القراءة الصهيونية للتاريخ
الفصل الثاني
الموقف اليهودي من الحروب الصليبية (3)
وبعد نجاح الحركة الصهيونية في سرقة الوطن الفلسطيني وزرع الكيان الإسرائيلي عليه بدأ الإسرائيليون يحاولون سرقة التاريخ والتراث العربي بل أن المشكلة تعدت حدود البحوث والدراسات التي يمكن الرد عليها وتفنيدها، لقد سرق الصهاينة الوطن الفلسطيني وراحوا يختلقون لأنفسهم وجودًا تاريخيًا على الأرض العربية وامتدت أياديهم تسرق التراث والفن والتقاليد العربية وتنسبها إلى الإسرائيليين فهناك على سبيل المثال مركز إسرائيلي للدراسات والبحوث الفولكلورية تابع للجامعة العبرية في القدس وهو يهتم بجمع وتسجيل ما يسمى بالتراث الفولكلوري الإسرائيلي، لهذا المركز أرشيف يضم آلاف النصوص الشعبية وهو أمر يثير الدهشة والتساؤل على حد تعبير أحد الباحثين فكيف يمكن أن يوجد ما يسمى الفلكلور الإسرائيلي ولم يكن هناك قبل سنة 1948 شعب اسمه الشعب الإسرائيلي ولم تكن هناك دولة اسمها إسرائيل؛
ذلك أن الحقيقة العلمية تفترض انه لكي يكون لشعب ما تراث شعبي فإنه ينبغي أن يكون هناك وطن يعيش فيه، ولغة يستطيع أن يبدع فيها وأن يعبر بها عن نفسه، ومن الثابت تاريخيًا أن ذلك لم يحدث؛ فالأدب العبري مثلاً مصطلح يطلق على أدب لم يدون في وطن بعينه أو لغة بعينها، بل في مختلف دول الشرق والغرب قديمًا وحديثًا، والقليل منه هو الذي وصلنا في العبرية سواء قبل الميلاد أو بعده..".
وما يقال عن اللغة العبرية يقال أيضًا عن الشعب الإسرائيلي الذي يتكون من جماعات تنتسب إلى قوميات مختلفة وثقافات متعددة ومراحل حضارية متفاوتة، ولا يجمع بينهما سوى الدين اليهودي الذي لا يمكن أن يكون وحده أساسًا لقيام الأمة، وإذا سلَّمْنا بوجود تراث شعبي ديني لليهود فإننا لا يمكن أن نوافق على أنه كان لليهود تراث شعبي علماني واحد منفصل عن تراث الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها، وعلى أية حال فإن اليهود يبذلون جهدًا كبيرًا من أجل إيجاد ذاتية لهم وتراث أو ثقافة واحدة تجمعهم. وهم في هذا السبيل يسرقون التراث العربي وينسبونه لأنفسهم وبين يدي العالم الآن آلاف الدراسات فيما يسمى بالفلكلور اليهودي والميثولوجيا اليهودية والعادات والتقاليد والاحتفالات اليهودية وغيرها مما ينسبونه إلى إسرائيل والشعب الإسرائيلي.
ومن المثير أن هذه كلها أمور هي صميم من تراث الشعوب العربية فالأمثال العامية التي تتعلق بالولادة وتربية الأطفال مثلاً والتي تنسبها الدعاية الصهيونية إلى اليهود مازالت سارية إلى اليوم في أرجاء العالم العربي.
بل أنهم راحوا يطرحون في الأسواق العالمية لاسيما في أوروبا وأمريكا الملابس العربية المطرزة والحلي والجواهر والمشغولات المعدنية العربية فضلاً عن أصناف الحلوى العربية الحلويات الشامية والأطعمة المصرية والفلسطينية والسورية والمغربية وغيرها ويدعون أنها جميعًا من نتاج التراث الشعبي أو الإسرائيلي وتكتمل جوانب المخطط اليهودي لسرقة التاريخ والتراث العربي بالرقصات والأغنيات الشعبية العربية التي يقدمونها باعتبارها فنونًا شعبية إسرائيلية.
وتأتي سرقة الآثار العربية من المناطق التي يحتلها الإسرائيليون لتكون برهانًا ماديًا على جريمة سرقة التاريخ العربي التي يريدون بها تدعيم سرقتهم للوطن الفلسطيني، فقد اشتهر عدد كبير من قادة الكيان الصهيوني بالتنقيب عن الآثار وقد سرقوا كثيرًا من الآثار من فلسطين والأردن وسوريا وسيناء كما أنهم نشطوا تمامًا أثناء الغزو الإسرائيلي الأخير للبنان في سرقة الآثار بشكل يهدد السمعة التي تتمتع بها المنطقة العربية في هذا المجال، والمشكلة أفدح وأخطر من أن نغض الطرف عنها فقد يأتي يوم ينظر فيه العالم إلى المنطقة العربية على أنها تعيش عالة من الناحية الحضارية على تراث إسرائيل وإبداع الشعب الإسرائيلي المستمر المتواصل عبر الزمان والمكان وهم لا يدخرون وسعًا في هذا السبيل، وموقفهم من الحروب الصليبية ومحاولة اختلاق دور إيجابي ليهود العالم العربي في مواجهتها جانب من جوانب هذه المحاولة التي يجب التصدي لها بالعقل والعلم والصبر.
