العقل هو الهدف الذي توجه إليه الإسلام، وأول كلمة تنزلت هي "اقرأ"، وفي تكرارها لثلاث مرات حث واجب على التنبيه العقلي، والعمل بالعقل الذي يحتاج للمعارف والعلوم لكي يتحقق العمل المطلوب منه.
فالعقل لا يعمل من غير العلوم والمعارف، كالسيارة التي لا تعمل إذا نفذ بنزينها.
و"يعقلون" كلمة تكررت في القرآن الكريم مرارا، وهي تحث وتدعو لإعمال العقل وتوظيفه لصناعة الحياة المتوافقة مع إرادة البشر في زمانهم ومكانهم.
"....لآياتٍ لقومٍ يعقلون"
"....كذلك نفصل الآيات لقومٍ يعقلون"
"...لعلكم تعقلون"
"....أ فلا تعقلون"
".....وأنتم تتلون الكتاب أ فلا تعقلون"
"....إلا من بعده أ فلا تعقلون"
"...بأنهم قوم لا يعقلون"
"...أ فلا تعقلون"
"...أ فلا تعقلون"
" ...أ فلا تعقلون"
وغيرها العديد من الآيات الأخرى.
والعقل: النّهى وهو ضد الحُمُق، الجمع عقول. ويأتي بمعنى التثّبت في الأمور.
ورجل عاقل وعَقول: جامع لرأيه وأمره، ويُقال قوم عُقلاء أي يحبسون عواطفهم ويُعملون عقولهم في الرأي والبت في الأمر.
ويعقلون: يتحصنون بالعلم والمعرفة والثقافة ويوطفون العقل للجد والاجتهاد والنظر.
وعليه فإن يعقلون تكون ذات منطلقات علمية وبحثية وقدرات معرفية متوافقة مع عصرها بمكانه وخَلقه وزمانه المتجدد، وبما أن العقل مرتبط بالدماغ أو أن الدماغ آلة العقل، وهذا الدماغ حالة غير ثابتة وإنما مطاوعة للظروف الذاتية والمحيطية، ولديه قدرات تكيفية إدراكية وسلوكية تحددها التفاعلات البايوكيميائية والتغيرات الجينية، التي تتسبب بإنتاج الموصلات التخاطبية الكفيلة بالحفاظ على مواءمة توافقية ناجحة ما بين المخلوق وبيئته، فأن العقل يتسم بهذه السمات التجددية والطاقات الجريانية الساعية للتفاعل الحي المتخلق مع مفردات ما يواجهه من تحديات كيانية، وتفاعلات صيروراتية تساهم في الحفاظ على الوجود الحي المبدع الخلاق للمخلوقات كافة.
وهذا يعني أن الثبات لا يمكنه أن يحقق الحياة المقتدرة، وإنما هو إتلاف للعقل وتضييع للطاقات ودفعها باتجاهات تعفنية، ومراوحات استنقاعيه ذات روائح كريهة وعفونات شديدة تتسبب بأمراض وأوبئة، وتساهم في تكاثر الجراثيم والعظايا النفسية والفكرية، التي تنتشر كالأوبئة بين الناس وتصيبهم بطاعونها الفتاك المرعب النتائج والتداعيات.
ومن هنا فإن تكرار كلمة يتعقلون في القرآن الكريم يأتي لأهميتها، ولكوْن البشر مرهون بعواطفه وانفعالاته ومُجانب لعقله، لأن العاطفة تهيمن وتستعبد البشر وتمتلكه تماما وتسخره لغاياتها، فيكون من السهل عليه أن يمضي على نهجها، فالبشر مخلوق مرهون بعواطفه وغرائزه أكثر مما هو متصل ومتفاعل مع عقله، فيكون من الصعب عليه الانتقال من حالة التبعية والرضوخ الانفعالي إلى مواقع التفكير وإتخاذ القرار الواعي الحكيم، الذي يتحسب لما سينجم عن الخطوات المطلوبة الإجراء، كما أن العقل قد يثير بعض المشاعر الصعبة أو المريرة، ولهذا يميل البشر إلى تجنبه ودعوة النفس للإتيان بما يرضيه فتطلق آلياتها الدفاعية وتقنعه بما تريده وترضاه والذي يأباه العقل وينهاه.
ومن الواضح أن الدنيا تمضي على سكة العواطف والانفعالات المتأججة التي توردها الحروب والنزاعات والصراعات المتواصلة، وأن العقل دائما يكون مركونا في زوايا بعيدة أو مسجونا في أقبية الممنوع، فالنفوس المتأججة لا تريد عقلا فاعلا ولا إرادة عاقلة ذات أناةٍ وحلم، وإنما تنزع للاندفاعية والانزلاقية والانسياقية والانحدارية والجريان في الترع والوديان، التي تأخذها إليها سيول العواطف النابعة من دياجير المطمورات، وبحيرات النوازع السيئة الأمّارة بالسوء والبغضاء والكراهية والشرور النكراء. ولا يمكن للبشرية أن تتحضر إن لم تتعقل، ولا يمكن لأي مجتمع يهمل التعقل وينفي آلياته ويمنع سلوكياته أن يخطو بقوة إلى أمام ويؤسس لوجود حضاري قدير، وإنما سيتبعثر ويتشتت وينحسر وينكسر ويتوارى في غياهب الخسران النكيد.
ويبقى السؤال الكبير والملح أبدا، وهو لماذا لا تتعقل أمة يعقلون ؟!!
لماذا تحتقر العقل أمة يعقلون؟!!
لماذا أصبح فيها للضلال والبهتان أسواق ومسوقون ودعاة أميون؟!!
لماذا صارت أمة يعقلون كأنها أمة يغفلون؟!!
تساؤلات علينا أن نفكر بجد وإجتهاد للوصول إلى أجوبة شافية وحلول وافية تعيننا على العودة إلى مملكة العقل وفضاءات التفكير الحر الصحيح، وأن نستعيد إرادة "اقرأ"، والذين يقرؤون يتعقلون ومن غير القراءة فالناس يتجهّلون!!
فاقرئي يا أمة يتعقلون، واقرئي يا أمة يتفكرون، وإن لم تقرئي ستنتهين، ونحن قوم إذا قرأنا نكون،
وإن لم نقرأ لن نكون!!
واقرأ أيضاً:
الابتلاعية!! / إمبراطوريات الكذب الفتاك!! / النقمة والحكمة!! / التحالف العربي العربي!!