القراءة الصهيونية للتاريخ
الفصل الثاني
الموقف اليهودي من الحروب الصليبية (2)
أما الموضوع الثاني وهو محاولة سرقة التاريخ العربي من خلال محاولة اختلاق دور تأريخي لليهود في مواجهة الحركة الصليبية على أرض فلسطين فهو أمر يتصل بالدعاية السياسية للحركة الصهيونية وحرصها على استخدام الأدب وكتابة التاريخ كأداة من أدوات الدعاية أو إثارة أكبر قدر ممكن من الضجة حول المشكلة اليهودية على حد تعبير هرتزل فالمؤرخون اليهود يتحدثون عادة عن اليهود الذين قتلوا في فلسطين دفاعًا عن مدنهم وقراهم التي هاجمها الصليبيون ويركزون الحديث على يهود مدينة القدس ولكن هذا القول مردود بعدد الحقائق التاريخية الواضحة.
أولى هذه الحقائق أن اليهود في فلسطين عند قدوم الحملة الصليبية الأولى وقبلها بزمن طويل لم يكونوا يعيشون ضمن كيانات سياسية مستقلة ولكنهم عاشوا في رحاب العالم العربي الإسلامي باعتبارهم أقلية دينية يتمتعون بالحريات الدينية والاقتصادية والاجتماعية التي كفلتها لهم النظرية السياسية والإسلامية وتطبيقاتها التي تجعل من غير المسلمين أهل ذمة في دار الإسلام تجب على المسلمين حمايتهم لقاء ضريبة الجزية، ولأنهم لم يكونوا يعيشون في كيان سياسي مستقل فإنهم لم يكونوا يمتلكون الجيش أو الوسيلة العسكرية التي تمكنهم من التصدي للعدوان الصليبي.
كما أن القول بأن اليهود قد تصدوا لمقاومة العدوان الصليبي على المنطقة العربية الإسلامية التي عاشوا في رحابها آنذاك كان يقوم على عقيدة الجهاد التي هي فرض على المسلمين وحدهم ومن ثم لم يكن ممكنًا أن يلتحق غير المسلمين بالجيش الإسلامي، وإذا كانت المصادر قد حدثتنا عن مساهمات فردية من جانب المسيحيين الشرقيين في أعمال المساعدة العسكرية ضد الصليبين فإن هذه المصادر نفسها لم تذكر لنا مثلاً واحدًا على قيام اليهود بمثل هذه العمل، ومن ناحية أخرى فإن يهود ذلك الزمان لم يكونوا أهل قتال وهذه حقيقة وعلى جانب كبير من الأهمية لاسيما إذا وضعنا في اعتبارنا أن الجنود والمقاتلين المحترفين كانوا يتفرغون للحياة العسكرية طوال حياتهم نظرًا لما كان القتال يتطلبه آنذاك من مهارات عالية ولياقة جسمانية وتدريب مستمر فضلاً عن أنه لم يكن مسموحًا لعامة الناس بامتلاك الخيول والأسلحة باعتبارها من أدوات القتال.
ومن ناحية أخرى فإنه من الثابت تاريخيًا أن الحياة اليهودية داخل المناطق الصليبية قد ازدهرت، وقد ذكر الرحالة اليهودي الأسباني بنيامين التطيلى الذي زار المنطقة زمن نور الدين محمود معلومات طيبة عن أعداد اليهود في فلسطين زمن الحروب الصليبية وعن الحرف التي كانوا يشتغلون بها ومن خلال الأعداد الضئيلة التي ذكرها هذا الرحالة اليهودي ومن خلال حرف اليهود التي ذكرها نستطيع أن ندرك بسهولة أنهم لم يكونوا مؤهلين للقيام بهذا الدور الذي تحاول الدعاية الصهيونية اختلافه لهم وتكشف كلمات بنيامين التطيلى والمقارنة بين أعداد اليهود في المناطق الصليبية وأعدادهم في المناطق الإسلامية عن أن اليهود في المناطق الإسلامية كانوا أكثر عددًا، كما كانت أكثر رقيًا ولكن أعدادهم كانت هزيلة بالقدر الذي يجعلنا نرفض قبول مثل هذا التزييف للواقع التاريخي.
ومن اللافت للنظر أيضًا أن حركة المقاومة التي بدأها المسلمون ضد الصليبيين لم تجذب انتباه اليهود في المنطقة العربية ولم يقوموا بأي جهد واضح وملحوظ في الصراع السياسي العسكري الذي دار آنذاك بين المسلمين والمستوطنين اللاتين طول ما يقرب من مائتي سنة وهو أمر يتمشى مع حقيقة حجمهم العددي ووضعيتهم الاجتماعية في البلدان العربية والمناطق الصليبية على حد سواء.
حقًا لم تفرق سيوف الصليبين بين المسلمين والمسيحيين العرب واليهود في مجزرة بيت المقدس فقد كانت النظرة الصليبية الدينية تجاه الفريقين واحدة تقريبًا، لقد قامت الفكرة الصليبية على أساس تكفير المسلمين واليهود باعتبارهم أعداء للمسيحية وعلى هذا الأساس منع الصليبيون المسلمين واليهود من دخول بيت المقدس وكانت ذريعتهم في ذلك أنه يجب تطهير الأماكن التي شهدت تجسد السيد المسيح ومعاناته وآلامه من أولئك الذين تسببوا في آلامه (اليهود) وأولئك الذين يضطهدون أتباعه المسلمين.