أما الموضوع الثالث في الموقف اليهودي من الحركة الصليبية فهو نابع من إدراكهم لحقيقة الوظيفة الثقافية والاجتماعية للتاريخ كعلم فهم يدرسون تاريخ الحركة الصليبية مع التركيز على الوجود اللاتيني فوق أرض فلسطين وطبيعة علاقات الصليبين بشعوب المنطقة وعوامل النجاح التي حققت لهم الانتصارات الأولية ثم عوامل الفشل والإخفاق التي أدت إلى رحيل الصليبيين من المنطقة العربية ونهاية دولتهم؛
وإذا كنا نؤمن إيمانًا قاطعًا بأن التاريخ لا يعيد نفسه فإننا ندرك أيضًا أن الظروف التاريخية المشابهة يمكن أن تؤدي أيضًا إلى نتائج مشابهة وليست متماثلة، ومع تسليمنا بوجود الكثير من أوجه الاختلاف بين الحركة الصليبية والحركة الصهيونية من ناحية وبين الكيان الصليبي والكيان الإسرائيلي من ناحية أخرى فإن هناك جوانب أساسية للتشابه بينهما فكلتا الحركتين استعمارية استيطانية تسربت برداء الدين وارتكزت على مفهوم الخلاص وفكرة الشعب المختار والأرض الموعودة وهي أفكار أعلنها البابا أربان الثاني صراحة بكليرمون عشية الحروب الصليبية كما روجت لها القراءة الصهيونية عشية الهجوم على فلسطين وما تزال ترددها.
وكلٌ من مجموعات بشرية متفاوتة الثقافات والدرجات الحضارية زُرَع في أرض عربية اللسان إسلامية الثقافة شرقية السمات، كما أن الصليبين والصهاينة يشتركون في الاعتماد على مساندة الظهير من خارج المنطقة كما هو الغرب الأوربي في كلتا الحالين فضلاً عن جوانب أخرى تشابه فيها الصليبيون الإسرائيليون منها الطابع العسكري للمجتمع وتوظيف كافة موارد هذا المجتمع من أجل الحرب ومنها العنصرية التي تخفى خلف ستار الدين وما إلى ذلك.
هذا التشابه هو الذي يغري الكثيرين من الدراسيين اليهود بدراسة تاريخ الحركة الصليبية وتسخير نتائج دراساتهم في دراسة مستقبل الكيان الصهيوني، ولاشك في أن المتغيرات في تاريخ العلاقات الدولية قد أوجد عوامل جديدة لم تكن قائمة في العصور الوسطى، كما أن التطور التكنولوجي المذهل أوجد حقائق كثيرة في مجال الصراع لاسيما ما يتعلق منه بعمليات التسليح وأساليب الحرب الحديثة وأسلحة الدمار الشامل بكل تداعياتها السياسية والأمنية؛
بيد أن هذا لا يمنع من دراسة تاريخ الحركة الصليبية وعيوننا على الحركة الصليبية ولاسيما وأن المسرح الذي شهد كلاَ من الحركة الصليبية والحركة الصهيونية واحد، كما أن الشعب العربي هو الذي تصدى للعدوان الصليبي بالأمس وعليه أن يتصدى للعدوان الصليبي اليوم، ويجدر بنا في هذا المقام أن نشير إلى أن مثل هذه الدراسة لم تكن وقفًا على الباحثين اليهود وحدهم فقد اهتم كثيرون من الباحثين المسلمين والمسيحيين برصد عوامل الفشل التي قضت على الوجود الصليبي في المنطقة العربية قبل حوالي سبعمائة سنة.
هذه بشكل عام هي المسارات الأساسية الثلاثة للموقف اليهودي من الحروب الصليبية، فإذا انتقلنا إلى دراسة الموقف الإسرائيلي لوجدناه يتوازى مع الموقف اليهودي العام وإن خرجت منه مسارات فرعية تفرضها طبيعية الكيان الإسرائيلي ومن يعيشون في نطاقه مشكلة الأمن والحدود الطبيعية وما تستوجبه من بناء طرق سريعة وإقامة جيش قادر خفيف الحركة، ومحاولات تزييف الوعي بطبيعة الشعوب العربية المتصارعة مع إسرائيل والإسقاطات المعاصرة على تاريخ الحركة الصليبية ومحاولة النَّيل من أبطال التاريخ العربي ورموز الجهاد فيه، كلها روافد تتضافر مع المسارات الثلاثة الأساسية لتخلق ما يمكن أن نسميه بالقراءة الصهيونية للحروب الصليبية وهذا هو موضوع الفصل الثالث.
ويتبع >>>>: يوشع براور ومؤلفاته