عندما يجلدك الواقع جلدا، وتشاهد أحلامك وتطلّعاتك أمام عينك تتكسّر وتُسحق سَحقا، وتَــكتِشف أنّ واقعية الحياة وبرودها اتجاهك لا يُمكنها أن تتبنّى سذاجتك... ولا يمكن للوقائع أن تقبل إلا بقوانينها وليس بتفسيراتك التي تُدغدغ المشاعر... وأنّ العالم ليس بسيطا لدرجة اختزاله في "وصفة سحريّة"... وأنّ العقلية السائدة تعادي الحقيقة وتغفل عن كل ما هو علميّ رصين... وأن الخطابات المثالية تكاد تُشعرك أنّك ملعون بسبب اكتشافك لتهافتها ... وتكاد تنزِع منك يقينك في "وجود خلل تكرّس له تلك المثالية"....
...عند ذلك كلّه... ستَكرَه كلّ خطاب ساذج سطحيّ يصدّر لك الكذب ويلفّق لك الحقائق سواء كان باسم الله تعالى أو باسم الدين أو حتى التنمية الذاتية والتفكير الإيجابي..!! وردة الفعل هذه ليست مجرّد حالة انفعالية وكآبة تُعمي البصيرة عن كلّ "تغيير محتمل وممكن" يكون صاحب الخطاب فيه محقا ... (وقد تكون كذلك حسب الأشخاص) بل هي حالة "فكرية منطقيّة" تسعى بها لفهم أحسن لإرادة خالق هذا الكون ودينه بعيدا عن النّمط المستحْكِم الذي لا يقبل التجزيء (مع أنّ الخطأ طال بعض جوانبه)... وإلى فهم نفسك ومحيطك ومجتمعك وعالمك... بعيدا عن طبطبات من قبيل ما يقال لمن سيموت لتوّه بعد أن قال "هذا آخر أيامي":"لااا تقل ذلك ستعيش ونذهب للشاطئ" !!...
ثم تمرّ دقيقة ويموت.. فيكون صاحبه "المثاليّ العاطفيّ" قد أراح ضميره بآخر "كذبة مثالية" يُسمعها للمحتضِر... ويرحل الميّت وهو لم يعرف هل كان محقا بقوله "هذا آخر أيامي"... ولعلّ معرفته أنّه كان محقا أفضل له من سماع كذبة "الخلود" إذ سرعان ما يكتشف أنّها كِذبة!!
في موقف كهذا... سأعجب بواقعية المحتضر ودقة ملاحظته وعلمه بحدود بشريّته، وأنّه فقَــدَ كثيرا من الدم وأنّ الرصاصة اخترقت كبده.. لأنّه قدم تفسيرا متوافقا مع ما حدث وسيحدث... أما صديقه الذي قال له ستعيش.. سأعتبره طيّب القلب حريصا على مشاعر صديقه.. ثمّ.. لا شيء ! إذ لو كان أكثر عملية ربّما لن يقول له "اصمت لا تقل ذلك" بل سيسأله عن وصيّته الأخيرة ليكون أكثر فعالية وواقعية ونفعا أيضا لأقرباء الميّت...
تصوّروا أن هذا الموقف بمبناه ومعناه، يحدث دائما.. ويُمكنكم إسقاطه على ما تشاؤون من خطابات يتعامى فيها متبنّوها عن الحقائق، وما هو كائن (الموتُ المحتّم في مثالنا) لكي يتشدّقوا بما يجب أن يكون.. ( ينبغي أن تعيش لنذهب للشاطئ!) وبهذا تضيع مصالح كثيرة وتكسل العقول عن الحلول، وتضيع الكفاءة بضياع جرأة المساءلة والتقبّل... ويزوّر الواقع على حساب نظرة حالمة، ويتحوّل التاريخ إلى أقصوصات وقُصاصات لا نختار منها إلاّ ما يعزّز مثاليتنا ورفعتنا التي نناطح بها واقعنا المنحطّ... وليُخوّن فيه كل من أراد وصف الوضع كما هُو، ويُتّهم بضعف الإيمان وقلة اليقين وضلال مبين... لكي يلتحم التواكل والتوكّل في جسد واحد، ويمتزج الدين باختزالية خطيرة... وتلتئم الجراح في كرّاسة رسوماتنا وتبقى مُتعفّنة خارجها... لتتأخّر الحلول عقودا وقرونا، ويُحارب من قدّمها أو فعّلها بعد ذلك كثيرا..
ويشعُر العقلاء والفطناء بالغربة ويتّهمون أنفسهم بالجنون أمام خطاب سائد وأغلبية مؤيّدة له... ويضطرون بأن يمزّقوا ذواتهم بين شفافية روحيّة وحلاوة إيمانية، أو منطقية وعقلانية.. لعلّ الجمع بينها أحسن؟ نعم لاشكّ... قد حاولوا فعلها... لكن ما إن دخلوا عالم الرقائق والروحانيات والمواعظ، إلا طالبوهم بنحر عقلانيّتهم ومنطقيتهم وكل ما تعلموه قربانا.. وإن وضعوا قدمهم في عالم المنطقية والعقلانيّة انتابهم شكّ في الطريق التي سلكوها أهي حق وخير ومرتضاة؟ بسبب نظرة أصحاب العالم الآخر لهم، وهم كُثُر، لدرجة يَهُمّون بتكذيب أنفسهم...
أما نفسيّاتهم التي من أجلها سعَوا إلى جمع الشتات، تطعَنهم طعنة خفيّة، إذ تتلاعب بأحاسيسهم إذا ما خرجوا من عالم الرقائق والمواعظ، فتُشعرهم بأنّ الحق فارقهم باستبدالها "حلاوة البكاء والخشوع، وسكينة التعبّد والذكر" ب "جفاوة الحقائق والعلوم والنقد"... فيُنكر عقله ما طابت به نفسه في الأول، وتُنكِر نفسه ما رقى به عقله وما أصاب فيه حدسه في الثاني.. ولا يستطيع أن يستقرّ على يقينِ أنّ "حلاوة البكاء والخشوع" قد ترتبط رغم الحلاوة مع الباطل ارتباطا "مَلَكيّا بامتياز"! وأنّ "جفَاء الحقائق والعلم والنّقد" لا يرْضى رغم جفائه بالباطل مرافقا !
أمّا العدوّ الذي يقتات على وعي "المثاليين" الضعيف بالأحداث والملابسات والعلاقات سيتمكّن ثمّ يتمكّن.. ولن يضرّه تركُ وعاظ وعلماء وشعوب يعتقدون ويقولون بلغة عربية فصيحة ولَكْنَة واثقة: "والله الأمة بخير ولا تحتاج إلا إلى التوبة من المعاصي، ولن تنتصر هذه الأمة إلا بالإيمان واتباع سنّة الهادي! (صلى الله عليه وسلم)"
والقصة مستمرة.. فتابعوها.. فالواقع خيرٌ حكاية وأصدق خبرا.
واقرأ أيضاً:
الموسيقى والت عاسة ! / تحليل لفلم Emily Rose 2005 عن المس / الثنائيات ومعالجة القضايا / المرض النفسي: دور الإيمان والعلاج بالقرآن مشاركة