هي التربية التي تقوم على تحديد المسارات لا إعطاء الخيارات، هي التربية التي تعتمد على التلقين وحشر المعلومات، هي التربية التي تعتمد أسلوب الترهيب والقهر والتخويف للطفل في البيت أو الطالب في المدرسة، هي تربية الرأي الواحد للأب (أو الأم) في البيت، وللمدرس (أو المدرسة) أو مدير المدرسة، هي تربية كتاب المدرسة الموحد، والمقرر الثابت والفصل الثابت والامتحان الثابت، هي التربية التي لا تعطي للفروق الفردية بين الأبناء أو الطلاب أية أهمية أو اعتبار، هي التربية التي تعلي من قيمة الطاعة والانقياد والتسليم والخضوع، بينما تحجر حرية التفكير وملكات حل المشكلات والإبداع والتجديد والتطوير، هي التربية أحادية الاتجاه التي تسمح فقط للأب أو المدرس أن يتكلم ولا تسمح للابن أو الطالب إلا أن يستمع، هي التربية التي تفترض أن الكبار فقط هم أصحاب العلم وأصحاب الخبرة وأصحاب الرأي وأصحاب العقول، وأن الصغار جهلاء وسذج وأغبياء ولا يعرفون مصلحتهم، هي التربية التي تقدس أقوال القدماء وتدنس أقوال المحدثين، هي التربية التي تقدس السلطة الأبوية وتقدس من خلالها كبير العائلة وكبير القبيلة وكبير العشيرة وكبير الطائفة وكبير الجماعة وأصحاب المناصب، هي التربية التي تقوم على العنف اللفظي أو البدني، وعلى التعسف والتسلط والاضطهاد، هي التربية التي تقوم على الكبت الفكري وتعطيل طاقات النمو، هي التربية التي تقوم على إصدار الأوامر وفرضها دون مناقشة أو مشورة، هي التربية التي تقوم على التهديد والوعيد واللوم والتأنيب والتحقير، وإصدار الأحكام السلبية على الطفل أو المراهق في البيت أو المدرسة، هي التربية التي يفرض فيها المربين خبراتهم وتجاربهم على المربين ولا يعطونهم الفرصة ليجربوا بأنفسهم، هي التربية التي يفرض فيها المربون نموذج حياتهم على أطفال أو مراهقين يعيشون زمانا غير زمانهم، هي التربية التي تتسم بملء الوعاء لا قدح الزناد، هي التربية التي تمتلئ بالأوامر والنواهي من المربي ولا تسأل الطفل أو المراهق عما يرى ويفكر، هي التربية التي تحاصر الابن أو البنت بالمواعظ والإرشادات والتنبيهات طول الوقت وتقوم على الإلحاح اللزج للمربين، هي التربية التي ترى أن الطالب المثالي هو المفرط في الطاعة والهدوء وتنفيذ التعليمات والخضوع لمعايير الكبار بشكل مطلق، هي التربية التي تقمع مراحل الاستقلال في حياة الشخص (كما وصفها إريك إريكسون)، هي التربية التي تحرم الطفل من حريته في اختيار طعامه وملبسه ولعبه وأصدقائه، هي التربية التي تعلي من قيمة التكيف على حساب التطور، هي التربية التي تشجع المحاكاة والتقليد بينما تصم الإبداع والتطوير، هي التربية التي تستهدف إنتاج عبدا ذليلا مقهورا، لا حرا نبيلا مختارا، هي التربية التي يسعى فيها الآباء لأن يكون أبناءهم صورة طبق الأصل منهم.
