حافظ على مالك واعتدل في إنفاقك
الفصل الرابع عشر
إذا كنا نعيش أحياناً في عالم متكامل فقد يحتاج فيه أي شخص إلى طلب قرض من صديقه أو قريبه وسيرد المبلغ المُقترَض حين ميسرة، أما إذا كنا نعيش في عالم كامل تقريبا فإن كل شخص يطلب قرضا سيكون مسئولا، وموثوقا فيه، ويعيد الدين كاملا وفي ميعاده المحدد، وإلا فإن السجن ينتظره. إذاً لا بد أن هناك العالم غير المتكامل، وإن كنت تعيش في هذا العالم فلابد أن تتعلم كيف تقول "لا".
ثمن الصداقة:
إن كنت قلقا حقا على المال الذي أقرضته لأحد ما، فهناك فرصة جيدة أن يكون خوفك ليس بسبب المال حقا ولكنه بسبب ما يضيع مع المال.
عندما قرر "أحمد" أن يقرض قرضا لصديق له في محنة، أدرك أنه قد لا يرى المال مـرة أخرى، فمنذ أعوام كثيرة كان "سعيد" يعمل كصحفي مجاهد غير قادر على إيجاد عمل مستقر والاستمرار فيه، وقرر أن يعمل من خلال مقالاته الصحفية غير النظامية والقليلة الأجر، بينما كانت عائلته تقدم له بعض المساعدات المالية إلى جانب بعض من الأصدقاء، ولكن جفت هذه المعونة بعد ذلك وازداد موقفه سوءا، وتراكمت عليه الفواتير، وانقطعت عنه الكهرباء، وخط الهاتف وواجه خطر فقدان منزله تماما.
على الرغم أن "أحمد" قد آمن أن "سعيد" يجب ألا يلوم غير نفسه للمأزق الذي هو فيه!، فقد شعر بأنه مجبر على مساعدة صديقه بمبلغ يقدر بعدة آلاف من الجنيهات خلال أزمته الحالية، وكان يعلم جيدا أن "سعيد" لن يستطيع أن يرد هذا الدين وقد كان على حق بالطبع!!.
وبعد عدة شهور رأى "أحمد" صديقه "سعيد" وهو يستعيد نفسه من الأزمة، ورأه وهو في علاقة عاطفية مع إحدى السيدات، وقد بدى أنه أصبح رجلاً ناجحاً ويتناول طعامه في مطاعم جيدة ويستغرق في النوم إلى وقت متأخر في معظم الأيام ويقوم بالتسوق ومقابلة أصدقائه. وقد أغاظ ذلك "أحمد" كثيرا، وقد كان يعلم أنه إن انقلب الموقف، كان "أحمد" سيفعل أي شيء أو يعمل في أي عمل حتى يدفع الدين الذي عليه!.
لذا وجد "أحمد" نفسه في موقف غير سعيد، حيث أنه كان في إمكانه أن يتعقب "سعيد" لمطالبته بالمال، أو يصمت ولا يواجه صاحبه ولا يطالب "سعيد" بما عليه من دين، وكان "أحمد" يشك أن "سعيداً" سيعتبر رد القرض أحد أولوياته!، وذلك لأن "أحمد" كان يعمل عملا مجزيا دائماً، بينما "سعيد" من ناحية أخرى دائم البحث عن عمل.
وعلى الرغم أن "أحمد" كان دائما يعلم أن "سعيداً" شخصية غير مسئولة، فهناك جزء صغير في قلبه يدعوه للتفاؤل، وأن "سعيداً" سيأتي إليه يوماً ما ليرد ما عليه من دين!، ولكن هيهات هيهات؛ فعندما غير المال الأحوال ، لم يعد "سعيد" يهتم بغير عاداته السيئة من الإسراف، ولم يكن في وسع "أحمد" غير أن يحكم على صديقه -المنغمس في ملذات الحياة تماما- بقسوة أكثر من ذي قبل، والآن هو على مشارف أن يضيع منه شيء خاص؛ فغضبه من سلوك "سعيد" سبب لعلاقتهما أن تنحصر في أحد الأركان نتيجة لتدمير جزء هام في علاقة الصداقة وهو الثقة.
فعلى الرغم أنه لم يعبأ بالجزء المقتطع من أمواله في البنك إلا أنه أحس بالخديعة، فقد أساء إليه "سعيد" بأن قام باستغلاله وفشل في تحقيق الجزء الآخر من الصفقة وهو رد ما عليه من دين، ومن المحتمل أن يكون صحيحا أو غير صحيح أن المال يغير كل شيء، ولكنه بالتأكيد قد ينهي علاقة صداقة، وبالذات إن ضاعت الثقة بين الصديقين.
