الأصدقاء الحقيقيون: الاستجابة لمطالب القرض
الفصل الرابع عشر
قل "لا" لمطالب المال بلغة بسيطة، دون أن تقدم الأعذار لقرارك هذا - وقدم معلومة محددة تضع مسئولية متابعة القضية بعد ذلك عليه وحده، بأن تقول "لا" كنت أتمنى لو أستطيع، ولكن لا يمكنني ذلك، لا يمكنني ذلك على الإطلاق، أو آسف، لدي كثير من الالتزامات المادية أضاعت ما لدي من نقود في هذا الشهر، أما إذا أردت لنفسك المزيد جرب واحدة مما يلي :
اعذار حفظ ماء الوجه: "لا أستطيع منحك إياه"
قل "لا" بسبب قلة الموارد المالية، أعمل على إزالة العنصر الشخصي من قرارك، وبالنسبة لطالب القرض فهي طريقة أقل إحراجا لرفضك طلبه، حتى وإن كان عليك أن تضيف إلى الحقيقة قليلا، ففي بعض الحالات قد تضيف أنك تقول "لا" لأسباب مالية، ومرة أخرى إجعلها بسيطة، يقول لقمان الحكيم: "نقلت الصخر وحملت الحديد فلم أر شيئاً أثقل من الدين".
آسف، ليس هذا وقت ملائم بالنسبة لي لأقرضك مالا!.
سيحدث عجز مالي شديد في ميزانيتي إن أقرضتك مالا الآن!.
آسف، لا أستطيع، فأنا أعمل عملا حرا، ودخلي غير ثابت؛ وعلي أن أتأكد أنني أمتلك المال الكافي في أوقات كساد السوق.
المبدأ: "الأصدقاء والقروض لا يجتمعان"، وبتفصيل أكثر: "إذا نحن امتنعنا عن الإقراض نخسر أصدقاءً، وبإقراضنا إياهم نكسب أعداءاً"
آسف، فلدي مبدأ محدد بعدم إقراض المال للأصدقاء، أعتقد أنه مبدأ عقلاني.
لا أؤمن بإقراض المال للأصدقاء، إلا إذا كان في الحالات الضرورية؛ وحيث أن هذه ليست إحداها، فعلي أن أقول "لا".
صداقتك مهمة لي جدا، ولهذا فلست أشعر بالراحة في إقراضك المال، وأعتقد أن طبيعة علاقتنا ستتغير إن كنت مدينا لي، لا أود أن يتسبب ذلك الدين في مشاكل بيننا!!.
يقول المثل الهندي: "الإقراض يعني شراء نزاع". أما المثل الصيني فيقول: "المدين يقف منتصبا، والدائن يخر راكعا على ركبتيه".
لمن تحل المسألة:
في صحيح مسلم أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: "لذى فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو جائحة" وفي السنن قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله"، وفي سنن أبي داود، إن كنت لابد سائلا فاسأل الصالحين، وقد اختلفت العلماء في ذلك، والمعروف عند الشافعية أنه جائز لأنه طلب مباح، وحملوا الأحاديث الواردة على من سأل من الزكاة الواجبة ممن ليس من أهلها، لكن قال النووي في شرح مسلم: اتفق العلماء على النهي عن السؤال من غير ضرورة. قال: اختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين اصحهما التحريم لظاهر الأحاديث. والثاني: يجوز مع الكراهة بشروط ثلاثة:
أن لا يلح،
ولا يذل نفسه زيادة على ذل نفس السؤال،
ولا يؤذي المسئول،
فإن فقد شرط من ذلك حُرِم سؤال الصدقة من الغير.
وجميع ما تقدم فيمن سأل لنفسه، وأما إذا سأل لغيره فالذي يظهر أيضا أنه يختلف باختلاف الأحوال.
قوله: "وإضاعة المال" تقدم في الاستقراض أن الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعا سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه، لأن الله تعالى جعل المال قياما لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح، إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثني من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقا أخرويا أهم منه، والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعا فلا شك في منعه،
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحموده شرعا فلا شك في كونه مطلوبا بالشرط المذكور، والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف،
والثاني: ما لا يليق به عرفا، وهو ينقسم أيضا إلى قسمين:
أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة إما موجودة أو متوقعه، فهذا ليس بإسراف،
والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف،
ويكره كثرة إنفاق المال في مصالح الدنيا، ولا بأس به إذا وقع نادرا لحادث يحدث كضيف، أو عيد أو وليمة، ومما لا خلاف في كراهته مجاوزة الحد في الإنفاق على البناء زيادة على قدر الحاجة، ولا سيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة، وأما إضاعة المال في المعصية فيدخل في نطاق ارتكاب الفواحش.