هذه النظرة هي التي حكمت تصرفات اللاتيني في المنطقة العربية تجاه المسلمين واليهود، ولكن بينما تصدى المسلمون لمقاومة الوجود الصليبي بشكل إيجابي كان الموقف اليهودي سلبيًا تمامًا، هذا الدور السلبي لليهود في إطار النظرة الصليبية الموحدة تجاههم هم والمسلمين لا يعطى للمؤرخين اليهود الحق في المساواة بين دور العرب المسلمين ودور اليهود في الصراع ضد الصليبين، ذلك أن مثل هذا الموقف يغفل تمامًا السلبية التي اتسم بها الموقف اليهودي منذ بداية الحركة الصليبية حيث قبلت الجماعات اليهودية الاضطهاد الذي حلَّ بها في أوروبا ولم تفعل شيئًا سوى الانتحار الجماعي، كما أن الجماعات اليهودية في فلسطين لم تكن تملك سوى أن تستسلم لمصيرها على أيدي الصليبيين.
وفي تصورنا أن هذا الموقف السلبي ناتج عن تشابه وضع الأقليات اليهودية في كل من أوربا والمنطقة العربية، وفي الحقيقة إن يهود المنطقة العربية قد عاشوا حياة أكثر أمنًا وتحركوا بحرية أكثر وتقلدوا المناصب ولعبوا دورًا أكبر في حياة المجتمع ولكنهم ظلوا يتصرفون بعقلية الأقلية الغربية التي لا تريد لنفسها التورط في الدفاع عن شيء لا تملكه ولذلك كانت المقاومة السلبية من جانب الجماعات اليهودية في حوض الراين أشبه باستسلام الأقلية اليهودية في فلسطين، لقد اقتصر دور الجماعات اليهودية على إرسال رسائل التحذير من الصليبيين لرفاق دينهم وعلى طقوس الانتحار الجماعي ولكن هذه المقاومة السلبية لم تكن لتوقف المد الصليبي في أراضي الشرق أو تساعد على تغيير مجريات الأحداث.
ومن الأمور ذات الدلالة أن الحي اليهودي في مدينة بيت المقدس كان هو نقطة الضعف التي استفاد منها الصليبيون في حصارهم للمدينة ومنها شقوا طريقهم إلى داخل المدينة المقدسة.
هكذا إذن لا يمكننا أن نوافق على أن اليهود قد لعبوا دورًا مساويًا لدور العرب المسلمين في التصدي للغزو الصليبي وهو آمر نراه طبيعيًا لأن العرب هم أصحاب البلاد وقد جعلهم الغزو يتحولون في بعض المناطق من حكام إلى محكومين ومن أكثرية إلى أقلية. ولذلك كان لابد لهم من التصدي لهذه الحركة، وقد ظل العرب على مقاومتهم العنيدة قرابة قرنين من الزمان حتى تم لهم طرد الصليبين واسترداد بلادهم، وهو أمر يختلف تمامًا عن نظرة الأقلية اليهودية التي كانت أعدادها قليلة كما تركز نشاط أفرداها في بعض المهن المالية والصناعية ولم يزعجها شيء في استبدال حاكم بآخر سوى احتمال أن يكون الحاكم الجديد أقل تسامحًا من الحاكم السابق.
لقد كان المال هو خط الدفاع العربي الذي يستخدمه اليهود فإذا فشل هذا السلاح في مواجه الصليبين تجرد اليهود من كل سلاح. وعلى أية حال فإن محاولة سرقة التاريخ العربي وانتحال دور إيجابي لليهود أثناء فترة الحروب الصليبية ليس بالأمر الجديد أو الغريب على الاتجاه الفكري للحركة الدعائية الصهيونية إذ أن هذه هي الملامح الأساسية للقراءة الصهيونية للتاريخ عمومًا ولتاريخ الحركة الصليبية خصوصًا، ذلك أن كتاب الأدب والتاريخ واليهود منذ القرن التاسع عشر راحوا يعيدون قراءة التاريخ وفقًا للخطوط العامة للقراءة الصهيونية للتاريخ ولم يقف الأمر إلى القيام بعملية تشويه منظمة للتاريخ العربي، ولم تقتصر حركة التأليف اليهودي على الدفاع عن صورة اليهودي من جانب والتشويه لصورة العربي والمسلم من جانب آخر وإنما أخذت لنفسها بُعدًا ثالثًا يحاول إيجاد عملية ربط وتتابع بين ما أسموه زورًا وبهتانًا (الحضارة اليهودية) والحضارة المسيحية.
هذه الحركة التي كانت تهدف إلى إحياء ما يسمي بالوعي القومي اليهودي والدفاع عن الطابع القومي اليهودي في شتى أنحاء العالم لم تكن تملك لغتها القومية الخاصة إنما كانت تستخدم لغة المجتمع الذي تعيش في رحابه أو خليط من تلك اللغة مع بعض الكلمات والمصطلحات العبرية، كما أنها عاشت وفق العادات والتقاليد والثقافة السائدة في المجتمعات التي عاشوا في رحابها بحيث أن اليهود القادمين من أوروبا إلى المنطقة العربية في تلك العصور كانوا يبدون دهشتهم من عادات وتقاليد يهود العالم العربي.
ويتبع >>>>: الموقف اليهودي من الحروب الصليبية(4)