الموقف اليهودي من الحروب الصليبية (1)
القراءة الصهيونية للتاريخ
الفصل الثاني
وفيما يتعلق بالموضوع الأول أي الاضطهادات الصليبية ليهود أوروبا فالواضح أن المؤرخين اليهود يفضلون عادة أن يناقشوا موقف الصليبين من يهود أوروبا في إطار الموضوعات المتعلقة بتاريخ معاداة السامية، وهنا ينبغي أن نناقش هذه المسالة لنتبين حقيقة هذه الاضطهادات الصليبية ليهود أوروبا إبَّان أحداث الحركة الصليبية.
كانت المستعمرات اليهودية قد قامت منذ عدة قرون على طول الطرق التجارية في غرب أوروبا، وكان سكان هذه المستعمرات من اليهود السفارديم الذين نزح أجدادهم من عالم البحر المتوسط في العصور الوسطى الباكرة، وكان هؤلاء على علاقة بأبناء دينهم القاطنين في أرجاء الإمبراطورية البيزنطية والعالم الإسلامي مما أعانهم على القيام بدور مهم في التجارة العالمية في تلك العصور حين تسببت الغزوات الجرمانية وتدهور اقتصاديات غرب أوروبا في اختفاء التجار من غير اليهود من هذه المنطقة.
ومن ناحية أخرى قام أولئك اليهود بإنشاء بيوت لإقراض الأموال في شتى أنحاء الغرب الأوروبي. والواقع أنها لم تكن أكثر من أماكن السكن والإقامة التي عاش فيها المرابون اليهود، وكان الحكام العلمانيون وكبار الأساقفة والأساقفة يظللون هؤلاء اليهود بحمايتهم لقاء ما يقدمونه لهم من أموال.
ولكن الفلاحين والفقراء من سكان المدن الناشئة والذين تزايدت حاجتهم للمال بسبب التطور الاقتصادي في غرب أوروبا -والذي جعل الاقتصاد النقدي يحل تدريجيًا محل الاقتصاد الطبيعي القائم على المقايضة الذي عرفته العصور الوسطى الباكرة- كانوا يتورطون باطراد في ديونهم للمرابين اليهود بالقدر الكافي الذي جعلهم يشعرون بالسخط تجاه أولئك المرابين الذين كانوا يفرضون على عملائهم أرباحًا باهظة وصلت أحيانًا إلى خمسين بالمائة من قيمة الدين وخلال القرن الحادي عشر تصاعدت مشاعر العداء تجاه اليهود نظرًا لأن عدد من يقترضون المال منهم قد تزايدوا كما جاءت الحركة الصليبية وما صاحبها من تطرف ديني وهوس أخرى لتصب مزيدًا من السخط على نيران الكراهية ضد اليهود.
لقد كان الأساس الفكري للحركة الصليبية هو العداء الآخر سواء كان هذا الآخر هو مسلم أو مسيحي شرقيًا أو يهوديًا، ومن ناحية أخرى كان تجهيز الفارس في العصور الوسطى يتطلب نفقات كثيرة وإذا لم يكن لديه الأرض أو الممتلكات التي يستطيع رهنها تعين عليه أن يقترض المال من اليهود بالربا، وحين بدأت الحركة الصليبية كان محتمًا أن يتحول انتباه الناس إلى أولئك الذين عانى المسيح على أيديهم؛ فقد ظهر اتجاه يقول أن المسلمين هم العدو الحالي لأنهم يضطهدون أتباع المسيح ولكن اليهود أسوأ منهم لأنهم اضطهدوا المسيح نفسه وأخيرًا هبت العاصفة التي كان نذيرها قد بات يتجمع منذ إعلان لأربان الثاني عن الحملة الصليبية في كليرمون أطاحت رياحها العاتية بالجماعات اليهودية في غرب أوروبا.
ولسنا هنا بصدد التعرض لتفاصيل الاضطهادات الصليبية لليهود في أوروبا ولكننا نحب أن نشير إلى حقيقة أن هذه الاضطهادات لا يمكن أن تدخل في السياق العام لما يسمى بمعادة السامية التي ابتدعها اليهود وروجوا لها لخدمة أهداف الحركة الصهيونية، فإذا كان التاريخ اليهودي قد شهد بعض حوادث العنف ضد الجماعات اليهودية في المجتمعات التي عاشوا في رحابها فان كل حادثة كانت إفرازًا لظروف خاصة بالمجتمع والعصر الذي حدثت فيه ولا يمكن أن نضعها جميعًا في سياق واحد، وتظل كل كارثة من هذه الكوارث قائمة بذاتها في إطار ظروفها التاريخية الخاصة فلا يمكن أن نضع الحوادث الناتجة عن التعصب الديني في إطار واحد مع الحوادث الناتجة عن التخلخل الاقتصادي أو الاضطراب السياسي مثلاً؛ ومن ثَمَّ فإن ما حدث أثناء فترة الحروب الصليبية لا يمكن ربطه بما حدث لليهود في أسبانيا على يد الغربيين من قبل، أو بما حدث لهم نتيجة لأحداث الوباء الأسود من بعد، كما أنه لا يمكن ربطه بما حدث لهم على أيدي الرومان في سنة 70 ميلادية أو ما حدث لهم في ألمانيا النازية في القرن العشرين، وهي مسألة فيها من الدعاية أكثر مما فيها من الحقائق التاريخية على أية حال.