وأما إنفاق المال في الملاذ المباحة فهو موضع اختلاف، فظاهر قوله تعالى: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" أن الزائد الذى لا يليق بحال المنفق يُعد إسرافا، ثم قال: ومن بذل مالا كثيرا في غرض يسير تافه عده العقلاء مضيعا.
وعلينا أن نتذكر الحكمة التالية جيداً:
أحفظ قلبك ولسانك وبطنك وعينيك:
تقول الحكمة:
إذا كنت وحدك فأحفظ قلبك،
وإذا كنت في الناس فأحفظ لسانك،
وإذا كنت على المائدة فأحفظ بطنك،
وإذا كنت في الطريق فأحفظ عينيك.
إنفاق المال كهدية أو صدقة أفضل: "لا ترد المال لي"
في بعض الأوقات قد تفضل منح جزءً من مطالب المال كهدية أكثر من كونها قرضا، وتتميز الهدية أنها تريح كلا منا؛ فلا يكون لدينا ضغوط من القلق والتوتر لسداد المبلغ، ولكن لا تفعل ذلك حتى تعرض هديتك المالية بكل رحابة صدر ودون إساءة و دون منٍّ ولا أذى.
لا يا صديقي؛ فأنا لا أقرض أحداً مالا ولكن سأقدم لك مبلغاً مالياً كهدية أرجوك أن تقبله مني!. وتستطيع أن تعتبر هذا المبلغ مساعدة بسيطة على قدر الحال من صديق حميم لك!، والصديق لوقت الضيق، أتمنى أن يساعدك هذا المبلغ.
وقد تقدم المال للمحتاج على أنه هدية منك له، وفي نيتك أنه صدقة لمحتاج تنتظر أجرك عليها من الله عز وجل، وهناك مقولة طيبة تقول: "تصدق بعشرة جنيهات، بدلاً من إقراض مائة جنيه من المحتمل أن تخسرها".
قد يرد الصديق عليك قائلاً: سوف أسدد هذا المبلغ فور توافر المال لدي.
وسيكون ردك فوراً: بدلا من رد المبلغ لي، أفضل أن تقوم بإعطاء المبلغ مباشرة لصندوق الصدقات بالمسجد أو الكنيسة الفلانية.
بين الأجيال:"إرفع يدك عن عش البيض":
منذ سنوات سألت إحدى الصيدلانيات أباها أن يساعدها في دفع مقدم لشراء شقة فخمة خاصة بها، فكان رد والدها عليها وبحزم:
"إنس الموضوع، فلا يجب أن تشتري شقة فخمة لا يمكنك أن تتحملي ثمنها!!". وبعد فترة، شعرت أن أباها لديه وجهة نظر كما أن لديه الحق في توفير المال لمستقبله الخاص، وكذلك أنت عندما يكبر أولادك، ويطلبون منك قرضا لمشروع ما لديهم!، ولكنك لا تشعر بالراحة تجاه ذلك المشروع أخبرهم بإحدى العبارات التالية:
لقد كنت أوفر هذا المال من أجل تقاعدي، وهناك العديد من الأشياء التي أود إنفاقه عليها.
آسف، ولكن يجب عليك أن تجد طريقة أخرى لدفع هذا المبلغ.
آسف، ولكن أنا لا أؤمن أن يعيش الناس بعيدا عن مواردهم المالية؛ فإذا لم تستطع أن تقنع بنكا بأن يقرضك هذا المال فأنا أيضا لا أستطيع تقديمه لك.
بقدر ما أحبك وأريدك أن تكون سعيدا، فأنا لا أستطيع أن أعطيك القرض!، أنت الآن ناضج بما فيه الكفاية لتجد طريقة ما لتوفير هذا المبلغ بنفسك، ولو بعد حين.
وتذكر دائماً أنه عندما يقوم شخص ما بحصارك لإقراضه مبلغاً ما يمكنك دائما أن تشتري لنفسك بعض الوقت في البحث عن إجابة بقولك:"علي أن أراجع حسابي المالي والديون والأقساط المطلوبة مني شهرياً أولا"!.
رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى
أو رد عليه ببساطة: "دعني أفكر في الأمر وأعود إليك".
