أقول له مثلاً: صديقي خليل يمكنه القيام بذلك العمل أفضل مني!.
أعرض أن تقوم بالأمر لاحقا: لا أستطيع مساعدتك الآن في هذا الأمر، ولكن يمكنني القيام به الأسبوع القادم.
أعرض القيام بجزء من الواجب المطلوب منك: لن أقدر على القيام بالأمر كله، ولكنني سأكون سعيدا إذا قمت بجزء منه لأجلك.
أطلب من صاحب القرار مساعدتك في التفضيل بين الأمور التي أنت مُكلف بها: أي من هذه المشاريع تود أن أضعه جانبا حتى أُنهي هذا العمل المطلوب مني؟، على الأرجح سيقول لك أمرا من اثنين هما:
أولا: لم أكن أدرك أنك منهمك إلى هذا الحد في العمل، سأتعامل مع الوضع بطريقة أخرى.
ثانيا: ضع ذلك جانبا وقم بهذا الأمر بدلا منه.
وفي الأمرين لا يستطيع صاحب القرار أن يأتي إليك في الأسبوع المقبل ويقول لك أين هذا التقرير أو ذاك؟!، في حين أنه هو من أخبرك بوضعه جانبا!.
أطلب وقتا لتفكر في الأمر: هل أستطيع أن أعود إليك خلال ساعة لأعطيك قراري النهائي؟!، سأحاول أن أعيد تنظيم جدولي. وإذا لم يكن يلائمك ذلك العمل عاود الاتصال بهم وقل لهم أنا آسف لن أستطيع القيام بذلك العمل في الوقت الحالي؛ ولكن ربما أستطيع القيام به في وقت لاحق.
أسأل ما فائدة الأمر: ساعد نفسك في توضيح موقفك ومعرفة احتياجاتك الحقيقية، ويمكنك أن تستفسر عن فائدة الأمر الذي ستقوم به بالنسبة لك.
قتيبة بن مسلم (فاتح المشرق) يقول "لا":
حكي أن قتيبة بن مسلم الباهلي "فاتح المشرق" ولي خراسان، وعزل يزيد بن المهلب عما كان في يده فشخص يزيد بن المهلب إلى الشام، إلى سليمان بن عبد الملك، وهو خليفة للمسلمين فقال له: كيف خلفته؟ فأفسد يزيد بن المهلب قلب سليمان على قتيبة بن مسلم!. فكتب سليمان إلى قتيبه كتبا أنكرها!، وارتفعت حال يزيد عند سليمان، فعلم قتيبة أن يزيد أفسد حاله عند سليمان بن عبد الملك، فكتب إليه كتبا يتنصل فيها، فلم يزد عليه سليمان إلا غلظة فوجه قتيبة إلى سليمان رسولا فطنا لبيبا، ودفع إليه ثلاثة كتب وأمره أن يوصل الأول منها إلى سليمان، فقال: إنك ستدخل عليه ويزيد بن المهلب جالس عن يمينه، فإذا دفعت إليه كتاب الأول فأقرأه يزيد، فادفع إليه كتابي الثاني، فإذا دفعته إليه فشتمني وتنقصني فادفع إليه الكتاب الثالث، فإنه إذا قرأه أمر بإكرامك وبرّك، وأجابني على كتبي بما أحب!.
فخرج رسول قتيبة حتى ورد الشام، فلما أٌذن له على سليمان بن عبد الملك إذا يزيد بن المهلب على يمينه، فقال الرسول: يا أمير المؤمنين، إن معي كتاباً أفأوصلها على ما أٌمرت؟، قال: فهاتها، فناوله الكتاب الأول وفيه: يا أمير المؤمنين أنا أمس بك رحما وأقدم به حرمة وأوجب عليك حقا، فلا تشمت بي يزيد بن المهلب، فلما قرأ الكتاب دفعه إلى يزيد كالهازيء بقتيبة، فدفع رسول قتيبة الكتاب الثاني إلى سليمان، وفيه: يا أمير المؤمنين يكتب إليك مثلي كتابا، وأنا وليٌ من أوليائك فتتضاحك به وتدفعه إلى يزيد بن المهلب الفاسق الكاذب المعروف بكذا ،لا يألوا قتيبة ما أفحش على يزيد بن المهلب في كتابه، فقال سليمان: ومن هو قتيبة بن مسلم حتى يجترئ علينا بمثل هذا الكتاب؟؟؟!!!، ولا يألو سليمان ما أفحش في شتم قتيبة، ولم يدفع الكتاب الثاني إلى يزيد، فدفع الرسول الكتاب الثالث كما أمره قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك وفيه:
من عبد الله قتيبة إلى سليمان بن عبد الملك، أما بعد فأنتم أئمة الضلال وبنو طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تستحقوا هذا الأمر بسابقة ولا قرابة، فادخل في السلام أو ائذن بحرب والسلام!!!. (طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحكم بن أبي العاص بن أمية، عم عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، أسلم يوم فتح مكة، وقد طرده الرسول الكريم من المدينة فنزل الطائف ومعه ابنه مروان، ولم يزل الحَكْم في الطائف إلى أن ولي عثمان الخلافة فأذِن له بالعودة إلى المدينة. وقد كان سبب طرده من المدينة أنه كان يتسمع ما يُسِره النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فيفشيه إلى المشركين من قريش. كما كان يقلد النبي صلى الله عليه وسلم في مشيته وبعض حركاته بشكل ينطوي على التهكم على النبي صلى الله عليه وسلم، والعياذ بالله!!).
فلما قرأ سليمان الكتاب الثالث وضعه تحت وسادته وقال لحاجبه: خذ الرسول إليك فأكرم مثواه وارفع إلينا حوائج قتيبة بن مسلم لتُقضى. (وكتب سليمان إلى قتيبة يزيد في عمله!)، ويُحسِن صلته، ثم دس سليمان بن عبد الملك رجالا فصاروا في عسكر قتيبة فسعوا في الفساد في أصحابه حتى شغبوا على قتيبة بن مسلم فقتلوه!!!.
هذه القصة توضح لنا تأكيد القائد قتيبة بن مسلم لذاته بشجاعة و قوة عزيمة، لقد أقدم على بعث ثلاث رسائل قوية اللهجة للخليفة القوي سليمان بن عبد الملك، وهو مُدرك بفطنته وذكائه رد فعل الخليفة على كل رسالة وبالتفصيل الدقيق!؛ كما هو واضح من تعليماته لرسوله الذي بعث به إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك؛ ولكن هنا سؤال يفرض نفسه علينا وهو: هل كان ذلك القائد الفذ مُدركاً لما سيقوم به الخليفة سليمان من التحايل على قتل قتيبة بن مسلم؟!، وخصوصا بعد أن أفحش قتيبة القول في أصل الخليفة بل في بني أمية جميعا؟!!، بالتأكيد أن هذا القائد الفذ كان يعلم ما سيفعله الخليفة به ولو بعد حين!، فإذا كان مُدركاً لتفاصيل رد فعل الخليفة على كل رسالة، فلابد و أنه كان عارفاً بما سيقوم به الخليفة من محاولة لقتل قتيبة بن مسلم!.
ويتبع >>>>>>>>>>> علماء المغرب العربي مؤكدون لذواتهم