ذلك النوع من التربية نشأ واستوطن في البيئة العربية بوجه خاص وتشكل مع الثقافة العربية التي تقوم على أسس قبلية وعشائرية وطائفية، وكانت تلك التربية السلطوية مغذية للسلوك الاستبدادي على المستوى الفردي والجماعي لمئات السنين في المجتمعات العربية. وكثير من الباحثين يعود بالتربية السلطوية إلى العصور الفرعونية، حيث جرى العرف على تقديس الفرعون الإله، وتسخير كل طاقات أفراد الشعب لتمجيده ورفعة شأنه. والتربية السلطوية لا تستحق لقب تربية من الأساس، إذ أن التربية تعني إطلاق ملكات الإنسان وقدراته في مسارات بناءة لإصلاح حياته وحياة غيره وعمران الأرض ونشر الحق والخير والعدل والجمال في هذه الأرض باستلهام تعاليم السماء، والتربية السلطوية عكس ذلك تماما إذ هي تخنق حرية الأطفال والمراهقين وتحطم ملكاتهم وقدراتهم، وتسعى فقط إلى تنميطهم بالشكل الذي يرضي الآباء أو المدرسين أو أولي الأمر أيا كان موقعهم .
والتربية السلطوية لها احتمالات ثلاثة من حيث نتائجها على النشء وهي :
1 – أن يسلم الطفل أو المراهق إرادته تماما للمربين ويصبح سلبيا ومعتمدا بالكامل عليهم لا يعارضهم ولا يناقشهم، ويتحلى بأخلاق العبيد في تعامله مع أي كبير فيخضع ويخنع له ويسلم له مقاليده، ويمتدحه، ويشعر بالراحة والطمأنينة في حماه مهما ناله من أذى، إذ تكون لديه صفات ماسوشية يستعذب معها الأذى والألم، بل وربما يتوحد مع المربي (المعتدي) فيصبح هو الآخر متحكما وقاهرا لمن دونه وخاضعا لمن فوقه. وفي هذه الحالة يفقد العقل النقدي فلا يفرق بين الحرية والاستعباد، ولا يفرق بين الحق والباطل، بل يخضع فقط لمن يتحكم به ويقوده، وهو دائما يحتاج لمن يتحكم به ويقوده لأنه لم يتعود أن يعيش مستقلا، بل ربما يشعر بالرعب إذا وجد نفسه مسؤولا عن نفسه ومتحررا من التبعية، فيسعى جاهدا في البحث عمن يتحكم فيه.
2 – أن يتمرد الطفل أو المراهق على مربيه، فيصبح جانحا جامحا يكسر القواعد ويحطم الضوابط ويخرج على الأعراف والتقاليد رغبة في الانتقام أو إثبات الذات، وهو يفعل ذلك بقدر ما يتمتع به من قدرة في مراحل عمره المختلفة.
3 – أن يصبح الطفل أو المراهق مراوغا ذو وجهين أو عدة وجوه، فهو أمام المربي وتحت وطأته طائعا مستسلما ذليلا، أما حين يخلو لنفسه فهو يفعل كل ما يرغبه ويشتهيه.
وهذه التنويعات الثلاثة نراها بكثرة في المجتمعات العربية التي تتسم في معظمها بهذا النوع من التربية السلطوية.
وهناك كتابان غاية في الأهمية يسلطان الضوء على ظاهرة التربية السلطوية في المجتمعات العربية وآثارها في القديم والحديث، أولهما كتاب الدكتور يزيد عيسى "السلطوية في التربية العربية" (إصدار عالم المعرفة 2009)، وثانيهما كتاب "سيكولوجية الإنسان المقهور" للدكتور مصطفى حجازي (المركز الثقافي العربي 2005)، والكتاب الأول يشرح ظاهرة التعليم السلطوي والتربية السلطوية في المدارس العربية ونتائج ذلك على الشخصية العربية وعلى مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية في العالم العربي، بينما يشرح الكتاب الثاني التركيبة النفسية للإنسان الناتج عن بيئة القهر بوجه عام وكيف تكون تركيبته النفسية وتفاعلاته مع الناس ومع الأحداث، ويكاد يكون هذان الكتابان من أهم الكتب التي سلطت الضوء على مرض مزمن في البيئة العربية وفي الثقافة العربية، جعل العالم العربي يتخبط لمئات السنين في موجات تسلط وقهر واستبداد وصراعات سياسية ودينية وطائفية وقبلية، وجعلته عصيا على التحول الديمقراطي الذي ذهب إليه أغلب سكان الأرض ومنحهم الاستقرار (الحقيقي) والنماء والازدهار والسلام المجتمعي وحرية الفكر والتعبير وتنامي ملكات حل المشكلات والإبداع في كل مجالات الحياة.
