"لا" لمطالب القروض الكبيرة1
الفصل الرابع عشر
وإن اخترت أن تقرض مالا، فأضعف الإيمان أن تكون ذكيا فتجعله مكتوبا، وتزداد أهمية كتابة الدين إذا كان المبلغ الذي سوف تقرضه كبيراً بالنسبة لك، والقرآن الكريم حض على كتابة الدين مهما قل أو كثر، وتعتبر آية الدين في سورة البقرة من أطول الآيات في القرآن الكريم كله!، وفي هذه الآية كل تفاصيل كتابة الدين، لدرجة أن من يكتب هو صاحب الدين أو وليه، وأن المُقتَرِض هو الذي يُملي صيغة عقد أو إيصال الأمانة. وضع في اعتبارك أن في الأمر خطرا كبيرا عندما يعترض الشخص طالب القرض على هذا الأمر!، أو يشعر بالإهانة أنك فعلت هذا معه!.
إن أحسن طريقة لحماية العلاقة بينكما هو عقد اتفاقية منصوص فيها على بنود القرض، لأنه قد يساعد على تجنب أي خلافات قد تنشأ بعد ذلك. كما تؤكد كتابة القرض على أن القرض صفقة "حقيقية" في حالة أن ينسى أحد الطرفين ذلك، أو يموت أحد الطرفين، والموت حق على كل البشر، فيكون هذا العقد ضماناً لحقوق الطرفين، وليس من المفترض أن تكون صيغة هذا الإيصال أو العقد معقدة أو مبالغ فيها، كما أنك لن تحتاج إلى محام –مجرد جملة بسيطة تشير إلى مبلغ القرض، وجدولة الدفع- وقم بعمل نسختين لكما موقعة من قبل كل منكما لتحتفظا بهما، وذلك بعد أن يوقع شاهدان على كل من الإيصالين.
مالك بن دينار يعطي لصا ما هو أفضل من المال:
ذُكر أن لصا تسور دار مالك بن دينار فلم يجد في الدار شيئا يسرقه فرآه وهو قائم يصلي فأوجز مالك في صلاته ثم التفت إلي اللص وسلم عليه وقال: يا أخي، تاب الله عليك دخلت بيتي فلم تجد ما تأخذه ولا أدعك تخرج بغير فائدة وقام وأتاه بإناء فيه ماء وقال له توضأ وصل ركعتين فإنك تخرج بخير مما جئت لأجله.
فقال: اللص نعم وكرامة.. وقام فتوضأ وصلى ركعتين
وقال يا مالك: أيخف عليك أن أزيد ركعتين أخرتين؟
قال مالك: زد ما قدر الله لك فلم يزل يصلي إلي الصبح
فقال له مالك: انصرف راشدا
فقال: يا سيدي عليك أن أقيم عندك هذا اليوم فإني قد نويت الصيام،
فقال له مالك: أقم ما شئت فأقام عنده أياما صائما قائما فلما أراد الانصراف
قال اللص: يا مالك قد نويت التوبة فقال مالك: ذاك بيد الله عز وجل، فتاب اللص وحسنت توبته وخرج من عنده فلقيه أحد اللصوص فقال له أظنك وقعت بكنز!!
فقال: يا أخي وقعت بمالك بن دينار جئت لأسرقه فسرقني وقد تبت إلي الله -عز وجل-
وها أنا ملازم الباب فلا أبرح حتى أنال ما ناله الأحباب، وصدقت الحكمة القائلة:
الغنى الأكبر في ثلاثة أشياء:
نفس عالمة تستعين بها على دينك، وبدن صابر تستعين به على طاعة ربك وتتزود به لمعادك وليوم فقرك، وقناعة بما رزقك الله باليأس عما عند الناس.
الإخلاص في سداد الدين:
يقول أحد الشيوخ الفضلاء أنه جاءه أحد الأشخاص وأبلغه أنه مثقل بالديون ولا يستطيع سدادها حتى لو عمل خمسين سنة دون أن يستقطع أي شيء من راتبه. فقال له الشيخ استعن بالله ولا تيأس والزم الاستغفار ليل نهار وفي كل حين ولن يخذلك الله أبدا. وكما قيل:
"أداء الدَّين من الدِّين".
