ثق بربك لا بنفسك، جويرية تأكيد الذات مشاركة5
الفصل الرابع عشر
تقول الحكمة: الديون تُفضِي بالإنسان الحر إلى العبودية، وتقول أيضاً: "لا شيء يجلب الهموم مثل الديون".
عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ (لا آخذ) أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيماً ليعطيه العطاء، فيأبى أن يقبل منه شيئاً، ثم إن عمراً رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله. "فقال: يا معشر المسلمين، أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي حتى توفي". متفق عليه.
يرزأ: براء ثم زاي ثم همزة، أي: لم يأخذ من أحد شيئاً، وأصل الرزء: النقصان، أي: لم ينقص أحداً شيئاً بالأخذ منه. وإشراف النفس: تطلعها وطمعها بالشيء، وسخاوة النفس: هي عدم الإشراف إلى الشيء: والطمع فيه والتطلع إليه والشره.
إياك وعشق المال:
ينفق المبذر كل ما يجد، ويخبئ البخيل المال، ويمنع نفسه حظها فلا ينفق. ومعلوم أن المال لا يراد لنفسه، بل للمصالح، فإذا تعلق قلب الإنسان بالمال وعشقه احتاج إلى بذل وجهه ودينه للحصول على ذلك المال، وهؤلاء هم البخلاء. ولأن يخلف الإنسان المال لعدوه أحسن من أن يحتاج إلى صديقه. ومن الناس من يبخل، ثم يتفاوتون في البخل حتى ينتهي البلاء بهم إلى عشق عين المال. فربما مات أحدهم هزالاً وهو لا ينفقه!!، فيأخذه الغير ويندم الميت البخيل حيث لا ينفع الندم.
ويروي ابن الجوزي في هذا ما ليس فوقه مزيد، وذكرته هنا ليعتبر به البخلاء والأشحاء [كان بصور "في لبنان" تاجر في غرفة له يأخذ كل ليلة من البقال رغيفين وجوزة فقط، فيدخل إلى غرفته وقت المغرب، فيضرم النار في الجوزة فتضيء بمقدار ما ينزل ثوبه. وفي زمان إحراق القشر تكون قد استوت فيمسح بها الرغيفين ويأكلهما. وبقي على هذا مدة ثم مات، فأخذ ملك صور من غرفته ثلاثين ألف درهما!!ٍ].
ورأيت أن رجلاً من كبار العلماء قد مرض، فاستلقى عند بعض أصدقائه، ليس له من يخدمه، ولا يرافقه، وهو ضرير، فلما مات وجدوا بين كتبه خمسمائة دينار!!.
وحدثني أبو الحسن الراندسي، قال: [مرض رجل عندنا نعرف بخله، فبعث إلي فحضرت، فقال: قد ختم القاضي على مالي، فقلت: إن شئت قمت وفتحت الختم وأعطيتك الثلث تفرقة على المحتاجين، ولتعمل بباقي المال ما تشاء].
فقال: لا والله ما أريد أن أفرقه، بل أريد مالي أن يكون عندي. فقلت: ما يعطونك منه شيئا إلا أن آخذ منك الثلث لفقراء كي تكون حراً في باقي المال، فقال: لا أريد، فمات وأُخِذ ماله كله!!.
قال: [وجاء رجل فحدثني بعجيبة، قال: مرضت حماتي، فقالت لي: أريد أن تشتري لي خبيصاً (خليط من اللحم والحنطة والسمن والمكسرات وتُعد من أطايب الطعام)، فاشتريت لها، وكانت ملقاة في جانب من البيت، ونحن في جانب أخر، فجاءني ولدي الصغير وقال: يا أبتي، إنها تبلع الذهب، فقمت. وإذا بها تجعل الدينار الذهب في شيء من الخبيص فتبلعه.
فأمسكت يدها وزجرتها عن هذا.
فقالت: أنا أخاف أن تتزوج على ابنتي، فقلت: ما أفعل، فقالت إحلف لي، فحلفت، فأعطتني باقي الذهب، ثم ماتت فدفنتها.
فلما كان بعد أشهر، مات لنا طفل، فحملناه إليها، وأخذت معي خرقة خام، وقلت للقبوري: إجمع لي عظام تلك العجوز في الخرقة، فجئت بها إلى البيت وتركتها، في وعاء كبير، وصببت عليها الماء وحركتها، فوجدت بالوعاء ثمانين ديناراً أو نحوها كانت قد إبتلعتها].
وأظن من خبرتي في الطب النفسي أن هذه العجوز كانت تعاني من عته الشيخوخة، وأن ابتلاعها للدنانير كان من اضطراب السلوك المصاحب لعته الشيخوخة، وإن ظهر لنا أن هذا الاضطراب مُبالغا فيه، نظرا لحبها الشديد للمال وهي في كامل قواها العقلية.