يقول يزيد عيسى : "إن التربیـة التـي تقـوم علـى العنـف، والتعسـف، والقهـر، والتسـلط، ومصـادرة الحریـة أقصـر الطـرق لتحطـیم الفــرد، وتـدمیر المجتمــع. وقـد أشــار تقریـر التنمیــة العربیـة الرابــع إلـى أن التربیــة العربیــة تخنـق حریـة الطالـب والمعلـم معـاً. إن التربیـة فـي الـو طن العربـي تعـاني مـن (أمـراض) مستعصـیة تتمثـل فـي مشـكلات كثیـرة، وتحـدیات كبیرة، وأزمـات حقیقیـة تعیـق مسـیرتها، وتقـف حجـر عثـرة أمـام تحقیقهــا لأهــدافها. وتعــد الســلطویة مــن أهــم تلــك (الأمــراض) التــي یعــاني منهــا الجســم التربــوي العربي المـثخن بـالجراح لأن معظـم المشـكلات والتحـدیات والأزمات التربویـة العربیـة لیسـت إلا مـن أعــراض ذلــك (المــرض)، أو مــن نتائجــه. إن السـلطویة نقـیض رئـیس، وعـدو لدود للتربیة، فالتربیـة تسـعى لتفجیـر طاقـات الفـرد، بینمـا یعمـل القهـر علـى قتلهـا، وتهـدف التربیـة إلــى بنــاء شخصــیة الإنســان بشــكل شــامل، ومتكامــل، ومتــوازن، فــي حــین أن الاضــطهاد یوجــد شخصیة ضـعیفة، ومشـوهة، ومضـطربة، وغیـر متوازنـة، وتضـع التربیـة نصـب الأعـین إعـداد الفـرد المفكــر، والمبــدع، والمتفــوق، أمــا الاســتبداد فیــؤدي إلــى تقــویض مهــارات الإنســان، وشــل قدراتــه، وتعطیل طاقاته، والحد من إبداعه. ولذلك فإن الوعي بالسلطویة في المیدان التربـوي خطـوة مهمـة نحو التخلص منها، وتحریر الفرد والمجتمع".
إذن ما الحل؟
نحتاج لأن نعود إلى مبادئ التربية الحديثة في بيوتنا وفي مدارسنا ومنها :
تدريب الطفل أن يعلم نفسه (التعلم وليس التعليم)، وتدريبه أن يحل أغلب مشكلاته، وتحرير شخصيته من قبضة الكبار، وتنمية روح الإبداع لديه، واحترام قدراته وملكته، وتقدير ذاته، وإعطائه الفرصة لاتخاذ قرارات كثيرة في حياته، وإعطائه الفرصة للتجربة وتحمل الخطأ، وأن نعطه الفرصة للاختيار بين بدائل متعددة، ونسأله رأيه ونحترم اجتهاداته، ونعطه فرصة لإدارة مصروفه. وبعض المربين يعتقدون أن هذه الأفكار ربما تكون مقبولة ولكن حين يكبر الطفل ويعرف ما يفيده وما يضره فيؤخرون كل هذه المبادئ إلى سن العشرين، حينئذ يكون الوقت قد فات، فنحن نحتاج تطبيق هذه المبادئ التربوية منذ السنة الثانية من العمر وفيها تكون أولى مراحل استقلال إرادة الإنسان.
واقرأ أيضًا:
سيكولوجية الاستبداد (4) / علاج الاستبداد / منظومة الاستبداد (2) / الاستبداد والقابلية للاستحمار: المغرب / الاستبداد صناعة الحاكم والمحكوم / وعي الاستبداد!! / الاستبداد النابض فينا!!