حق العودة في مشاريع التسوية غير الرسمية (1)
كل هذه التطورات، والمفاهيم المغلوطة، هيأت المناخات لأن تخرج من الصف الفلسطيني شخصيات قيادية ومؤسسات، بالتعاون مع شخصيات ومؤسسات إسرائيلية، وبتشجيع سياسي ومادي من أوساط ومراكز دولية، لإطلاق مبادرات أو اتفاقات أو تفاهمات، يدعي أصحابها أنها تشكل أساساً لتسوية متوازنة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وهي المبادرات التي عرفت بمسميات:
1- وثيقة جنيف (بيلين ـ ياسر عبد ربه): والتي سميت "مسودة اتفاقية للوضع الدائم".
2- وثيقة أيلون ـ سري نسيبة.
3- وثيقة بيلين ـ أبو مازن: والتي أخذت اسم "مشروع معاهدة لقضايا الحل النهائي".
لن نتناول في هذه الدراسة كل جوانب القضية الفلسطينية التي تناولتها هذه الوثائق. وسنركز فقط على كيفية تعامل هذه الوثائق مع قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة. إن القاسم المشترك الذي تلتقي عليه هذه الوثائق الثلاث هو:
1-جميعها تبرئ إسرائيل، أو على الأقل لا تحملها أية مسؤولية سياسية أو أخلاقية عن الجريمة التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني حينما طردته بقوة الاحتلال من أرضه عام 1948.
وبالتالي حررت إسرائيل من إمكانية أي ضغط عليها أو أية مطالب منها، طالما هي لم تفعل شيئاً ضد الشعب الفلسطيني.
2-لا تعترف بحق العودة للاجئين إلى أراضيهم وممتلكاتهم التي طردوا منها، بل إنها لا تأتي على ذكر كلمة العودة، وتتحدث عن خيارات أخرى أمام اللاجئين تسميها مكان إقامة دائم.
3- حددت الخيارات المتاحة للاجئين لاختيار واحد منها لسكنهم الدائم:
أ- بالتوطين حيث هم، في البلدان العربية، أو في مناطق أخرى، دون الأخذ في الاعتبار إرادة اللاجئين ورغبتهم، أو سيادة الدول التي سيفرض عليها التوطين.
ب- الهجرة إلى بلدان أجنبية، وربط ذلك بموافقة هذه البلدان، على الأعداد التي تستطيع استيعابها، والشروط التي تضعها لقبول الهجرة إليها.
ج- اختيار مناطق السلطة أو الدولة الفلسطينية كأماكن سكن دائم لهم، دون الأخذ بالاعتبار قدرة هذه المناطق على الاستيعاب. ودون أن تستبعد تدخل إسرائيل لتحديد أعداد ونوعية هؤلاء الذين يسمح لهم بالعودة إلى مناطق السلطة بما لا يهدد أمن إسرائيل، وما لا يؤثر على الوضع الديموغرافي الذي تعلن إسرائيل تخوفها منه حين يصبح عدد الفلسطينيين في حدود فلسطين التاريخية (الضفة الغربية وقطاع غزة، والأراضي التي تقوم عليها دولة إسرائيل) أكثر من عدد اليهود. وهو أحد الأسباب التي تتذرع بها إسرائيل في رفض عودة اللاجئين.
د - تفردت وثيقة جنيف بإضافة خيارين آخرين أمام اللاجئين لتحديد مكان سكنهم الدائم:
1- في مدن خاصة تبنى لهم في الأراضي التي يمكن أن تضم من إسرائيل إلى أراضي السلطة (جنوب شرق قطاع غزة، وجنوب غرب الضفة الغربية) مقابل الأراضي التي ستضمها إسرائيل إليها من أراضي الضفة والتي تقوم عليها مدن استيطانية.
2- أشارت وثيقة جنيف إلى أن بإمكان اللاجئ أن يختار إسرائيل كمكان سكن دائم له، لكن ذلك لن يكون في أرضه وممتلكاته، أو أنه سيستعيد ملكيته لها. وسيكون عددهم محدوداً، ومرتبطاً بموافقة إسرائيل الأمنية والديموغرافية، وغير محدود بمدة زمنية (قد تستمر عشرات السنين) وبقدرتها على الاستيعاب التي تقررها هي وفق شروطها. (عملياً عدم السماح بالعودة).
4-اتفقت الوثائق الثلاث على تحديد اللاجئين الفلسطينيين وحصرهم باللاجئين الموجودين خارج حدود فلسطين التاريخية (إسرائيل، الضفة، القطاع) واستثنت اللاجئين الموجودين في الضفة وغزة الذين يبلغ عددهم تقريباً مليون وسبعمائة ألف لاجئ. ولم تعتبرهم لاجئين طالما هم يقيمون داخل حدود فلسطين، وطالما جرى تحريف مفهوم حق العودة في هذه الوثائق بحيث لم يعد يعني العودة إلى الأراضي التي يمتلكها اللاجئون، والتي هجروا منها عام 1948، كما تجاهلت هذه الوثائق أية إشارة لحقوق أكثر من ربع مليون عربي فلسطيني يقيمون في دولة إسرائيل ويحملون جنسيتها من العودة إلى قراهم وأراضيهم التي هجرتهم إسرائيل منها منذ عام 1948، وتمنعهم من العودة إليها واستعادة ملكيتهم لها.
