القراءة الصهيونية للتاريخ
الفصل الثاني
القراءة الصهيونية للتاريخ(4)
مدخل:
*أبعاد الموقف اليهودي من الحروب الصليبية
*حقيقة الاضطهادات الصليبية لليهود وعلاقتها بحركة معاداة السامية
*محاولة سرقة التاريخ العربي
*دراسة أسباب الفشل الصليبي.
منذ بدأت أحداث الحروب الصليبية، بدأ المؤرخون يكتبون عنها ولم يتوقفوا عن الكتابة حتى الآن فقد انكب عشرات من المؤرخين والباحثين يفتشون بين غبار المعارك وأشلاء الضحايا وأنَّات الجرحى وزفرات المهزومين، بين صليل السيوف وصيحات النصر عن أجزاء الصورة التي يريدون استردادها من ذمة التاريخ وأخرجت أقلام النساخين وآلات الطباعة سيلاً من المؤلفات والدراسات التي تدور جميعها حول موضوع واحد هو الحروب الصليبية.
لقد اهتم الغرب الأوربي والأمريكي بقصة هذه الحروب التي اتخذت الصليب شعارًا والقدس هدفًا، وفي ظل الشعار والهدف ارتكبت أبشع ما يمكن للبشر أن يتصوره حتى بمقاييس العصور الوسطى التي اشتهرت بالقسوة وقلة الاهتمام بالجوانب الإنسانية في الحروب، وعلى الرغم من أن كثيرين في الغرب قد أدانوا الحروب الصليبية فإن هذه الإدانة في رأينا نابعة من حقيقة أن الحروب الصليبية فشلت في أن تحقق شيئًا على الرغم من أن فصولها الرئيسية قد دارت على مدى ما يقرب من قرنين من الزمان ومع ذلك فإن بعض أولئك الباحثين يرى أن الأراضي التي استهدفتها الحروب الصليبية حق للمسيحيين الكاثوليك في الغرب الأوربي، وأن الصليبيين قد فشلوا في استردادها بيد أن هذه لا ينفي وجود بعض المؤرخين الذين جعلوا البحث العلمي والتعرف على الحقيقة أيًا كانت هدفًا ينبغي الوصول إليه.
أما في المنطقة العربية الإسلامية فإن الدراسات الحقيقية لهذه الحركة ما تزال قليلة حقًا وعلى الرغم من محاولات قليلة جيدة وقام بها بعض الباحثين من أستاذة الجيل السابق فإن محاولات جيلنا في هذا الصدد ما تزال قاصرة على الوفاء بما تتطلبه هذه الظاهرة من دراسة وتحليل وعلى الرغم من أننا كطرف وقع عليه العدوان الصليبي، ينبغي أن نوفي الظاهرة حقها من الدراسة والتأمل العلمي فإن معظم المؤلفات العربية توقفت عند حد رواية الأحداث العسكرية والسياسية بطريقة سردية كما لجأ البعض إلى الدراسة الانتقائية بهدف دغدغة مشاعر الفخر والزهو الكاذبة في نفوسنا.
وعلى الرغم من أن الحروب الصليبية كانت في أساسها مواجهة بين المسلمين والمسيحيين فإن المؤرخين والباحثين اليهود قد اتخذوا لأنفسهم موقفًا من الحرب الصليبية يمكن القول بأنه موقف مختلف عن موقف كل من المسلمين والمسيحيين، فاليهود لم يكونوا طرفًا أساسيًا في هذه المواجهة "العسكرية/الحضارية" الطويلة، ومن ثم فإنه لا يمكن القول بأن لهم انحيازًا إلى جانب أحد الطرفين المتصارعين؛ بيد أن الموقف اليهودي من الحروب الصليبية يخدم الأهداف الصهيونية الأساسية من عدة جوانب فهو تعبير عن الاتجاه الصهيوني العام الذي يخلق مجموعة من الأكاذيب التاريخية ويروج لها لتحقيق مكاسب جديدة للحركة الصهيونية.
وتحاول القراءة الصهيونية لتاريخ الحركة الصليبية توظيف هذه الظاهرة لصالح الكيان الصهيوني من جوانب عديدة تستغل الانحياز العاطفي لدى الغرب الأوروبي والأمريكي والتراجع العربي على كافة المستويات، هذا الموقف اليهودي من الحروب الصليبية يتخذ مسارات أساسية ثلاثة:
أولاً: محاولة تصوير الاضطهادات التي أوقعها الصليبيون باليهود في أوروبا الغربية على أنها حلقة من ضمن سلسة الظاهرة التي أطلقوا عليها معاداة السامية وهي ظاهرة اختلقوها وروجوا لها ليبتزوا بها ضمير العالم بل أنهم يوحون إلى جماهير العامة في شتى أرجاء الدنيا أنهم وحدهم الساميون وهذه كذبة تدحضها حقائق العلم على أية حال.
ثانيًا: محاولة سرقة التاريخ العربي في فلسطين والمنطقة العربية من خلال اختلاق دور تاريخي لليهود في التصدي للعدوان الصليبي بشكل يوحي أن اليهود أصحاب الأرض وأنهم تعرضوا للعدوان ودافعوا عن البلاد مثلما فعل العرب وهو أمر يحاولون به تأكيد حق اليهود التاريخي المزعوم في الأرض العربية التي سرقوها، ومثلما حاولوا اختلاق إسرائيل القديمة من خلال الأساطير التي روجوها فإنهم يحاولون استمرار تأريخي مزعوم لهذه لدولة إسرائيل في فترات التاريخ المختلفة.
ثالثًا: دراسة الكيان الصليبي مع التركيز على المشكلات الأساسية التي أدت إلى فشله ككيان دخيل، ودراسة إمكانيات النجاح للكيان الصهيوني المشابه مع مراعاة الثوابت والمتغيرات في الحركة التاريخية من ناحية والعلاقات الدولية من ناحية أخرى.
ولابد هنا من إشارة إلى حقيقة تاريخية مهمة وهي أن اليهود أتباع دين وليسوا أمة وأن اليهودية ديانة وليست قومية ومن ثم فإن الحديث عن التاريخ اليهودي أو الثقافة اليهودية يظل أوهامًا تروجها الصهيونية.
وبطبيعة الحال فإن الموقف اليهودي من الحروب الصليبية لا يستمد تياره من الروافد الأساسية الثلاثة فقط وإنما هناك روافد تختلف بدرجة أو بأخرى حسب الرؤية الشخصية أو الخلفية الثقافية الذاتية لكل من الذين تصدوا بالدراسة والبحث في هذا الموضوع، فهناك من يهتم ببعض الإسقاطات المعاصرة على الكيان الإسرائيلي في مسائل الأمن والعلاقة بالدول المجاورة وهناك أيضًا من يهتم بترويج بعض الأكاذيب التاريخية مثل عدم قدرة المصريين على القتال، ومن يحاول النيل من أبطال التاريخ العربي الإسلامي الكبير في فترة الحروب الصليبية بالتقليل من شأن عبقريتهم العسكرية والتاريخية مثلما تحدث البعض عن صلاح الدين الأيوبي؛ هذه كلها أمور أخرى فرعية هي التي تُميز باحثًا يهوديًا عن غيره بيد أنهم جميعًا يصبون في الروافد الثلاثة التي تصنع الموقف اليهودي العام من الحروب الصليبية.
ويتبع >>>>: الموقف اليهودي من الحروب الصليبية(2)