هل يمكن تبرئة كاتب من الفكرة التي عبر عنها في مقال كتبه?، أو هل يمكن سلخ ثقافة كاتب ووجدانه عن تحليله للظواهر واستنتاجاته؟ بالتالي هل يمكن الفصل بين المبدع وما أبدع؟ لقد أجابت عن ذلك مقولة عربية تنطق بالتجربة، تقول: كل إناء ينضح بما فيه!! وهو ما ذهب إليه بالدليل والشاهد الباحث والصحفي والكاتب المصري أحمد فؤاد أنور في بحثه الذي حصل من خلاله على درجة الماجستير من جامعة عين شمس بتقدير امتياز، وجاء تحت عنوان: الاتجاهات الأيديولوجية في الصحافة الدينية الإسرائيلية.
إن عنوان البحث يعود بالقارئ إلى الجذور التي نبتت عليها أغصان الثقافة وظللت فكر اليهود، وشكلت مذاق الثمر الذي يوجه سلوك الأفراد منهم، ويرشد المفكرين والكتاب والمبدعين، والصحفيين، لاسيما أولئك المتدينين الذين تشربوا التعاليم التي تظهر اليهودي بشكل مغاير عن الآخرين، ويختلف عنهم، وفي مواقف وصور تكون فيها المفاضلة حاسمة، والخيار دائماً لصالح المنتمي للتعاليم اليهودية كما جاءت في أسفارهم التي تعلقت في سقف حلق كل من قلب صفحات كتبهم الرئيسية؛ (التناخ والتلمود).
خصص الباحث الفصل الثاني من الدراسة لمعالجة القضايا الخلافية بين المتدينين والعلمانيين اليهود، ومن هذه القضايا، نفي اليهودي المتدين للآخر اليهودي العلماني، والتحذير منه، والترهيب من الاختلاط به، بل ورفض كل قانون يضبط الحياة وفق رؤية العلمانيين، وهذا النفي للآخر يثير في القارئ الرغبة في المقارنة بين مستويات النفي في فكر اليهود!! فإذا كان اليهودي المتدين ينظر إلى اليهودي العلماني بهذا الازدراء، فكيف هي نظرته إلى غير اليهودي، سواء كان مسلماً أو مسيحياً أو حتى بوذياً؟ لم تبتعد صحافة اليهود المتدينين وهي تتناول ما سبق من قضايا عن خزان التفكير اليهودي الذي يصب الماء على فكرة اختلاف وتمايز اليهودي عن الآخرين، ومن ثم تفضيل اليهودي على غيره من البشر، فقد جاء في الفصل ذاته وصفاً للدور الذي لعبته الصحافة في فرض قيود دينية على الإجراءات الديمقراطية المتبعة في إسرائيل، والتي طالما تباهى بها الإسرائيليون في منطقة الشرق الأوسط الذي يشينون عليه خضوعه لحكم الفرد المطلق،
لقد جهدت صحافة المتدينين اليهود على التنظير لفكرة التنكر لأي أغلبية في الكنيست الإسرائيلي تعتمد على صوت النواب العرب، وفي ذلك التفريق بين صوت عضو كنيست يهودي وآخر عضو كنيست عربي يمكن ملامسة العنصرية اليهودية الدينية بالأصابع. في بداية البحث يتناول الكاتب بالتحليل جذور الصحافة الإسرائيلية بشكل عام، وكيف انتقلت إلى فلسطين مع موجات الهجرة الأولى من شرق أوروبا، ثم تعرض الباحث إلى إسهام الصحافة في الترويج لحركة التنوير، ومن ثم الترويج لنشر اللغة العبرية التي كانت غائبة عن التداول ألاف السنين، لتمثل الصحافة باللغة العبرية بوقاً إعلامياً، وتبشيرياً للسياسي الذي كان بدوره حامل رسالة وفكر الأيديولوجي الذي نضج بين أحضان التعاليم اليهودية. لقد مثلت الصحافة الدينية مرجاً خصباً لازدهار ونماء الأبعاد الروحية للأيديولوجي المتشدد، الذي يحرم على اليهود انتهاك حرمة يوم السبت؟ هذا ما أتى عليه الباحث في الفصل الثالث، وقد ركز على دور الصحافة وإسهامها في تجنيد طلبة المعاهد الدينية، والفتيات لهذه الغاية المقدسة وعل رأس الصحافة تلك كانت صحيفة (هتسوفيه).
