البشر في المجتمعات المتقدمة منشغل بالتأسيس لمفردات سعادته وإدامتها بالجد والاجتهاد، وفي المجتمعات المتأخرة البشر منشغل بمفردات تعاسته والاستثمار فيها وتطويرها، وتحويلها إلى دوامة شقاء وبلاء واعتداء على ذاته وموضوعه.والانشغال بالسعادة مهارة نفسية وفكرية وروحية وسلوك اجتماعي مُتعلم، وكذلك الانشغال بالتعاسة، فالمجتمع الذي يرعى قيم السعادة تتبرعم فيه آلياتها وتتسامق، وتكون ذات دور مهم في الحياة اليومية للناس، والمجتمع الذي يستثمر بمفردات التعاسة يساهم في إبذارها وإنباتها في أعماق الناس، ويدفعهم إلى متواليات تفاعلية ذات درجات فائقة من التعاسة والعناء والشقاء، ويجعلهم يستلطفون الحزن والدموع والوجيع ويتنكرون للبهجة والفرح والسرور.
والمسافة بين مجتمع سعيد وآخر تعيس تبدو شاسعة في هذا العصر التواصلي، الذي تتعرى فيها السلوكيات البشرية والحالات الاجتماعية، ويكون البشر على حقيقة ما فيه، ولا يمكنه أن يحجب أو يخفي ما يعتلج في دنياه من نوازع ودوافع وتطلعات ذات غايات تعيسة أو سعيدة.
إن الانشغال بالسعادة يعني التقدم والرقاء والأمن والسلام، والربح الاقتصادي والنماء المعاشي، والطمأنينة والمحبة والأخوة والعمل المشترك، والغيرة الوطنية والذود عن حياض الوجود السعيد بطاقات المجتمع وقدراته المتنوعة، وهو تنمية وتقدم وتطور ومواكبة وإبداع وجد واجتهاد، وشعور بالذات القوية والانتماء الأصيل للإرادة الجماعية والوطنية الخالصة.
والانشغال بالتعاسة يعني البؤس والحرمان والقهر والظلم، والعناء والخراب والدمار والدموع والدماء، والتخبط في متاهات التصارع والخسران وفقدان القدرة على الخطو إلى أمام، ويؤدي إلى الإندحار في الماضوية والتأسن بالأجداث، فتتكرر احتفالات الأحزان والأوجاع، وتقل مهرجانات الأفراح والحبور ويخيم عليها ضباب الأتراح، وتلون أيامها الدماء ويكثر فيها البؤساء، ويعم الشقاء وينتفي النعيم والرخاء.
والسبب أن ما يترسب في دنيا البشر ينبثق في سلوكهم ويؤسس لوجوده العاتي حولهم، وعندما يكون في البشر ما هو سعيد يكون الواقع الذي يعيشونه سعيدا، وعندما يختزنون ما هو تعيس يبدو العالم من حولهم مثل ما فيهم من تعاسات الرؤى والتصورات.
وتلك معادلة يتحكم بتفاعلات طرفيها البشر الذي يسعى فوق التراب!!
واقرأ أيضاً:
لا أديان بلا مذاهب ومشارب؟!! / التأريخ ما بين عالمين!! / التفنكرية!! / وداعا للرصاص!!