5-نظرت الوثائق الثلاث إلى قضية اللاجئين نظرة اقتصادية وحلها على هذا الأساس. واعتمدت لذلك مبدأ التعويض لإعادة تأهيل وإسكان اللاجئين، وتجاهلت أن العودة إلى الوطن والأرض هي حق أساسي لكل إنسان أقرته الشرائع السماوية والقوانين والأنظمة الدولية. وتجاهلت أن حقوق اللاجئين في العودة هي حقوق سياسية ووطنية. وهي حقوق جماعية وفردية. ومن هذا المنطلق، فإن أي شخص أو هيئة مهما كانت صفتها التمثيلية، لا تملك التنازل عن حقوق لا تملكها ولم يفوضها أصحابها بذلك.
6-التعويضات التي تحدثت عنها الوثائق هي عبارة عن ثمن أراضي اللاجئين وممتلكاتهم (وفق تقديرات تحددها لجنة أو صندوق دولي) أي أنها ستفرض على اللاجئين بالقوة بيع أراضيهم أو التنازل عنها، وهو ما يرفضه اللاجئون رفضاً قطعياً، ويرفضون المساومة عليه. وتجاهلت هذه الوثائق حق اللاجئين في تعويضات عن الخسائر المادية والمعنوية التي لحقت بهم وبممتلكاتهم منذ هجروا منها عام 1948حتى اليوم، وعن استغلال دولة إسرائيل واستثمارها لهذه الأراضي والممتلكات على مدى أكثر من نصف قرن. وهذا النوع من التعويضات هو ما يطالب به اللاجئون إلى جانب عودتهم إلى أراضيهم.
7-وحتى التعويضات التي تحدثت عنها الوثائق، حمَّلت المجتمع الدولي، والدول المانحة مسؤولية جمعها من خلال صندوق دولي يُنشأ لهذا الغرض. وبذلك أعفت إسرائيل من مسؤولية دفع هذه التعويضات من الأموال التي نهبتها، وأشارت فقط إلى إمكانية إسهام إسرائيل في تغذية الصندوق الدولي للتعويضات ببعض الأموال.
8-مرة أخرى تفردت وثيقة جنيف باستخدام لغة التهديد والضغط على اللاجئين للقبول بصيغ الحلول التي طرحتها لقضيتهم:
أ- هددت الوثيقة كل لاجئ لا يقبل بأحد الخيارات الخمسة التي حددتها له لاختيار مكان سكنه الدائم من بينها، خلال مدة أقصاها خمس سنوات، بشطبه من سجلات اللاجئين وإنهاء وضعه كلاجئ، وبالتالي إسقاط كل حقوقه.
ب- نصت الوثيقة على إنهاء عمل وإلغاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الاونروا) خلال خمس سنوات من توقيع هذه الاتفاقية. وفي هذا ضغط واضح على اللاجئين للقبول بالحلول التي تطرحها الوثيقة، لأن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين تقوم بدور الرعاية الغذائية والصحية والتربوية والاجتماعية للاجئين وبخاصة في المخيمات. مع أن قرار حل الوكالة لا يملكه أحد غير الجهة التي أنشأتها، وهي الأمم المتحدة، وقرار الحل مرتبط بتحقيق الهدف الذي أنشأت من أجله، كما نص على ذلك قرار إنشائها، وهو تحقيق عودة اللاجئين تطبيقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 194.
9-اعتبرت الوثائق الثلاث أن الحلول التي طرحتها لمشكلة اللاجئين هي الحل النهائي والدائم لهذه المشكلة. ونصت على أنه لا يجوز بعد ذلك لأي لاجئ، أو لأي جهة تتحدث باسمه، المطالبة بأية حقوق سياسية أو مادية أو معنوية.
10-بالحلول التي طرحتها هذه الوثائق لقضية اللاجئين، والتفسيرات التي قدمتها، ألغت المفهوم القانوني والسياسي لقرار الأمم المتحدة رقم 194، الذي نص بوضوح ـ وفق ميثاق الأمم المتحدة، ووثيقة حقوق الإنسان، ووفق كل الشرائع ـ على عودة اللاجئين إلى أراضيهم وممتلكاتهم، وتعويضهم عن خسائرهم المادية والمعنوية. هذا القرار الذي تحرص الأمم المتحدة على تأكيده سنوياً، منذ اتخاذه أواخر عام 1948وحتى اليوم. والتي ظلت الولايات المتحدة أيضاً تصوت إلى جانبه حتى عام 1994ـ أي بعد اتفاق أوسلو ـ حيث أصبحت تمتنع عن التصويت. وبهذا التناقض مع مفهوم الأمم المتحدة، ومفهوم الشرعية الدولية، في حل قضية اللاجئين، فتحت هذه الوثائق الباب أمام إسرائيل لاستصدار قرار من الأمم المتحدة بإلغاء القرار رقم 194، كما فعلت بعد اتفاقات أوسلو حين نجحت ـ اعتماداً على اتفاق أوسلو ـ في دفع الأمم المتحدة لإلغاء قرارها الخاص باعتبار الحركة الصهيونية حركة عنصرية.
ويتبع >>>>> : حق العودة في مشاريع التسوية غير الرسمية (3)
اقرأ أيضاً:
قطعة البطاطا الساخنة/ الشاباك تستخدم التحرش الجنسي بالأسيرات الفلسطينيات/ دفاعاً عن حق اللاجئين الفلسطينيين/ الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين؟