أشرف على البحث الأستاذ الدكتور رشاد عبد الله الشامي، أستاذ الأدب العبري في جامعة عين شمس، وصاحب التجربة العميقة في الثقافة الدينية اليهودية، وصاحب عشرات الكتب والمؤلفات في الشأن اليهودي في إسرائيل، وهو بالتأكيد ما أرشد البحث إلى التطرق في الفصل الثالث إلى رؤية اليهود المتدينين للسلام مع مصر، لاسيما أن الفترة الزمنية التي تناولها البحث جاءت لاحقة لاتفاقيات (كامب ديفيد) بأكثر من عشر سنوات، فكيف يرى اليهودي المتدين بلاد مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد؟ ومن هم المصريون؟ ما زالت تظهر مصر في الصحافة اليهودية كدولة غريبة، يطلق عليها لفظة عبرية (غوييم) ومعناها بالعربية الأغيار، ولهذه التسمية دلالة بعيدة الأثر في الفكر اليهودي، فمصر لدى اليهود دولة تعمل على إضعاف إسرائيل، لأن مصر كما يحسبون تروج لكراهية إسرائيل، ومصر ترفض التطبيع مع إسرائيل، ومصر تعيق مشروع الشرق الأوسط الكبير،
عن ذلك يضيف الباحث "من الركائز التي روجت لها الصحافة الدينية بشكل عام، و(الحريدية) بشكل خاص رفض الأغيار، وهو ما يشكل عقبة حقيقية على طريق السعي للتوصل للسلام، إن رفض الثقة في الآخر لا ينبع من كونه يتحرك سياسيا بشكل مثير للقلق، بل لمجرد أنه آخر، لا يجب التطلع لسلام معه يؤدي لذوبان التقاليد اليهودية والشعب اليهودي، وتجدر الإشارة إلى أن التحذير من الذوبان في الأغيار يتعاظم، ويكون أكثر منطقية تجاه الدول التي لها حدود مشتركة مع إسرائيل، وحيث أن كل هذه - الدول عربية، والحدود الوحيدة المفتوحة - لكونها أبرمت معها اتفاقية سلام أمام الزيارات المتبادلة وحركة التجارة، والنشاط الثقافي المباشر، هي الحدود مع مصر، فإن الحديث عن رفض الاندماج مع الأغيار ينطبق على مصر، بشكل خاص" لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل توغلت الصحافة الدينية في الرجوع إلى الماضي، وهي ترى مصر عدواً تاريخياً لليهود، وعملت في الماضي على استعبادهم، وإذلالهم، وطردهم من مصر،
وفي هذا المقام يفاجأ المتتبع للتاريخ اليهودي في مصر حجم الكراهية والأحقاد التي يخزنها اليهود للمصريين، وما يبنى على ذلك من سلوك. يأتي دور السلام مع الفلسطينيين في الباب الثالث من البحث، فقد ظهر الفلسطينيون لدى اليهود بعدة أوصاف؛ أقلها صفة الغدر، فالفلسطيني لا يحترم اتفاقيات السلام، وكل يهودي يفاوض الفلسطينيين خائن لتعاليم الدين اليهودي، ولدولة إسرائيل، لأن الفلسطيني لص سارق، ولا هدف له سوى تدمير دولة إسرائيل والقضاء عليها، ولما كانت هذه هي أوصاف الفلسطينيين؛ فإن قتلهم وتصفيتهم عملاً دينياً ووطنياً، ولا حرمة في ذلك تقع على اليهود، ولا بريء بين الفلسطينيين.