هذه العلاقة توضح أن القرض الشخصي في أهميته أكبر من مجرد صفقة مالية، وإذا كان المال هو الموضوع الأساسي، فالقرار سيكون بسيطا: فإما أن يكون لديك الكثير لتقرضه أولا، وبذلك تنتهي القصة.
وحتى إن كنت تمتلك الكثير من المال فقد تظل مترددا، فما هو إحساسك تجاه الشخص الذي ستقرضه المال؟ هل سيرد المال الذي اقترضه منك؟ أو على الأقل سيحاول رد الدين الذي في عنقه؟ وفيما يحتاج لهذا المال؟ منطقيا أن من يطلب منك قرضا يضطرك إلى وضع شخصيته تحت المجهر لتقييم مدى جديته وعزمه على رد دينه، وكذلك مدى حاجة طالب الدين للمساعدة المالية، أي تقرير ما إذا كان يستحق هذا القرض أم لا؟!، أما إذا لم توافق على سلوكه لسبب ما –أو أنه لن يرد المبلغ المقترض نتيجة لكسله وعدم اهتمامه– فلن تكون أنت المانح السعيد للمال. وصدقت المقولة: "المدين يقف منتصبا، والدائن يخر راكعا على ركبتيه".
ولكن بعض الناس يشعرون بالذنب عند قولهم "لا" عند طلب أي قرض مالي منهم، وذلك عندما يكون لديهم وفرة من المال، وخاصة إذا كان الشخص طالب القرض يعلم أن لدى ذلك الشخص أكثر من المبلغ المطلوب كقرض، وهذا بالفعل موقفا مربكا عندما يتورط فيه أي شخص، فقد تشعر بالإحراج لمجرد أنه تم طلب ذلك منك. ولكن إن تم حصارك لإقراض المال دون رغبتك فستشعر باستياء وإساءة ذاتية أكبر، وفي الحقيقة قد يؤدي الإقراض إلى العداوة والنزاع؛ وفي بعض الأمثال: "الإقراض يعني شراء نزاع"، ويقول مثل آخر: "إقراض قليل من المال يصنع مديناً، وإقراض كثير يصنع عدواً". ويقول مدين عانى من وطأة الديون: "نقلت الصخر وحملت الحديد فلم أر شيئا أثقل من الدين".
وبعد الكلام السابق دعونا ننتقل إلى طرفة من شاعر عاش بالطول والعرض في أزهى عصور أمتنا رخاءً؛ ألا وهو العصر العباسي الأول:
أبو نواس واستغلاله:
كان أبو نواس بهيميا في شعره وسلوكياته، حتى يروي الرواة عنه الكثير من قصص الانفلات والاستغلال، ولكن تاب قبل موته إلى الله تعالى بالجميل من أبيات التوبة والاستغفار التي غبطه عليها أبو العتاهية شاعر الزهد
يُحكى أن أبا نواس قال لأحد أصدقائه يوما:
يا أخي لم لا تدعوني يوما على الغذاء؟!
فقال صاحبه له:
لأنك جيد المضغ، سريع البلع، ما أن تضع اللقمة في فمك حتى تُعِد أخرى وتدسها إلى جانب أختها وتبلعهما معا!.
فقال أبو نواس:
وماذا تريدني أن أفعل إذا أكلت عندك؟!، هل تريدني أن أصلي ركعتين لله بين كل لقمة وأخرى؟!!.
قصص من الواقع
أعرف إحدى السيدات تعيش حياتها بالاستدانة من الناس، فهي سيدة والشهادة لله مشهود لها بالذكاء، ولكنها أحيانا تستخدم ذكاءها في الشر، وهي لا تُضيع الفرصة أبداً في طلب المال كقرض ممن حولها، وبالطبع لا تقوم بالسداد في الموعد الذي حددته لصاحب الدين -وغالبا ما يكون ذلك الموعد في أول الشهر الميلادي- إلا عندما يُلح من أقرضها المال على سداد ما أخذته منه من دين!، والكثير بالطبع ممن يقرضونها يستحون أن يطالبونها بما عليها من دين قد فات موعد سداده لشهور وسنين، وتلك النوعية ممن يقترضون من الناس غالبا ما يُحسِنون اختيار ضحاياهم، بحيث يكونون على درجة كبيرة من الحياء والخلق الرفيع والتدين، وهذه النوعية من الضحايا غالباً ما يصبرون على من يقرضونهم ولا يُلِحُّون على من يقترضون منهم ليسارعوا بسداد ماعليهم من ديون.
