صورة الجسد هيَ تلكَ الصورةُ التي يجدها المرءُ في عقله لكيفَ يبدو جسدهُ وما هوَ حجمُ أجزائه المختلفة، إضافةً إلى مشاعره تجاهَ هذه الصورة، أي أن مفهومَ صورة الجسد يضمُّ مفهومين داخليين متداخلين هما:
- مفهومُ الصورةِ العقلية المدركةِ للجسد وهو مفهومٌ معرفي إدراكي
- ومفهوم الشعور بالرضا أو الرفض أو الضيق تجاهَ هذه الصورة المدركة وهذا مفهومٌ معرفيٌّ شعوري.
والحقيقةُ أن ما يراهُ الناظرُ في المرآةِ انعكاسًا لصورته فيها وشعورهُ تجاهَ ما يرى إنما يتأثران إلى حد بعيدٍ بالعديد من المتغيرات: كالنوع الذي ينتمي إليه من بينَ أنواع الكائنات، والجنس والعمر، والمجموعة العرقية، والحالة المزاجية أثناءَ النظر في المرآة، وما رآه واختزنه في ذاكرته من صورٍ في المجلات والقنوات التلفزيونية المختلفة، وكذلك ذكريات طفولته، وحالته الاجتماعية، والكثير الكثير من المتغيرات، لكننا هنا معنيونَ بمتغيرين اثنين هما الجنس، والمجموعة الاجتماعية.
-1- الجنس: تبينُ الدراسات التي أجريت على صورة الجسد أن الإناثَ أكثر حساسيةً وانتقادًا لصور أبدانهن من الذكور، وأقل احتماليةً للإعجاب بما يرين في المرآة، فبين كل عشر إناثٍ يقفنَ أمام المرآة ثمانية سيشعرن بعدم الرضا عن انعكاس أبدانهن في المرآة، وخمسة على الأقل يرين صورةً غير مطابقة للواقع!!، وأما الرجال فإنهم عادةً ما يعجبهم ما يرون في المرآة ويسرون به أو ربما أظهروا عدم الاكتراث في الكثير من الأحيان، فقد أظهرت بعضُ الأبحاث أن الرجال عادةً ما يمتلكون صورةً إيجابيةً للبدن بل إنهم كثيرًا ما يعطون تقديرًا مبالغًا فيه لجاذبيتهم وحسن صورتهم، وكثيرًا ما يعجزونَ عن رؤية العيوب في صورة أبدانهم.
وأما لماذا أو من أينَ جاءَ هذا الفرق بين الرجال والنساء في التهيئة النفسية لرد الفعل على صورة الجسد في المرآة؟ ولماذا نجدُ المرأةَ أكثرَ استعداداً لعدم الإعجاب بما ترى (رغم أنهُ بالتأكيد أو في معظم الأحيان على الأقل أجمل مما يراه الرجل الناظر لنفسه) في المرآة؟ فإن الإجابةَ واضحةٌ لو أننا تأملنا الطريقةَ التي تُعاملُ بها البنتُ منذ طفولتها وكيفَ يدلُّ كل ما حولها من نظرات ومن تعليقات على أن لشكل جسدها وللطريقة التي تبدو بها ولاهتمامها بهيئتها العامة وبكل جزءٍ منها أثرٌ كبيرٌ على تقييم الناس لها.
يضافُ إلى ذلك أن مقاييس الجمال بالنسبة للمرأة أقلُّ مرونةً من مقاييس الجمال للرجال، كما أن صورة جسد المرأة الجميل بما فيها كل جزءٍ فيه تعتبرُ أشدُّ إلحاحًا وأشد جذبًا لحواسنا أيضًا خاصةً في الخمسين سنة الأخيرة التي أصبحت البنتُ المراهقة فيها ترى في يومٍ واحد صورَ نساء جميلات حسب أدق مقاييس الجمال، تفوقُ ما رأته أمها في سنين مراهقتها كلها أو ما رأته جدتها في سنين عمرها كله، لعل الكبار من النساء يشعرنَ جيدًا بما أقول، فقد كانَت رؤيةُ العروس في ليلة زفافها وكانت أناقتها وجاذبيتها شيئًا يتحاكى به النساءُ لفترةٍ طويلة بعد الزفاف حتى عهد قريب، لأنه لم تكن هناكَ صورٌ غير تلك التي تختزنها الذاكرة في تلك الأيام، ولم يكن هناكَ مجالٌ للفرجة إلا في مثل ظروف العرس.
وفي مثل هذا المناخ الذي تعيشُ فيه المرأةُ في أيامنا هذى، والذي تتجهُ فيه مقاييس الجمال المعروض في الصورة بشكل دائبٍ نحو ما لا تستطيعُ المرأة الطبيعيةُ الوصول إليه من مقاييس دقيقة للجمال، اللهم إلا في نسبة الخمسة بالمائة من النساء حسب الدراسات الغربية وذلك فقط حسب الوزن والحجم ولو أننا أدخلنا معايير الجمال بالنسبة للوجه والشعر مثلاً فستقل النسبة عن الواحد بالمائة، في مثل هذا المناخ تصبحُ المراهقةُ محاولةً الوصول بصورة جسدها إلى المستحيل البعيد المنال، ويصبحُ عدم رضاها عن ما تراه في المرآة إذا نظرت لصورتها هو رد الفعل الطبيعي وليسَ رد الفعل المريض.
