الكتابات السلبية هي التي تمعن في تعداد السيئات وتغفل عن الحسنات ولا تأتينا ببصيص أمل، وتُكتَب بمداد النواح والتشكي وذرف الدموع والدماء، وكأنها مسيرات لطم بالكلمات، وباختصار شديد هي كتابات النصف الفارغ من قدح الحياة. ونحن عموما - إلا فيما قل وندر- نكتب بسلبية، وكأن ما نسطره عبارة عن تعبير عن معركة حامية ما بين اللاجدوى واليأس، ونستهلك كثيرا من وقتنا وطاقاتنا في التعبير عن تفاعلات الكراسي والأحزاب والأشخاص، ونميل بعيدا عن المشاكل الحقيقية اليومية التي تواجه الإنسان وتستنزف عمره دون حل يساهم في سعادته وراحته.
وفي أكثر الأحيان نتشاجر على الصفحات والمواقع، وهناك بعض المواقع مسخرة للتنابز بالألقاب والتهم والتصريحات النابية، وفي ذلك توجه لإبعاد الناس عن جوهر المشاكل وخداعهم بالتلهي بما لا يفيدهم وإنما يضرهم ويحجب رؤيتهم. ويعرف أصحاب النوايا الثرثارة ميل الكثير من الناس إلى التفاعل مع القيل والقال، لقلة الأفعال وضعف قيمتها ودورها في المجتمع بصورة عامة، ولهذا يتم شحذ الكتابات بموضوعات تخدم هذا الغرض وتسرق الناس من همومهم الحقيقية، وتبدو كأنها تخديرية وتحضيرية للانقضاض على الذين سرى في أدمغتهم تأثير أفيون الطرح الجذاب المخادع اللذيذ.
إن الكتابات السلبية تساهم في تعزيز الشعور بالضعف وعدم الثقة بالنفس، وتمعن في تنمية اليأس وتسوّغ الخضوع والاعتماد على الغير، كما أنها تنمي البغضاء والكراهية وتجعل الناس في حالة من التوتر النفسي، الذي يؤثر على تفاعلاتهم الاجتماعية ووضوح تفكيرهم وقدرتهم على اتخاذ القرار المناسب.
وكتابها ربما يعانون من ذات المشكلة، ويعكسون حالتهم النفسية ويدونونها بصدق وبراءة وطيبة قلب وعفوية صافية لا غبار عليها، فكتاباتهم عبارة عن صرخة ألم ونداء من أجل طلب المساعدة والتدخل لتخليص المجتمع من واقعه الخانق الدامي الأليم، لكن الذين يرون بعيون الطمع والقسوة وتمرير المخططات يغذون هذه الكتابات، لأنها تمنحهم القوة لتحقيق ما يريدونه من الغايات الأنانية، التي لا تعير إهتماما للمجتمع الذي يقاسي الأمرين، بل تتلذذ بذلك وتفتخر، وتحسبه نجاحا وتفوقا في حسابات الربح والخسارة الجافة المجافية للمعايير الأخلاقية والإنسانية.
فالكتابات السلبية في جوهرها تعبّر عن منهج يحطم القدرات ويستجلب العثرات، لأنها تحجّم التفكير وتضع العقل في صندوق مغلق لا يرى فيه بصيص ضوء، أو أفقا يساعده للتفكير بأسلوب آخر بعيدا عن ظلام الصندوق، وهذا يؤدي لانحرافات في التفكير والتصور تدفع إلى نشاطات وأفعال تتفق معها وتؤكدها وتزيد من تكرارها وتفاقمها.
وهي كتابات عُسر دائم ويأس قائم ولا يمكنها أن تتحدث عن التفاؤل أو اليسر، لأنها قد نسيت ذلك، أو أنه غاب من معجمية كتابها، ولهذا فإنهم يستحضرون المفردات السالبة التي لا تعرف إلا أن تعيش في القبور وتخاطب الأجداث. وهي تدين باليأس وتكفر بالتفاؤل وتغذي القلوب بالضيق والقهر والقنوط، وتساعد على توطين المكاره واستقدام أسباب التلاحي والخطوب، وتجعل الناس لا ترى بارقة غوث وكلمة خير تعلن أن الشر يزول وأن الدنيا لا تصلح إلا بفعل الخير الرشيد، الذي يحافظ على سلامتها ويعلي كلمة الرحمة والمحبة في مجتمعها.
والمجتمعات التي تسود فيها الكتابات السلبية تكون موطنا للسوء وحاضنة للجريمة والتفاعلات المضرة بالإنسان، لأن النظرة السلبية تستقدم قدرات التآزر معها والتفاعل مع تداعياتها، فتوظف الطاقات لمزيد من الأحداث السلبية التي هي الأخرى تستجلب ما يوافقها، وبهذا يدخل المجتمع في دائرة الدمار المفرغة التي لا يعرف خلاصا من قبضتها. وفي هذه الظروف الخانقة تتحقق المأساة ويخسر المجتمع الكثير من طاقاته وقدراته لأنها لا تجد مفرا من المغادرة، وبذلك يزداد المجتمع ضعفا على ضعف، وتتمكن منه القوى الطامعة فيه وتلتهمه بسهولة فائقة.
وعليه فكتاباتنا السلبية قد تساهم عن غير قصد منا في تنمية مشاكلنا وتعقيدها، وتبعد الحلول وتصيبنا بالعجز، وربما تحفز القدرات المناهضة للخير والداعية إلى تثمير الشرور وجني ثمار الصراعات، وتعطي الآخر فرصة لنهب وسلب أقصى ما يمكنه بعيدا عن رصد المجتمع ورقابة أبنائه، أي أنها تساهم في إشاعة ثقافة الإلهاء والخداع وتمرير المخططات والألاعيب المناهضة لإرادة الناس والمضرة بوطنهم ومستقبلهم.
وعليه، فلابد أن نكتب بمداد القوة والعزة والوحدة الوطنية، والأمل والتفاؤل والإصرار على تحقيق الحياة الحرة الكريمة المكللة بالأمن والمحبة والسلام، فما تكتبه الأقلام تحققه الأفعال، لأنه يمنح الإنسان القدرات الفكرية والنفسية اللازمة للتعبير عمّا فيه من الطاقات وبذلك يكون.
فهل سنكتب بمداد الوطن والوطنية والمواطنة، وقيمة الإنسان وإعلاء شأنه ودوره، وتعزيز حقوقه وتنمية إرادته؟!!
واقرأ أيضاً:
ألهاكم التناحر!! / إطلالة على ضفاف الأمل!! / المنطلقات والتفسيرات!! / العرب واليابان!!