الدروس المستفادة من التجربة الماليزية
الفصل الثامن عشر
على هذا الرجل ينطبق القول التالي وبحق:
"أزرع فكرة تحصد فعلا، أزرع فعلا تحصد شخصية، أزرع شخصية تحصد مصيرا".
وسط مشاعر من الترحيب الحار والتصفيق المدوي لعدة دقائق متواصلة، استقبل حشد كبير من كبار الأكاديميين والصحفيين والإعلاميين وجمهور الإسكندرية الدكتور "'مهاتير محمد'" المفكر والفيلسوف قبل صفته كرجل سياسة وصانع تجربة فريدة ومتميزة في التنمية والتحديث لدولة 'ماليزيا'.
وقد أحسنت 'مكتبة الإسكندرية' ومديرها الأستاذ الدكتور إسماعيل سراج الدين صنعاً، أن يشمل برنامجها الثقافي، دعوة رجل بهذا الحجم وذلك العمق: علي مدي يومي الأحد والاثنين 5 و6سبتمبر 2004، خُصِصَ اليوم الأول لعرض الرجل لتجربة ماليزيا في تنمية الموارد البشرية: بينما انتظم اليوم الثاني لعرض نظرته في "التكامل بين الحضارات والثقافات المختلفة".
الرجل بدا بقامته المتوسطة: بسيطا ومتواضعا، وتبادله التحية مع الحاضرين، الذين اصطفوا في انتظاره، ووقفوا احتراما عند دخول القاعة: "لقد عكس حالة إنسانية وثقافية وربما سياسية ذات دلالة عميقة وشجية علي نفوس المصريين، وربما لكل الطامحين إلي العدالة والنجاح والإنجاز في عالمنا العربي والعالم الثالث بمجموعه".
فالرجل يحمل فكراً شديد العمق، عبر عنه في أكثر من عشرين كتابا علي مدار تاريخه حتى اليوم: والرجل حقق إنجازاً اقتصادياً واجتماعياً غير مسبوق في تجارب الأمم الفقيرة: والرجل قبل ذلك وبعده قدم نموذجا سياسيا حينما تخلي طواعية وهو في قمة نجاحه وتألقه عن السلطة وتخلي عن رئاسة الوزراء في بلاده لمن بعده دون ضغط أو إكراه.
في كلمته عن تجربة ماليزيا في تنمية الموارد البشرية: تحدث د. مهاتير محمد عن كيف واجهت ماليزيا ندرة المهارات الفنية و العلمية عن طريق التدريب المكثف منذ الطفولة، وفي مراحل التعليم المختلفة والأهم من ذلك توفير البيئة والمناخ المواتي للتنمية ويقصد د. مهاتير بالبيئة المناسبة؛ نظم التعليم ومنظومة القيم Value system والمعايير الأخلاقية التي ينبغي التحلي بها في مجتمع كان إلي حد كبير يتسم بالمحافظة Conservative والتقليدية وغلبة القيم الريفية عليه: حيث كان المجتمع الماليزي يتشكل من نحو 70 % من سكان الريف.
ومن ضمن أبرز المشكلات التي واجهت التجربة الماليزية هي كيف يمكن اكتساب ثقة العائلات الريفية لكي يسمحوا لأولادهم وبناتهم للانتقال والعمل في المدن التي كانت محل خوف وقلق هذه العائلات؛ حيث مخاطر المخدرات والجريمة بجميع أنواعها في المدن عموما، وهنا أولى الدكتور "مهاتير محمد" أهمية خاصة للاهتمام في مراحل التعليم المختلفة بتعلم "اللغة الإنجليزية" كوسيلة تواصل مع النمط الصناعي والتصنيعي الجديد.