ولقد واجهت في حياتي العملية أربعة أشخاص لديهم هذا السلوك السيئ، اثنان منهم في مقتبل حياتي، وبالفعل أقرضت واحداً منهم مبلغاً من المال (مائة جنيه) لدين عليه أخذه من شخص ما يُلح صاحبه على سداده، ورغم أنه كتب لي إيصال أمانة (أحتفظ به إلى الآن كدرس مؤلم لي)، ولكنه انتقل من منزلنا حيث كان يعمل حارسا، وبعد اختلافه مع اتحاد ملاك عمارتنا رحل عنا، ولم أرغب وقتها في أن أكون مُلِحاً في طلب ذلك المبلغ منه وهو في تلك الظروف الصعبة!، ولكنني لم أره و لم أرى أحداً من أبنائه منذ أن رحل من عمارتنا، ولم أستدل على عنوانه الجديد إلى الآن!.
أما السيدة التي رويت قصتها فلم تطلب مني مالاً كقرض، ولكنها كثيراً ما تطلب مني خدمات طبية وكفى!، ولكنني عرفت قصتها المتعلقة ب"طلب القروض غير المردودة" من أحد ضحاياها.
أما الشخصية الثالثة فقد كنت دائما أعطيها أقل بكثير مما تطلبه مني، والحمد لله فقد استوفيت منها كل ما عليها من ديون في صورة كتابة بعض الأوراق العلمية لي.
أما الشخص الرابع، فعندما طلب مني مبلغاً من المال على سبيل القرض، على أن يسدده لي أول الشهر، قمت بالسؤال عنه لدى بعض زملائه من ناحية معاملاته المالية وبالذات سلوك طلب القروض المالية من خلق الله؛ ولكنهم أخبروني أنه سيء السمعة بالنسبة لهذا السلوك، فاعتذرت له، لكثرة المبالغ المالية المطلوبة مني، ولدهشتي لقد أصبح أكثر حذراً واحتراماً لي عندما يقابلني صدفة بعد ذلك!، صدق المثل: "لا تبع نقداً بدين".
ولا يصح أن نخوض في الجشع واستغلال الغير إلا ونذكر طرفة عن أشعب، الذي عاصر المنصور الخليفة العباسي الشهير:
جشع أشعب:
سُئل أشعب يوما، إلى أي حد يصل جشعك وتطفلك يا أشعب؟!.
فأجاب:
إذا رأيت دخانا يتصاعد من بيت جاري أكسر خبزي في قصعة وأهيئه على أمل أن يصلني شيء من المرق (الشوربة) لآكل فتة.
وإذا زفت عروس إلى عريسها كنست بيتي ورتبت أشياءه وفتحت بابه على مصراعيه، على أمل أن يأتيني من هدايا وطعام ذلك العرس ولو بطريق الخطأ!!.
والآن أنقل لكم قصه واقعية حدثت لشاب أعزب في مدينة خليجية، ووصلتني عن طريق بريدي الإلكتروني، ورأيت القصة تصلح في سياق ذلك الفصل، والذي أتبنى وأدعو فيه لعدم الطمع واستغلال الآخرين، وقد أسميتها:
أشعب الجديد:
يقول أخونا كنت في إحدى الليالي جائعاً وقررت أن اذهب لأحد المطاعم المشهورة!، وعندما وصلت غيرت رأيي وذهبت لمطعم آخر ولكنه كان مقفلاً، وجاءتني فكرة وهي: أن اذهب لأحد قصور الأفراح وأتعشى شيئا دسما عليه الكلام, ولا من شاف ولا من دري, دخلت القصر وكان مزدحم بالناس وجلست في موقع بين مجموعة من كبار السن وكعادتي أخذت أروي لهم الطرفة تلو الأخرى, وأراقب متى يأتي موعد الوليمة حتى سألني احدهم من أنت؟!
فقلت أنا فلان!!!
فقال فلان بن من؟
فقلت أنا من جماعة العريس!!!
فحرك رأسه وكأنه اقتنع!!!
فقلت له أنت أكيد من جماعة العروس؟؟؟
فقال نعم أنا كذلك!!!
أكملنا الحديث حتى جاء الفرج وحضر الطعام وقام الجميع، وجلست على أحد الصحون وبه أرز ولحم مُعتبر وجلس معي ذلك الرجل المسن، وبدأنا في التهام الطعام!!
وحينها سألني ذلك الرجل قائلاً؟!
تقول أنك من جماعة العريس؟؟؟
قلت له نعم؟!!!
فقال وهو يبتسم كُل يا ولدى وتوكل على الله!!، ليس هذا بِعُرس الله يهديك!!، هذا اجتماع لأسرة!!!، وعندها أحسست أن الحاضرين كلهم ينظرون إليَّ!!!، فخرجت مسرعاً حتى أنني لم أغسل يدي إلا في شقتي!، من جد قمة الإحراج، والله أسأل ألا يضع أي شخص نفسه في مثل هذا الموقف الصعب!!.
ويتبع >>>>>>>>>>> "لا" لمطالب القروض الكبيرة