وفي هذا المقام أعجبتني بعض الأبيات لسيدنا الإمام علي رضي الله عنه ينهى فيها أي شخص عن طلب المساعدة من أي شخص آخر فيقول:
كد كد العبـــد إن أحببت أن تصبح حــرا
واقطع الآمال مــن مال بني آدم طــــرا
لا تقل ذا مكســب يزري فقصد الناس أزرى
ومعنى الأبيات: إن أردت الحياة الشريفة الحرة فابذل جهدك وجد في عملك مثلما يجد العبد حتى يُعتَق، ولا تعتمد على مال غيرك أبدا، ولا تستهن بكسب يدك فإن الاستجداء هو الأكثر هوانا, وبقدر ما تستغني عن الناس تكون أكثر رفعة وأعز مقاماً.
حكاية؛ يقال أنه كان قد ولى أنو شروان عاملاً فأنفذ العامل إليه زيادة في الخراج ثلاثة آلاف درهم فأمر شروان بإعادة الزيادة إلى أصحابها وأمر بصلب العامل.
وكل سلطان أخذ من الرعية شيئاً بالجور والغصب وخزنه في خزائنه كان مثله رجل عمل أساس حائط ولم يصبر حتى يجف ثم وضع البنيان عليه فلم يبق الأساس ولا الحائط. ينبغي للسلطان أن يأخذ ما يأخذه من الرعية وأن يهب ما يهبه بقدره لأن لكل واحد من هذين حداً محدوداً كما جاء في الحكاية.
المأمون والإنفاق:
يقال أن المأمون ولى يوماً ثلاثة أنفار ثلاث ولايات فأعطى لواحد منهم منشور خراسان، وخلع عليه ثلاثة آلاف دينار، وولى الآخر ولاية مصر وخلع عليه خلعة مثلها، وولى الآخر ولاية أرمينية وأعطاه خلعة مثلها، ثم استدعى يومئذ موبذان (الكاهن المسئول عن عبادة النار في الديانة الزرادشتية، ديانة الفرس قبل الإسلام)، وقال يا دهقان هل كان لملوك العجم مثل هذه الخلع؛ فإنه بلغني أن خلعهم ما كانت تبلغ أكثر من أربعة آلاف درهم فقال الموبذان: أطال الله بقاء أمير المؤمنين كان لملوك العجم ثلاثة أفعال ليست لكم:
(أحدها) أنهم كانوا يأخذون ما يأخذونه من الرعية بقدر ويعطونه بقدر.
(والثاني) أنهم كانوا يأخذون من موضع يجوز الأخذ منه ويعطون لمن ينبغي أن يعطى.
(والثالث) أنهم ما كان يخافهم إلا أهل الريب.
فقال المأمون: صدقت ولم يعد عليه جواباً.
ولأجل هذا لما كشف المأمون تربة كسرى أنو شروان وفتح تابوته وفتشه وجد صورته وهي بمائها ما بليت والثياب بجدتها ما تغيرت ولا خلقت والخاتم في يده ياقوت أحمر غالي الثمن جدا وما رأى المأمون قبله فصاً مثله قط، وكان على فصه مكتوب عليه "مه نه مه به" بالفارسية وتعني:
"أكبر الأجود وليس كل أجود أكبر"، فأمر المأمون أن يُغطى بثوب نسج من الذهب، وكان مع المأمون خادم أخذ الخاتم من أصبع كسرى، ولم يشعر المأمون، فلما علم بذلك الأمر أعاد الخاتم لأصبع كسرى، وأمر بقتل ذلك الخادم، وقال: كاد يفضحني فيقال عني إلى يوم القيامة أن المأمون كان نباشاً وأنه فتح تربة كسرى وأخذ خاتمه من أصبعه!.
وهذه القصة نستخلص منها الكثير من المعاني؛ ومن تلك المعاني الجميلة أن إنفاق أي درهم يجب أن يكون في موضعه بلا تبذير، وأن أي درهم يأخذه الحاكم من رعيته فيجب أن يكون بالحق، وليس ظلما وعدوانا، وأن الحاكم عليه أن يقرب منه ومن مجالسه أهل الخير، وأن يبتعد عن أهل الريب والشر، بل ويبعد هؤلاء عن مجالسه، أما موقف المأمون من فص الياقوت في أصبع كسرى أنوشروان فيدل على أهمية عفة الحاكم عن الدنايا، وألا تمتد يديه لما لا يخصه، بل ويأخذ على يد (وبقسوة) كل من يتعدى على ممتلكات الغير، ولو كان قد فني صاحب المال من آلاف السنين، والمعروف أن الخليفة المأمون بن هارون الرشيد كان من أم فارسية، من أكارم بيوت الفرس.
ويتبع >>>>>>>>>>> "لا" لمطالب القروض الكبيرة2