ومن هنا فإن منح "الثقة" للعائلات الريفية وطمأنتهم كان هو المدخل الملائم الذي لا غنى عنه لكسر حاجز الجمود في البنية الاجتماعية التقليدية التي ميزت المجتمع الماليزي حتى مطلع الستينيات؛ حين بدأت تجربة ماليزيا في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وبالقدر نفسه فإن دعم العمال والفنيين القدامى لزملائهم الوافدين الجدد إلي سوق العمل وإلى المصانع كانت عنصرا ضروريا لضمان النجاح في التجربة الماليزية.
وقد أكد الدكتور 'مهاتير محمد' علي الطابع البراجماتي للتجربة الماليزية، فلم يكن هناك حظر أو عداء تقليدي أو أعمي لتجارب الآخرين: فعلي سبيل المثال، إذا استدعت الضرورة اقتباس بعض جوانب التجارب الشيوعية أو الاشتراكية في التنمية، ولفت الدكتور 'مهاتير محمد' نظر الحاضرين إلي أن الميل الطبيعي للرأسماليين المحليين أو الأجانب هو تعظيم الربح Profit بصرف النظر عن مصالح أغلبية المجتمع من الفقراء وهو ما لم يكن مسموحاً به من جانب الحكومة الماليزية، حيث كان التوازن بين مصالح جميع أطراف التنمية هو مطلب وبرنامج عملي الحكومة الماليزية تحت قيادته، والحقيقة أن أهم ما جاء في حديث الدكتور 'مهاتير محمد' ودرجة تألقه الفكري لم تكن في هذا العرض "الساكن" للتجربة الناجحة للتنمية في ماليزيا، بل كان في حواره العميق والغني والمفعم بالدلالات السياسية والشفافية مع بعض محاوريه، فحينما سأله الدكتور هشام الشريف عن أسباب استقالته وتنازله عن السلطة والحكم وهو في قمة قوته ونجاحه وتألقه؟ وهل كان ذلك تحت ضغوط من أي نوع؟، ابتسم الدكتور 'مهاتير محمد' وقال: لم يكن هناك أية ضغوط؛ لقد حكمت ماليزيا ما يزيد عن عشرين عاما؛ نجحت فيها في تحقيق التنمية وتحديد الاتجاه الصحيح؛ و كانت هذه الفترة كافية، فتركت الحكم لغيري ليستكمل الطريق وأنا ضامن لاستمرار النجاح.
وعن كيفية استفادة دول العالم الثالث عموما والعالم الإسلامي من تجربة ماليزيا: وهو السؤال الذي طرحته الدكتورة فايزة أبو النجا، أجاب د. مهاتير محمد: بأنه ليس هناك وصفة سحرية لذلك، بل هو خلق مناخ من الحرية والثقة بين الحكومة وأهدافها من ناحية وبين الشعب من ناحية أخري مما يعزز من فرص النجاح، ويدمج طموحات الأفراد والمجموعات وهنا شدد د.مهاتير محمد علي فكرة الجماعات وليس الأفراد مع أهداف الدولة والحكومة.
وكان من الطبيعي أن تأتي أسئلة الحضور حول "الإسلام" وموقعه من تجربة ماليزيا في التحديث والتنمية، وهنا برز دور المفكر والفيلسوف "مهاتير محمد"، وليس رجل الدولة والقائد الحزبي، حيث قدم "مهاتير محمد" عرضا مميزا عن تلك العلاقة، فأكد أن 'الإسلام' هو جزء من المجتمع الماليزي المحافظ والتقليدي، ولكن إلي جانب ذلك فإن ماليزيا تضم مجموعة سكانية تدين بديانات أخري؛ ومن هنا فإن التعامل مع هذا التنوع والتعدد لضمان ولاء الجميع لأهداف الدولة وطموحاتها وإستراتيجيتها في التنمية، يقتضي عدم إثارة الحساسيات الدينية ومع ذلك فإن الخروج من عباءة الفكر السلفي الإسلامي التقليدي هو مناط وجوهر التحديث في التجربة الماليزية، والإسلام يحتوي قيم إيجابية عديدة وقيم قد تكون معوقة، ويتوقف الأمر علي شكل التناول ونوع التفسير، وهنا أشاد د.مهاتير بالتجربة اليابانية القائمة علي "قيم العمل والإخلاص" المستمدة من القيم 'البوذية' و'الشانتونية' فالأساس هو استنهاض القيم الإيجابية في كل معتقد ديني، ووضوح الأهداف الوطنية، وخلق نوع من التوافق الوطني حولها.
