المعنى النفسي لليلة القدر 1438 هـ
ليلة القدر من الناحية النفسية تعني حالة من السلام النفسي والطمأنينة والراحة والإحساس بالأمان والتخلص من المشاعر السلبية مثل القلق والاكتئاب وما ينتج عنهما من اضطرابات نفسية وجسمية ونفسجسمية. وهي أيضا تعني حالة من الصفاء النفسي والشفافية والتسامي على شواغل الحياة وتعلقاتها وأطماعها، وبذلك تتهيأ النفس لاستقبال إرسال السماء، أي أن النفس بعد أن تصفو وتشف تصبح قادرة على التواصل مع موجات السماء العلوية، وهذا هو ما يشعر به من يدرك ليلة القدر، إذ يشعر بحالة فريدة قد لا يستطيع وصفها للناس ولكنها مختلفة عن عن كل شيء شعر به قبل ذلك، وهذا هو الإدراك الحقيقي لليلة القدر، وليس أن يرى الإنسان ضوءا أو أشكالا معينة في السماء.
والنفس البشرية تشقى بشيئين، أحدهما القلق وثانيهما الاكتئاب، أما القلق فهو الخوف غير المبرر من أشياء يتوقع حدوثها في المستقبل، وأما الاكتئاب فهو الحزن والأسى على ما فاتنا من فرص ومكاسب وما فقدناه من أحبة أو أشياء كنا نتعلق بها في الماضي، فالقلق مرتبط بالمستقبل والاكتئاب مرتبط بالماضي، ولذلك كانت هدية الله للمؤمنين الذين استقاموا على منهجه هو محو القلق والاكتئاب من نفوسهم كما ورد في قوله تعالى "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون".صدق الله العظيم.
وهذا ما يحدث في رمضان مع تعاقب أيامه ولياليه وما يتخللها من أفراح رؤية الهلال وفرحة الفطر وتوقع الفرحة بالجزاء يوم القيامة وفرحة الاجتماع على الإفطار والسحور، وما يحدث للنفس نتيجة تعتعة الجمود مع تناوب حالات الحرمان والشبع في اليوم والليلة، وما يحدث من تنقية وإصلاح للضمير، وما يحدث من ضبط صحي للشهوات والنزوات، كل ذلك يثمر حالة من السلام والطمأنينة نترجمها من الناحية النفسية بأن الصراع بين الجانب البدائي في النفس الملئ بالرغبات الممنوعة وبين الضمير قد هدأ، ولذلك يستريح الضمير ويتوقف عن تأنيب الذات وجلدها، وهذا ينتج عنه تراجع كبير في أعراض القلق والاكتئاب خاصة مع توقع غفران الذنوب التي كانت تشكل عبئا على النفس وسببا للرعب من توقع العقاب الإلهي، كما أن الإنسان يسلم نفسه لله ويتعلم الرضا بما أخذ من الحياة ولا يأس على ما فات، وهي حالة أقرب إلى القناعة والرضا التي تمحو آثار الاكتئاب.
وبما أن القلق والاكتئاب هما القاعدة لاضطراب جهاز المناعة (المسؤول عن حماية الجسم) وجهاز الغدد الصمّاء (المسؤول عن هرمونات الجسم التي تنظم نشاطه) لذلك فالصيام ينعكس أثره على نفوسنا وعلى أجسادنا، ولهذا شرعت عبادة الصيام في كل الأديان بطرق مختلفة ولكنها تشترك في عناصر كثيرة تدور حول الحرمان والضبط الصحي للشهوات والرغبات لتنشيط الروح وتهدئة الضمير القلق المضطرب، وإشاعة حالة من البشر والتفاؤل وتوقع الجزاء الحسن من الله (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
ونحن لا نصوم في الأساس لنحصل على هذه الفوائد ولكننا نصوم لأن الله أمرنا أن نصوم حتى ولو لم تكن للصيام فوائد نلمسها، ولكن من كرم الله علينا أن جعل للعبادات كلها ومنها الصيام فوائد عديدة ربما هي مقدمة لجزاءات أعظم يوم القيامة، أو عينة صغيرة من هذه الجزاءات.
وحالة الصفاء والنقاء هذه ترتبط بما قام به الشخص في أيام وليالي شهر رمضان، ولذك كانت ليلة القدر في العشر الأواخر منه حيث تحتاج النفس البشرية لفترة عبادة ومجاهدة لكي تصل إلى هذه الحالة، وبناءا على هذا التفسير النفسي لليلة القدر نتوقع أن يصل كل شخص إلى ليلة القدر (إذا وصل) في وقت خاص به، فالبعض قد يصل في ليلة مبكرة في العشر الأواخر إذا كان مجتهدا في عمليات التخلية والتحلية للنفس، والبعض الآخر قد يتأخر إلى قرب نهاية رمضان، والبعض قد لا يصل إلى إدراك هذه الليلة حيث لم يستطع أن يزيل عن نفسه عتامة القلق والحزن والاكتئاب والتعلقات الدنيوية وعقابات الضمير الناشئة عن انغماس النفس في الخطايا والمعاصي دون توبة تريحه وتمنحه أملا في الغفران.
وهذا يتماشى مع مفهوم عدم تحديد ليلة القدر في ليلة بعينها من الناحية الشرعية، حيث أن لكل إنسان ليلة قدره بقدر ما سعى نحو ربه وأزال العتامة عن نفسه.
الجمعة 23رمضان 1439 هـ، 9 يونيو 2018 م.
واقرأ أيضًا:
ارتباطات عن التدين / ارتبطات عن شهر رمضان