هذه جدلية صعبة أمضت البشرية مسيرتها في تصارعات وتجاذبات ما بين طرفيها، فالبشر في الدنيا، والبشر في الدين الذي يأخذه إلى ما بعد الدنيا، إلى حيث الغيب والتصورات المدوّنة في المخطوطات والكتب السماوية، والتي تشترك جميعها بأوصاف جنات النعيم. وفي معظمها هناك ثنائية الجنة والنار والخير والشر، والكفر والإيمان، والصدق والكذب، والعدل والظلم، والرحمة والقسوة، وغيرها من الثنائيات التي لا تحصى ولا تُعد. والمعضلة الكبرى أن البشر في الدنيا والدين في الدنيا، والبشر يريد الدنيا ويطمع بها ويحبها حبا جما، والدين يريده لغير الدنيا ويكرّهه بمباهجها ويذكّره بنهايته الحتمية، وهذه آلية تصارعية واعية وغير واعية تعتمل في دياجير الأعماق البشرية وتتسبب بسلوكيات وتداعيات ذات نتائج محيّرة. وأكثر البشر مهما بلغت درجة إيمانه وتدينه فإن فيه حب عارم للدنيا، وتفاعل لذيذ معها يجعله يوظف ما يستطيعه من الدين لخدمة الدنيا، أو لتحقيق ما فيه في الدنيا التي هو فيها، ولهذا فإن القادة الذين جاهدوا لإرساء دعائم الدين بجوهره الإنساني التعففي أصابتهم العزلة وانفض الجميع من حولهم، وفي التأريخ الأمر واضح، كما جرى مع الخلفاء عمر وعلي وعمر بن عبد العزيز.
ووفقا لما جاء في كتاب عبقرية علي لعباس محمود العقاد أن عقيلا شقيق علي فر منه، عندما رآه يعطيه كما يعطي غيره من الناس فذهب إلى معاوية وهو يقول: "أن أخي خيرٌ لي في ديني ومعاوية خيرٌ لي في دنياي"!! وهذا يوضح طبيعة السلوك البشري، وأن ليس من السهل انتصار الدين على الدنيا، وأن البشر دنيوي الطباع، ويحاول أن يكون ديني المتاع، ولكن بعد أن يقضي وطره من الدنيا ويتمتع بما يستطيعه منها، أما الحرمان فإنه يدفع إلى فنتازيا الدين وأحلام ما بعد الحياة، والاتجاه نحو تسفيه قيمتها وما ينجزه الدنيوي فيها، وهذا السلوك صار خطيرا لأنه يساهم في تحشيد وضغط المشاعر والعواطف المناهضة لما هو دنيوي، والعمل الأهوج الفتاك نحو ما هو ديني أو ما بعد الدنيوي. ولذلك فإن الصراع القائم ما بين الدينية والدنيوية رغم طبيعته الأزلية لكنه إتخذ مسارات خطيرة في الزمن المعاصر، لسهولة توفر الوسائل الفعالة للتعبير عن الهواجس الدينية المناهضة للدنيوية، ووفقا لهذا الاقتراب يمكن تفسير السلوك العنيف الجارف الذي يعصف في أرجاء الدنيا والذي يتوشح بالدينية، أيا كان أصلها ومعتقدها، مما سيتسبب بمتواليات هندسية من التداعيات التي ربما ستأخذ البشرية إلى مهاوي سقر.
وبسبب الطبع البشري البقائي والتنافسي يكون من العسير تحقيق حالة التوازن المثلى ما بين الدينية والدنيوية، ولو أن بعض الأديان قد طعّمت الدينية بلذائذ دنيوية، خصوصا فيما يتعلق بالتصرف بالنساء والغنائم ومنحتها توصيفات متوافقة مع الدينية، أما بفتاوى أو تشريعات، لكي تديم التفاعل الديني الدنيوي وكأنها تضع قدميها في مكانين، أو تشطر عقيدتها إلى نصفين، مع مخاطر الغلو في الاتجاهين، فينجم عن ذلك ديمومة تنازعية ومسيرة تصارعية قد تعيد بعض التوازن، لكنها تمضي متخفية أو علنية بين آونة وأخرى، وهلم جرا.
ويبدو أن الوجود البشري سيتواصل في هذا المعترك الاحتدامي إلى الأبد، حتى يتحقق إدراك أن الدنيا دين أو الدين دنيا، وأن الذي يأتي يكون متوافقا مع الذي يكون، وهذا ما لا يمكن للبشر أن يُدركه ويفوز بوعيه!!
فهل من توازان واتزان وميزان؟!!
واقرأ أيضاً:
هل تغيرت العقلية لتعقل الحلول؟!! / تبديد الطاقات!! / تيار الدنيا وبُركة العرب!! / بودقة الانصهار الوطني!!