غاب الرجل عاما وحضر إلى الشيخ وابتسامته تسبقه، وقام بتعريف نفسه للشيخ، فسأله الشيخ عما غير حاله فقال ذهبت في يوم من الأيام إلى أحد المكاتب العقارية للبحث عن مسكن آخر لاستئجاره فشهد إتمام صفقة عقارية واتفق الحاضرون على توزيع السعي (السمسرة) على من حضر، وكان نصيبه من تلك البيعة وهكذا استمر سمسارا في الأراضي وكان التوفيق حليفه من بيعة إلى أخرى حتى قضى كل ديونه وتحسنت أحواله بفضل الله ثم بفضل نيته الحسنة في أن يقضي الدين، فأعانه الله على ذلك، وصدق مورييه: "من يُسددْ ديونه يَغتَنِ".
يقول صلى الله عليه وسلم في حديث لأبي هريرة: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أداها الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله"، رواه البخاري.
ويقول سيدنا عمر رضي الله عنه أورضاه: "لا خير فيما دون الصدق من الحديث، من يكذب يفجر، ومن يفجر يهلك، قد أفلح من حُفِظَ من ثلاث: الطمع، والهوى، والغضب".
"لا" للمتسكع:
لا يُعد المتسكع عبئا ماديا كبيرا، ولكنه بدلا من ذلك يعد: كنقاط المياه المنتظمة والبطيئة الســـقوط. إنهم الناس الذين يصطدمون بك يطلبون جنيها وراء جنيه حتى يصبح هذا أسلوبهم في الحياة، وصدق المثل القائل: "الإيد اللي تأخذ ما تديش"، فليس لديهم أي نقود عندما تخرجون سويا حيث لا يستطيعون أن يدفعوا حسابهم، لأنهم ببساطة ليس معهم أي نقود حتى لتذكرة الباص، ويحتاجون إلى التطفل عليك لأخذها منك، ولا يردون المال لك!، ولكنك تشعر بالإحراج الكبير لتعترض على سلوكهم هذا!. عن أبي أمامة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(اظهروا اليأس فإنه غنى، وإياكم والطمع فإنه فقر حاضر).
وكل حادثة بسيطة في حد ذاتها تعتبر شيئا تافها، ولكن إذا تجمعت مثل كل أولئك النقاط من المياه في حوض الحمام ففي الإمكان بالتأكيد أن تقودك للجنون، وبذلك يجب على المتسكع أن يتوقف، وصدق المثل القائل: "ليس للمتسولين حق الاختيار".
والاقتراحات التي نقدمها لك حتى لا تنجرف في هذا التيار هي على النحو التالي:
قل لصديقك: "البنك مغلق أيها المتسكع".
لقد وصلت بالفعل إلى آخر حدود دينك معي، لقد مللت من طلبك للنقود.
عليك بغناء: "لا أستطيع أن أعطي لك شيئا غير الكلمة الطيبة".
ولنتذكر قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "الطمع اللؤم".
وخطط أيضا للامتناع عن دفع الأموال له ولغيره من المتسكعين في الأماكن المختلفة، وذلك من أجل إبعاد المتسكعين عنك، فعلى سبيل المثال: قبل أن تخرجا لتناول العشاء معا إسأله: هل تريد التوقف عند ماكينة سحب النقود أو لا، وذلك للتعبير عن أنك ليس معك ما يكفي من النقود لتقرضه، وعندما تجلس على طاولة المطعم قل شيئا مثل: علي التأكد من أنني أملك المال الكافي قبل أن أطلب أغلى الأصناف. يقول أحد الصالحين: "لم أجد فيما بلونا شيئاً أشد علي من طالح يلي أمر صالح، ولم أر لهذا الدهر دواء إلا الصبر عليه، ولم أر هلاك أهله إلا في الطمع"، فاحذر أن تطمع في مال أحد.
عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" متفق عليه.
الأمهات جمع أم لغة وإنما خصت الأم هنا إظهاراً لعظم حقها وإلا فالأب محرم عقوقه، وقد وقع من بعض أولاد الصحابة شكاية الأب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في احتياجه لماله فلم يعد النبي صلى الله عليه وسلم شكايته عقوقاً (قلت) في هذا تأمل فإن قوله "أنت ومالك لأبيك" دليل على نهيه عن منع أبيه عن ماله وعن شكايته ثم قال صاحب الضابط: فعلى هذا، العقوق أن يؤذي الولد أحد أبويه بما لو فعله مع غير أبويه كان محرماً من جملة الصغائر فيكون في حق الأبوين كبيرة، أو مخالفة الأمر أو النهي فيما يدخل فيه الخوف على الولد من فوات نفسه أو عضو من أعضائه في غير الجهاد الواجب عليه، أو مخالفتهما في سفر يشق عليهما وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس لطلب علم نافع أو كسب، أو ترك تعظيم الوالدين فإنه لو قدم عليه أحدهما ولم يقم إليه أو قطب في وجهه فإن هذا وإن لم يكن في حق الغير معصية فهو عقوق في حق الأبوين.