لقد كانت الحروب الصليبية نفسها ميراثًا تخلف عن القرن الحادي عشر بما ساده من هوس ديني وحماسة وتطرف نتجت عن موجة التدين الشكلي النزق بين الصفوف العلمانيين وعن حركة الإصلاح الكنسي ومن ثم كان لابد للحركة أن تصب نيرانها على أعداء المسيحية في الداخل والخارج ودليلنا في هذا الكُتَّاب اليهوديين أنفسهم يعترفون بازدهار الجماعات اليهودية في أوروبا طوال الفترة التي سبقت عصر الحروب الصليبية بغض النظر عما حدث في أسبانيا قبل الفتح الإسلامي.
ومن ناحية أخرى فإن الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة في أوروبا القرن الحادي عشر فرضت الاعتماد على المرابين اليهود الذين حرصوا على إرضاء الحكام وكبار الأساقفة حتى يمكنهم الانفراد بضحاياهم من الفقراء. ولما كان المرابون في أي مجتمع محل كراهية الناس وحقدهم فإن الغطاء الديني الذي وفرته الحركة الصليبية للغضب ضد اليهود يسر لجموع الصليبين الهائجة أن تنتقم لنفسها من المستغلين.
لقد أدت الحمى الأخروية التي ألهبت مشاعر من ساروا في الحملة الشعبية إلى تأجج نيران هذا الغضب بحيث جاءت مذابح سنة 1096 م نهاية للعصر الذهبي ليهود شمال غرب أوروبا وكانت كل حملة صليبية تالية ترتكب مذابح مماثلة ضد اليهود بحيث عاشت الجماعات اليهودية بشكل مستمر في ظل العزلة والخوف.
ولسنا نقصد هنا الدفاع عن سلوك الصليبين تجاه يهود شمال غرب أوروبا ولكننا نود أن نوضح هذه المذابح والاضطهادات التي جرت على اليهود آنذاك، ويمكن دراستها باعتبارها ظاهرة تاريخية قائمة بذاتها، سواء من حيث الظروف التاريخية التي أفرزتها أو من حيث النتائج التي أدت إليها ولكننا لا نستطيع أن نوافق على المحاولة التعسفية لوضعها في السياق العام لما يسمى بمعاداة السامية؛ والناظر في الابتزاز الصهيوني الحالي للأوربيين والأمريكيين بالإفراط في استخدام سلاح معاداة السامية ضد كل من ينتقد السلوك الوحشي للإسرائيليين ضد الفلسطينيين العزل يمكنه أن يفهم بسهولة لماذا تستخدم القراءة الصهيونية لتاريخ الحركة الصليبية هذا السلاح في تفسير الأحداث التي جرت منذ حوالي تسعمائة سنة. كما أن البابوية الحديثة "الفاتيكان" قد خضعت لهذا الابتزاز الصهيوني بتبرئة اليهود من دم المسيح في الستينات واعتذرت لهم عما جرى إبان الحروب الصليبية في بداية القرن الحادي والعشرين.
ومن الأمور المثيرة أن الحركة الصليبية قد استخدمت في دعايتها القصص التي ذاعت عن الاضطهادات التي يلقاها مسيحيو الشرق على يد المسلمين وانطلق الدعاة والمبشرون يروجون لهذه القصص حتى تأججت نفوس المسيحيين بالرغبة في قتل المسلمين ثم امتدت هذه النزعة العدوانية لتحل باليهود باعتبارهم هم من أعداء المسيح والكنيسة ثم جاءت الحركة الصهيونية لترتبط منذ بدايتها بالعمل الدعائي والحرب الإعلامية إذ قال هرتزل في واحدة من خطبة الأولى: أن نخلق أكبر قسط من الضوء حول المشكلة اليهودية وإذا كان استخدام الأدب والفن وكتابة التاريخ إحدى وسائل الدعاية السياسة للحركة الصهيونية فإننا يمكن أن نفهم حقيقة الموقف اليهودي من استغلال المذابح الصليبية ضد اليهود أثناء فترة الحروب الصليبية.
ويتبع >>>>: الموقف اليهودي من الحروب الصليبية(3)