وبينما يمرُّ الأولادُ بفترةٍ قصيرةٍ من عدم الرضا النسبي عن الجسد في بدايات المراهقة، إلا أن التغيرات الجسدية المصاحبة لهذه السن سريعًا ما تصل بهم إلى الشكل المقارب لمثال الجسد الذكوري من حيث زيادة حجم وقوة العضلات وزيادة الطول واتساع ما بينَ المنكبين، وكل هذه التغيرات في الحقيقة إنما توجههم ناحيةَ الصورة المثالية المشهورة للبدن الذكوري التي تتميز بوجه عام بالكثير من المرونة والسماح بالاختلاف؛
أما البنات فدخول البنت مرحلة المراهقة يعني حدوثَ تغيرات في جسدها هيَ زيادة الوزن وتجمع الدهون في منطقة الفخذين والأرداف وبزوغَ النهدين وزيادة الوزن والحجم بالتالي، وكل هذه التغيرات هيَ في الحقيقة بمثابة ابتعادٍ عن النموذج العصري المثالي للفتاة الجميلة!، خاصةً وأن النمو في هذه المرحلة يتسم أصلاً بالاضطراب وعدم الانتظام بالشكل الذي يجعل تطويعه للوفاء بمتطلبات النموذج المثالي لجسد البنت مستحيلاً على الأقل في سنين المراهقة، وفي دراسة أجراها باحثون من جامعة هارفارد وجد أن ثلثي البنات النحيفات في سن الثانية عشرة اعتبرن أنفسهن بدينات جدا، وفي سن الثالثة عشر كان نصفهن غير راضيات عن صورة أبدانهن، وفي سن الرابعة عشر كانَ هناكَ ازديادٌ محددٌ في عدم الرضا عن صورة مناطق معينة من الجسد خاصةً الأرداف والفخذين، وفي سن السابعة عشر كان هناكَ سبعةُ مراهقات من كل عشرة يتبعن حِمْيَـةً مُنَـحِّفَـةً، وثمانيةٌ من كل عشرة غير راضيات عن شكل جسدهن في المرآة.
-2- المجموعة الاجتماعية: تختلفُ مقاييس جمال الجسد ما بينَ مجموعةٍ عرقيةٍ وأخرى فبينما يفضلُ القوقازيون (البيض من الأمريكان والأوروبيين) المرأة النحيلة نجدُ لدى الأفارقةَ والآسيويين من يفضل المرأة الممتلئة، فهناكَ ما تزال في مجتمعاتنا الكثيراتُ من البنات يطلبنَ العلاج من النحافة لدى العطارين ولدى الأطباء، كما أن الدراسات التي أجريت بهدف مقارنة الرضا عن صورة الجسد الممتلئ ما بينَ الأعراق المختلفة قد بينت ما يؤيدُ وجود مثل هذه الاختلافات، فرأت الأوغنديات في دراسةٍ إنجليزيةٍ جسد المرأة الممتلئ أكثرَ جاذبيةً من الجسد النحيل، كما أن أربعين بالمائة من الأمريكيات السود البدينات رأينَ صورةَ أبدانهن جذابةً أو جذابةً جدا، وبينت مقارنة النساء الإنجليزيات بالإنجليزيات من أصلٍ أسيوي أن ذوات الأصل الأسيوي أكثرُ رضًا عن أجسادهن مقارنةً بالإنجليزيات القوقازيات الأصل، وذلك على الرغم من أن غالبية الأسيويات نحيلات القوام أيضًا إلا أن تأثرهن ورغبتهن في تطويع أجسادهن للنموذج الغربي للجمال لم تكن بنفس القوة التي لدى القوقازيات؛
إذن فهناكَ فروقٌ ناتجةٌ عن الانتماء العرقي ولعل لها علاقةٌ بالموروثات الثقافية التي كانت ترى في المرأة البدينة رمزًا للخصوبة والجمال والكرم والثراء، إلا أن ما تؤكدهُ معظمُ الدراسات أيضًا هوَ أن هذه الفروق آخذةٌ في التناقص في العقود الأخيرة ولعل السبب في ذلك هوَ تأثيرُ القيم الغربية من خلال وسائل الإعلام وما يسمونه بالسماوات المفتوحة.
وبصورةٍ عامةٍ تحبذُ معظمُ الثقافات زيادةَ الوزن والحجم عن المتوسط للذكور، وقلتهما عن المتوسط للإناث، كما أن الكثير من المجتمعات تعطي أهميةً كبيرةً لجسم المرأة، فالمجتمعُ الأمريكيُّ مثلاً يوجهُ انتباهًا شديدًا نحو جسم المرأةِ، ويؤكدُ على أهميتها ومكانتها من خلال مظهرها الجسدي وهو ما لا يحدثُ بالنسبة للرجال، وفي الثقافة الفرنسية يتمُّ تقييم المرأة في ضوءِ ما تتمتعُ به من جاذبيةٍ جسدية، بل إن بعضَ الثقافات تقومُ الرجلَ نفسهُ تقويمًا إيجابيا إذا كانت زوجته تتمتعُ بجاذبيةٍ جسديةٍ عالية.
ويتبع...............: رؤية المرأةِ لجسدها من منظور اجتماعي مشاركة
اقرأ أيضاً:
هل هي البدانة ( السمنة ) ؟ أم غول البدانة؟ / هل البدانةُ اضطراب نفسي؟ / أمراض مرتبطة بالبدانة هل فعلاً بالبدانة؟ / البدانة ( السمنة ) في الأطفال والمراهقين