يشكك بعض المراقبين من الذين يسكنهم الغيظ ويملأ قلوبهم الحقد، في صحة ودقة تصريحات ومواقف الأب الفلسطيني ابن قطاع غزة مانويل مسلم، ويقولون بأن مواقفه الشجاعة وتصريحاته النارية، وكلماته الرائعة، وصموده العجيب، ودفاعه المستميت عن المقاومة، وحمايته لرجالها، وإيوائه لأبطالها، وفتحه لأبواب الكنائس أمام الفارين من نار الحرب وجحيم القصف الإسرائيلي، كانت فقط بسبب وجوده في قطاع غزة، وإحساسه بالضعف والوحدة في ظل قطاعٍ تسيطر عليه قوى المقاومة المسلحة، الإسلامية الفكر والتوجه.
ويعززون شكوكهم بالقول إنه من الطبيعي أن يشعر الأب مسلم بالخوف على نفسه من هذه القوى الإسلامية المسلحة، الأصولية القوية، والمنظمة المتشددة، وبالقلق على إخوانه المسيحيين الباقين في القطاع، الذين قلَّ عددهم وتناقص إلى ألفٍ وخمسمائة مسيحياً لا أكثر، يعيشون متفرقين ومتباعدين، أو في جزرٍ صغيرةٍ جداً في بحرٍ من المسلمين الفلسطينيين، الأمر الذي يفرض عليهم أن يكونوا مسالمين وموالين، ومؤيدين ومناصرين، ومنخرطين ومشاركين، وإلا فسيتعرضون لغضب الغالبية المسلمة، وحكم تنظيماتها المسلحة، وأجنحتها العسكرية المسيطرة.
لكن الحقيقة التي جسدها الأب مانويل مسلم بقوةٍ ووضوحٍ في قطاع غزة، هي غير ذلك تماماً، وعلى النقيض مما ظنه العدو أو خطط له، فقد أثبت أنه وإخوانه المسيحيين جزءٌ أصيلٌ من الشعب الفلسطيني، لا ينفصلون عنه ولا يبتعدون، ولا يتخلون عنه ولا يهربون، ولا يقبلون أن يتميزوا عن شعبهم فلا يشملهم الحصار، ولا أن يميزهم عدوهم فيستثنيهم من العدوان، ولا أن يرأف بهم مسيحيو العالم دون أن يأخذوا بيد إخوانهم الفلسطينيين، وقد أراد الأب مسلم بمواقفه أن يكون له ولإخوانه دورٌ في كتابة التاريخ، وفي تسطير صفحات المقاومة وسفر الصمود، فهم في الوطن شركاء، وفي القطاع إخوان، وللمقاومة سندٌ ولرجالها عونٌ.
غادر الأب مانويل مسلم قطاع غزة الذي كان فيه محاصراً مع أهله، وصامداً مع شعبه، وعاد إلى بيرزيت التي ولد فيها ونشأ، وتعلم ودرس، فخرج من المنطقة التي تسود فيها القوى الإسلامية، وتسيطر فيها حركة حماس ومعها قوى وفصائل فلسطينية تحمل الفكر الإسلامي، فما غَيَّرَ ولا بَدَّلَ، ولا انقلب ولا تحول، بل أكد على مواقفه، وثبت على مبادئه، وأصر على ثوابته، وعاد ليكرر ما كان يقوله بثقةٍ ويقين، وهو يقف على أرضٍ أخرى ومكانٍ مختلف، فيه سلطةٌ غير إسلامية، وفيها غلبة مسيحية، وفي المكان الذي نشأ فيه وترعرع، وهو بين أهله وإخوانه، وكثيرٌ منهم من أصحاب الشأن والمكانة، ممن يتمتعون بالسلطات الدينية والزمانية.
كَذَّبَ الأبُ مانويل مسلم أقوال المشككين المرتابين وخيب ظنونهم، وعاد من بيرزيت إلى ما كان قد بدأ به، لكن بقوةٍ أكبر وعزمٍ أشدٍ وإيمانٍ أشمل، فجُنَّ جنونُ الإسرائيليين وأصيبوا بالهوس بسبب خطاباته الوطنية الرائعة، فقد بدا بمواقفه الصارخة وكأنه جبهةٌ متقدمةٌ وجدارٌ مكينٌ يصد به عن الفلسطينيين، ويدافع به عنهم، ويساهم معهم بالقدر الذي يستطيع، وبالسلاح الذي يملك، وقد أعلت كلماته أسوار الفلسطينيين وحصنت حقوقهم، وأظهرتهم بأنهم شعبٌ متسامحٌ كريمٌ، حضاريٌ إنسانيٌ عظيم، يستحق العيش بكرامة، وأن تكون له دولة ذات سيادة، شأن بقية شعوب الأرض التي تتمتع بأوطانها، وتعيش عزيزةً في بلادها.