وهنا طرحت احدي الصحفيات المصريات سؤالا علي الدكتور 'مهاتير محمد' يتعلق بوضع المرأة ودورها في التجربة الماليزية، فكانت إجابات الدكتور 'مهاتير محمد' مفعمة بالحيوية والعمق؛ فالنساء في ماليزيا يشكلن نحو 50 % فهل يجوز إهمال نصف المجتمع الماليزي وتركهم داخل المنازل وبين أدوات المطابخ ونحن في أشد الحاجة إليهم في مجالات التصنيع والتعليم وغيرها، لقد نجحنا علي حد تعبير الدكتور مهاتير في كسر تلك الحلقة الشريرة المحافظة، وتمكنا من إقناع الجميع رجالا كانوا أو نساء بأهمية مشاركة المرأة الماليزية في حركة التنمية الهائلة التي شهدتها البلاد طوال العشرين عاما الماضية، ثم جاء السؤال التقليدي الذي يواجهه دائما هذا الرجل، والذي منه استمد سمعته الدولية المرموقة كصاحب قرار مستقل؛ وصاحب بصيرة نافذة وهو:"كيف واجهت أزمة 1998 ألم تكن تخشى هروب المستثمرين الأجانب والشركات متعددة الجنسيات؟، وتآمر الولايات المتحدة خاصة بعد تحديك لنصائح مؤسسات التمويل الدولية أثناء الأزمة؟".
ابتسم الرجل قليلا قبل أن يجيب علي السؤال: ونظر إلي الأمام وكأنه يستعيد ذكريات تلك الأيام العصيبة التي كان لها تداعيات دولية ومحلية، حيث أدت إلي الإطاحة بتيار داخل الحكومة والحزب كان يقوده 'أنور ابراهيم' الرجل الثاني في النظام وقتئذ وكان هذا التيار يطالب بالانصياع الكامل لما يفرضه الغرب ومؤسساته المالية وضرورة اتباع وصفة الصندوق والبنك الدوليين، وذلك في مقابل تيار قاده بمهارة وحذق "د.مهاتير محمد" وقدم للعالم كله نموذجا جديدا وفريدا في إدارة الأزمة المالية العاصفة التي اجتاحت دول جنوب شرق آسيا وكادت أن تؤدي إلى انهيار هذه التجربة، بل فعلا ذهب الكثيرون إلي التسرع بإعلان نهاية هذه التجربة الفريدة في التنمية الاقتصادية.
قال 'د.مهاتير محمد': لقد أوقفنا تحويل العملة وأوقفنا العمل بالبورصة والتحويلات المالية لفترة واتبعنا مجموعة من الإجراءات غلبنا فيها مصالحنا القومية على اعتبارات الأيقونات الدولية أو الغربية، ولكننا كنا نعلم ونحن نغامر بذلك أنهم أيضا سيتضررون من انهيارنا إذا ما حدث لأن شركاتهم تعمل لدينا: ومن هنا كان قرارانا مدروسا إلي حد كبير، المهم هو قدرتك علي اتخاذ القرار الصعب وليس القرارات السهلة، وتحدي القوى الكبرى يتم بحساب ودراية طالما لديك قدرة علي القرار وإرادة وطنية قادرة علي تغليب المصلحة الوطنية دون سواها.
يتبع >>>>>>>>>>> مهاتير محمد في مكتبة الإسكندرية مشاركة