وحكى لي صديق لنا، أن رجلاً مات و دفن في الدار، ثم نبش بعد مدة ليخرج فوجد تحت رأسه وعاء لحفظ اللبن. فسُئِل أهله عنها فقالوا: هو وعاء لحفظ اللبن، وقد أوصى أن يُترك تحت رأسه في قبره، وقال: إن اللبن يبلى سريعاً، وهذا الوعاء من الجلد لا يبلى؟!.
فأخذوها فوجدوها ثقيلة، فكسروها فوجدوا فيها تسعمائة دينار، تولاها أصحاب التركات.
وبلغني أن رجلاً كان يكنس المساجد، ويجمع ترابها، ثم عمل من هذا التراب لبنا، فقيل له هذا لأي شيء؟!، فقال: هذا تراب مبارك، وأريد أن يجعلوه على لحدي، فلما مات جُعِل هذا الطوب اللبن على قبره، وتبقى منه لبنات، فرموها في البيت، فجاء المطر فتفسخت اللبنات فإذا فيها دنانير!! .فمضوا وكشفوا الطوب اللبن عن قبره وكله مملوء دنانير .
ولقد مات بعض أصدقائنا وكنت أعلم أن له مالاً كثيراً، وطال مرضه فما اطلع أهله على شيء ولا أكاد أشك أنه من شحه وحرصه على الحياة، ورجائه أن يبقى لم يعلمهم بمدفونه، خوفاً أن يؤخذ فيحيا هو، وقد أخذ المال. وما يكون بعد هذا الخزي شيء.
ويستكمل ابن الجوزي قائلاً: حدثني بعض أصحابنا عن حالة شاهدها من هذا النوع، قال: [كان فلان البخيل له ولدان ذكران وبنت وله ألف دينار مدفونة، فمرض مرضاً شديداً فاحتوشته أهله، فقال لأحد ابنيه: لا تبرح من عندي.
فلما خلا به قال له: إن أخاك مشغول باللعب بالطيور!!، وأن أختك لها زوج تركي، ومتى وصل من مالي إليهما شيء أنفقوه في اللعب وأنت على سيرتي وأخلاقي، ولي في الموضع الفلاني ألف دينار، فإذا أنا مت فخذها وحدك. فاشتد بالرجل المرض فمضى الولد فأخذ المال ثم عُوفي الأب، فجعل يسأل الولد أن يرد المال إليه فلم يفعل، فمرض الولد فجعل الأب يتضرع إليه ويقول: ويحك خصصتك بالمال دونهم، فتموت فيذهب المال، ويحك لا تفعل، فما زال به حتى أخبره بمكانه، فأخذه ثم عوفي الولد، ومضت مدة فمرض الأب، فاجتهد الولد أن يخبره بمكان المال، وبالغ فلم يخبره، ومات وضاع المال، فسبحان من أعدم هؤلاء العقل والحكمة، "إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا".
مواقف متكررة:
1- أقرضت ابنتي خمسة آلاف جنيه لمساعدتها في دفع مقدم لشراء شقة لها، وكان هذا منذ خمس سنوات ولم ترد لي أيا منها حتى الآن.
2- هذا الرجل زميلي في العمل، ودائما لا يكون لديه المال الكافي ليدفع ثمن قهوته عندما نخرج بعد العمل!!، وذلك رغم أنه يكسب مالا مثلي تماما فلماذا دائما ما يطلب مني أن أدفع له؟!
3 - "جوعان ومسكين وبلا مأوى وفاقد للنطق، لله يا محسنين". أولئك الكلمات مكتوبة على لافتة من ورق مقوى.
4 - هل تود التبرع ببعض المال؟ فقط أنظر حولك وستجد العديد من المُستَجْدين المُتلهفين لذلك.
5 - هناك في الطريق أحد الشحاذين الذي يمكنه أن يسألك من أجل حسنة ما، وقد تسمع صوتا يخرج من الهاتف يخبرك كيف أن مؤسسات بلدك الخيرية المختلفة تحتاج بشكل بائس إلى مساعدتك.
6 - وقد تقوم بكفالة أحد أقاربك وهو على وشك الإفلاس بسبب الديون.
7 - إلى من يودون أن يكونوا من المحسنين؛ فالاختيارات عديدة تذهب بالعقل!!.
ولكن حتى المحسنين يحتاجون إلى قول "لا" أحيانا مع من يطلبون منهم المال. ولتلك المرات التي تكون فيها غير راغب في أن تخرج محفظتك، عليك أن تفكر في ردك وفي تطوير مهارات قول "لا". وحيث أن المشاعر السيئة سرعان ما تظهر عندما يتعلق الأمر بالنقود، فإن رفضك للأمر بطريقة مشفقة، ودون حكم قاس قد يساعدك على الحد من الخسائر لكليكما.
ويتبع >>>>>>>>>>> الأصدقاء الحقيقيون: الاستجابة لمطالب القرض