قوله "ووأد البنات" بسكون الهمزة وهو دفن البنت حية وهو محرم وخص البنات لأنه الواقع من العرب فإنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية كراهة لهن، يقال أول من فعله قيس بن عاصم التيمي وكان من العرب من يقتل أولاده مطلقاً خشية الفاقة والنفقة: وقوله "منع وهات" المنع مصدر من منع يمنع والمراد منه ما أمر الله أن لا يمنع وهات فعل أمر مجزوم والمراد النهي عن طلب ما لا يستحق طلبه، وقوله "وكره لكم قيل وقال" يروى بغير تنوين حكاية للفظ الفعل.
وروي منوناً وهي رواية في البخاري، "قيلاً وقالا"، على النقل من الفعلية إلى الإسمية والأول أكثر. والمراد به نقل الكلام الذي يسمعه إلى غيره فيقول قيل كذا وكذا بغير تعيين القائل وقال فلان كذا وكذا وإنما نهى عنه لأنه من الاشتغال بما لا يعني المتكلم ولكونه قد يتضمن الغيبة والنميمة والكذب ولا سيما مع الإكثار من ذلك قلما يخلو عنه: وقال الطبري، فيه ثلاثة أوجه، أحدهما أنهما مصدران للقول تقول قلت قولاً وقيلا. وفي الحديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام، ثانيها إرادة حكاية أقاويل الناس والبحث عنها لتخبر عنها فتقول قال فلان كذا وقيل له كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه وإما لما يكرهه المحكي عنه، ثالثها أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين كقوله قال فلان كذا وقال فلان كذا ومحل كراهة ذلك في أن يكثر منه بحيث لا يأمن من الزلل وهو في حق من ينقل بغير تثبت في نقله لما يسمعه ولا يحتاط له، ويؤيد هذا الحديث الصحيح "كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع" أخرجه مسلم.
قلت: ويحتمل إرادة كل من الثلاثة، وقوله "وكثرة السؤال" هو السؤال للمال أو عن المشكلات من المسائل أو مجموع الأمرين وهو أولى وقيل كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان وكثرة سؤال إنسان معين عن تفاصيل حاله وكان مما يكرهه المسؤول. وقوله "وإضاعة المال" المتبادر من الإضاعة ما لم يكن لغرض ديني ولا دنيوي وقيل هو الإسراف في الإنفاق.
وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام أو ما أنفق في غير وجوهه المأذون فيها شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد وفي التبذير تفويت لتلك المصالح؛ إما في حق صاحب المال أو في حق غيره قال:
وسأكرر ما قيل في كثرة الإنفاق، وأنه على ثلاثة وجوه:
الأول الإنفاق في الوجوه المذمومة شرعاً ولا شك في تحريمه.
الثاني الإنفاق في الوجوه المحمودة شرعاً ولا شك في كونه مطلوباً ما لم يفوت حقاً آخر أهم من ذلك المنفق فيه.
والثالث الإنفاق في المباحات وهو منقسم إلى قسمين:
أحدهما أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، كشراء سيارة فخمة وفيلا كبيرة وضيعة ضخمة تتناسب مع غنى الشخص وأمواله، فهذا ليس بإضاعة ولا إسراف.
والثاني أن يكون فيما لا يليق به عرفاً، أما إن كان لدفع مفسدة فذلك ليس بإسراف، مثلا أن يعطي قريبا له مبلغا كبيرا من المال ليتزوج ويعف نفسه، وإن لم يكن كذلك فالجمهور على أنه إسراف ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا ولا بأس به إذا وقع نادراً لحادث كضيف أو عيد أو وليمة والاتفاق على كراهة الإنفاق في البناء الزائد عن قدر الحاجة ولاسيما إن أضيف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة، والتكاليف الباهظة في الأفراح والاحتفالات التي يُمنع من حضورها الفقراء، وتقتصر على عِلية القوم فقط!.
ويتبع >>>>>>>>>>> لا لفرصة العمر