الكتابات الخلاقة المنيرة هي التي تعطي المجتمع منطلقات تنير مسيرته، وتجدد معالم خطواته الصاعدة في دروب الارتقاء، والمجتمعات الإنسانية المتقدمة، حققت تقدمها وتطورها بسبب المنطلقات الفكرية والثقافية الفاعلة في صيرورة وجودها.
بينما نحن نفسر ونمعن في إيجاد مبررات المآسي والويلات، ولا نقترب من الظواهر لأجل تغييرها وتجاوزها، وإنما لكي نؤكدها ونرسخها ونوفر الأسباب التي تعزز بقاءها واستفحالها، فمنهجنا يخلو من المنطلقات اللازمة لمعالجة الحالة التي يتم التصدي لها. وهذا الفرق الجوهري ما بين تفكيرنا وتفكير المجتمعات المتقدمة علينا.
وفي قراءة للعديد من كتابات المفكرين والباحثين عندنا في القرن العشرين، يظهر بوضوح هذا النهج التفسيري والترسيخي للظواهر، وبسببه لم يتمكن المجتمع من تجاوز أية مشكلة تم بحثها، أو معالجة الظواهر االسلبية، فلا توجد في تلك الكتابات أسس ومنطلقات ومؤشرات للتقدم، كما هو موجود في كتابات مفكري وباحثي الأمم المتقدمة والمجتمعات المتنورة المعاصرة.
فالتفسير قد يعين على الفهم، لكنه يبقى قاصرا إن لم توضع الحلول للظواهر التي تم تفسيرها، فما قيمة الفهم إن لم يكن مؤديا إلى معالجة صحيحة، ونحن اعتبرنا التفسير مسك الختام، بينما هو في عرف التقدم، الخطوة الأولى للقيام بعمل وإجراءٍ للتغيير.
وكتابات المفكرين عندنا لم تقترب من الأسباب لكي تعالجها، وإنما حاولت تكريسها وجعلها حقيقة قائمة، وضرورة لتأكيد الخصوصية، وإدامة ناعور الخيبات والويلات في عالمنا الجريح والمثخن بالطعنات القاتلة. وهي اقترابات تدعيم للزنزانة التي لا يُراد لنا الخروج منها، بل الإمعان في الاختناق والموت فيها، وبسبب الإغراق في التفسير لم يتحقق الإصلاح اللازم لتأهيلنا للحياة المعاصرة والمواكبة مع باقي الشعوب.
فلا يوجد دور لكتابات العديد من المهتمين بالمجتمع في تغييره وتوفير المؤهلات اللازمة لتقدمه وصيرورته الأرقى، وهذا يشير إلى مأزق حضاري وخلل في التفكير والتصور والاستنتاج، واستلاب واضح لعناصر ومفردات الحاضر، وحضور شرس للماضي بجميع مفرداته، وكأنه حي يسعى بيننا ووحش يقضي علينا.
ولو كان مفكرنا ينتهج طريقا تقدميا في تفكيره وتحليله، لما تكرست الظواهر السلوكية واستنقعت وتعفنت إلى درجة كريهة ومقرفة، ولو استطاع أن يتحرر من عباءة الظلام وضلال القبور والمناحات واللطم على الأطلال، لما تأكسد وجودنا وتحول إلى صدأ يأكل حديد الطموح الأصيل.
ولو أنه خرج من قوارير التخمر في عصير الأموات وأقبية الأجداث وتفاعل مع النور والحاضر الفعّال، لما ركدت مياه مسيرتنا وتلذذنا بالتدحرج إلى الوراء. فنحن لم ننجب مفكرين معاصرين لهم الدور الإيجابي في دفع حركة الحياة إلى أمام، وإنما أوجدنا مفسرين ومستعبَدين بالكراسي والأحزاب وخدَمة لسلطان القوة المستبدة، ومَن يكتبون بلسان الطغيان والامتهان يبررون أفعال الشر والبهتان.
ولا يزال واقعنا يخلو من قوة الفكر ومحكوم بالثوابت التي سجنت العقل ومنعته من الانطلاق في فضاء الحرية والعطاء الإبداعي المنير. فما أن يبدأ المفكر بالتفكير الجاد والصادق حتى يصطدم بالأجداث والمعايير القديمة، وبالتوجهات المقيدة للحركة والمدمرة للحياة، والساعية إلى جنات الخلد في ربوع المآسي والويلات. والتي تجعل آليات التفكير ذات توجهات اتلافية ومضادة لبناء الحياة وصناعة الوجود القوي فيها، لأنها تهينها وتقلل من قيمتها ودور الإنسان فيها، وتريده أن يستعد للموت بالتنازل عنها، ومقت جمالها وإرادة بنائها وتطوير أسباب الوجود الراقي السعيد فيها.
أي أن آليات التفكير ذات عناصر سلبية وتدميرية لمعاني ومبادئ الحياة، بعكس آليات التفكير في الدول المتقدمة، التي تريد أن تحقق جنة الله في الأرض، وأن تعبّر عن القوة والقدرة على تحدي أسباب الفناء، وإقامة دعائم البقاء والديمومة الأفضل فوق التراب.
ووفقا لهذا الافتراق ما بين إرادة الحياة وإرادة الموت، وما بين آليات صناعة رموز الوجود الإنساني القوي، وممارسات الضعف والخسران، تكمن أكبر أسباب تأخرنا وتدحرجنا الدائم إلى حيث الضياع، وفقدان الدور الحضاري المعبّر عن معاني ومعالم صيرورتنا. فالتقدم يصنعه المفكرون والمثقفون في المجتمعات، ويكون ذلك باكتشاف المنطلقات النظرية الصائبة والمتوافقة مع قدرات المجتمع، والتي تؤهله للتعبير عن طاقاته وطموحاته، ويكون دور الأنظمة السياسية، أن تحوّل المنطلقات النظرية إلى آليات فعل وعمل وفقا لتشريعات وضوابط تؤهل المجتمع للتعبير العملي المتفاعل عنها.
إن غياب المنطلقات الحضارية ومناهج السلوك الحضاري المعاصر، هي التي جعلتنا مجتمعات سلبية ومستهلكة، وغير قادرة على تحقيق وجودها المستقل والتعبير عن إرادتها الحرة. فمجتمع بلا فلاسفة كبار لا يتقدم ولا يكون، ومجتمع مسجون بالجهل الديني لا يتقدم إن لم يوظف الدين للتطور والبناء، وليس للأحزان والآلام وكره الحياة.
والمجتمعات التي لا تمتلك تعريفا واضحا للعزة والاقتدار لا تتقدم، ونحن مارسنا الذل والهوان والضياع، ولم نعرف ممارسة القوة والكبرياء، ولم ننجب فلاسفة ومفكرين مؤثرين في بناء المستقبل، وإنما أوجدنا مفسرين ومكرسين للحالة التي نعاني منها، وكذلك ستعاني الأجيال إن لم نكتشف المنطلقات ونخترع الآليات المناسبة لتحقيق الحياة وفقا لتصوراتها واستشرافاتها.
فهل من فضاءات عقول ورياض أفكار لكي نكون؟!!
واقرأ أيضاً:
الإرْعاب!! / ألهاكم التناحر!! / إطلالة على ضفاف الأمل!! / الكتابات السلبية وآثارها النفسية!!