أثبت الأب مانويل مسلم أنه لا خوف على المسيحيين في الشرق، ولا قلق على أتباع الكنائس لا في قطاع غزة وحده وإن كانوا فيه قلة، بل في فلسطين كلها، وقد كانت كلماته الواثقة تندُ كلها عن إحساسٍ عميقٍ بالتفاهم، وتعبر عن فهمٍ كبيرٍ بالأخوة والتعايش، وبدت كلماته صادقة، ومواقفه صلبه، وتصريحاته قوية، تثير إعجاب أهل دينه قبل أبناء شعبه، وهي تنبع بكليتها من ذاته، ويعبر مجموعها عن قناعاته، ولا يوجد فيها ما يدل على أنه مكرهٌ أو مجبرٌ على التفوه بها أو الإيمان بها ونشرها.
ذهل المسؤولون الغربيون من مواقفه، وقلق المسيحيون الغربيون قادة دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا أيضاً، كيف لهذا القس المسيحي، رجل الكنيسة الأول في قطاع غزة، يقف مع المقاومة الفلسطينية ويؤيدها، ويرتبط بعلاقاتٍ جيدة مع حركة حماس يصدق قادتها، وينصرها على حليفتهم الكبرى إسرائيل، فهذه التصريحات تضعف مواقفهم، وتزعزع استقرارهم، وتطعن في روابط أخوة العقيدة والدين، وتدق أسافين الفرقة والاختلاف بين مسيحيي الشرق والغرب، إذ أن لكلماته أثراً بالغاً وصدى كبيراً في أوساط أتباع الكنائس المسيحية، الذين بدأوا يصغون إلى تصريحات رجل دينٍ مسيحي يحمل الصليب، ويدخل الكنسية ويصلي فيها، ويشعل الشموع ويتناول ويعمد ويتلقى الاعتراف، ثم يقف إلى جانب المقاومة الفلسطينية ويؤيدها، ويحمل هموم شعبه ويسعى لحلها والتخفيف عنه.
الأب مانويل مسلم يحزنه الانقسام الوطني الفلسطيني، ويدعو إلى المصالحة ورأب الصدع، وجمع الكلمة وتوحيد الصف، ويرى أنه سبب كل مصيبة، وأساس كل علةٍ، وما بقي الانقسام مستعصياً فلن ينعم الفلسطينيون بحريةٍ ولا كرامةٍ، ولهذا الهدف النبيل سخر نفسه، قلبه ولسانه، وقلمه وبيانه، لتحقيق المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية الكاملة.
وهو يدعو إلى رفع الحصار عن قطاع غزة، وتمكين أهله من العيش الكريم والحياة الحرة، ويطالب الدول العربية أن يكون لها دورها الفعل في نصرة أهل غزة ورفع الحصار عنهم، ولا يرى سبيلاً لاستعادة الحقوق وتحرير الأرض بغير المقاومة، التي يراها أشكالاً وألوناً، وصنوفاً وفنوناً، كلٌ يقاوم بطريقته ويقدم حسب قدرته. وهو للقدس التي يراها عاصمة فلسطين الأبدية، ينبري مدافعاً وعن الأقصى يخرج منافحاً، يؤيد المرابطين ويدعو لهم، ويشجع المصلين ويحرضهم، فهو عضو الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة المقدسات، التي ترى كنيسة القيامة والمسجد الأقصى بعينٍ واحدة، فكلاهما مقدساتٌ فلسطينية، إسلامية ومسيحية.
لا يوجد في قطاع غزة خاصةً وفي فلسطين عموماً هيئة أو لجنة وطنية ليس فيها الأب مانويل مسلم، فقد غدا حضوره قيمة وغيابه خسارة، ومشاركته مكسباً، وصورته وحدةً، وصوته تضامناً، وكلماته جامعةً، فحرص على دعوته الجميع، وتبارت القوى والأحزاب على زيارته، وتنافست الفضائيات ووسائل الإعلام العربية والإسلامية في استضافته، وأصبحت كلماته شعارات تحفظ، وعلى شاشات الفضائيات تعرض، ولم يعد بمواقفه يمثل المسيحيين الفلسطينيين فقط، بل أصبح لسان حال الفلسطينيين جميعاً، به يفتخرون، وبكلماته يعتزون، وبصموده يباهون، وبصوته العالي ونبرته الصادقة وعزمه الحديد يستبشرون.
بيروت في 21/10/2017
واقرأ أيضا:
الإسرائيليون يشكرون الرب ويضحكون على العرب / الخاشقجيون المنسيون في بلادنا العربية / غزةُ لا تريدُ الحربَ والفلسطينيون لا يتمنونها