تناول الباحث موقف صحافة اليهود المتدينين من القدس، المواقف التي باتت معروفة لكل متتبع للأحداث السياسية، فالقدس عاصمة أزلية لدولة إسرائيل، وهذا ما قد يجمع عليه كل اليهود وفق آخر استطلاع للرأي أجرته صحيفة هآرتس في 8/3/2005، ولكن الملفت في البحث ما يراه المتدينون من واجب بناء جبل الهيكل كما يسمونه، ونزع سيادة المسلمين الدينية عن بيت المقدس، وهنا لا يتفهم اليهودي وجود القدس دون جبل الهيكل، ودون تواجد اليهود وسيطرتهم، وعليه يجب تهويد كل شيء في القدس، وشأن هذه المدينة خاص جداً لليهود، ولا يجب أن يتدخل أحد على وجه الأرض في نظام حياة القدس، وطبيعتها الخالدة لليهود، وهي خارج إطار التفاوض. إن موضوع البحث شيق، ومفيد، ولكنه يطرح سؤالاً يتبادر إلى ذهن القارئ، وله علاقة بالموضوعية، وسلامة مسار البحث من حيث الاستناد إلى المراجع، إذ كيف حصل الباحث المقيم في مصر على الصحافة العبرية المعينة على البحث، ولاسيما صحافة المتدينين، ومن أين له بمصادر البحث؟
عن ذلك يقول الباحث في مقدمة البحث "وقد صادف الباحث بعض العقبات والصعوبات في الحصول على الأعداد اللازمة من الصحف الدينية لأسباب لا تخفى على كل من يعمل في مجال الصحافة العبرية في مصر، أما بالنسبة لمواقع شبكة الانترنت الخاصة بالصحف الدينية، فلا يوجد سوى موقع صحيفة (هتسوفيه) الناطقة بلسان حال حزب (المفدال) -وهو موقع حديث نسبيا- ، أما صحيفة (حبد الحسيدية) فلها موقع على شبكة الانترنت، لكنه مغلق بمعنى أنه يتوجب على كل من يريد تصفح الجريدة أن يرسل بياناته أولا لإدارة الصحيفة ثم تبلغه الإدارة عبر رقم هاتفه موقفها من طلبه! تجاهل القوى الدينية في إسرائيل للانترنت مقصود، فهي تعتبر هذه الشبكة مصدر إفساد وكفر مبين، وهو ما عبرت عنه أكثر من صحيفة دينية في تقارير لها، وتكرر كذلك عبر رسوم كاريكاتيرية تصور الطفل المتدين الذي يجلس على جهاز الكمبيوتر وقد تحول بالتدريج لمظاهر العلمانية، ثم أصبح في النهاية وحشا مفترسا" ومع ذلك فقد نجح الباحث في الوصول إلى ما أعانه على استكمل بحثه الذي اعتمد فيه على المنهج الوصفي التحليلي كما قال:
"حيث ساعد المنهج الوصفي، في رصد المعلومات عن تاريخ وتطور الصهيونية وعن القوى الدينية في إسرائيل، وكذلك عن أهم الصحف الدينية، الصادرة باللغة العبرية في إسرائيل -بحكم كونها الأكثر انتشارا وتأثيرا وساعد المنهج الوصفي أيضاً في سرد المعلومات الخاص بخلفيات كل قضية من القضايا التي تناولها البحث، بينما ساعد المنهج التحليلي في رصد موقف الصحافة الدينية في إسرائيل من قضايا الشريعة والقضايا المتعلقة بالأيديولوجية السياسية. كما ساعد في عملية التحليل النقدي، واستخلاص النتائج، هذا وقد لجأت إلى اختيار صحف معينة تتميز بطابع خاص في معالجتها الإعلامية بطريقة متعمدة، خشية ألا تمثل تمثيلا صحيحا في العينة العشوائية، كما اخترت أعدادا معينة صدرت في أيام معينة اختيارا متعمداً لأن هذه الأعداد تناولت القضايا موضوع الدراسة تناولا متعمقا مكثفا مقارنة ببقية الفترة الزمنية".
في النهاية لابد من التأكيد على أهمية هذا البحث من زاويتين: الأولى: يضع هذا البحث القارئ العربي أمام الحقيقة التي يسعى السياسي على القفز من فوقها، ولكن حقيقة من هو اليهودي تصر بعنادها التاريخي على أن تطل برأسها، لتقول: اليهودي شيء أخر، يختلف عن الشرق الأوسط، رغم اتفاقيات السلام الموقعة!! الثانية: أن مصر قلب الأمة النابض، تسبق الجميع، وتفتح جامعاتها للبحث العلمي الهادف، لاسيما في هذا المجال الهام، والحساس المتعلق بجذور الصراع المتواصل بين العرب وإسرائيل، وستظل مصر برجالها تنبش على الجذور، وتفتش عن الأسباب، حتى تنجح في استئصال الورم الخبيث، ومعالجة التربة من أدرانها. أخيراً، فقد ضمت لجنة مناقشة البحث كلاً من الأستاذ د. رشاد عبد الله الشامي، الأستاذ المتفرغ بقسم اللغة العبرية، والأستاذ د. منى ناظم الدبوسي، الأستاذ بقسم اللغة العبرية، ود.عبد العليم محمد عبد العليم، مساعد مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في صحيفة الأهرام
اقرأ أيضاً :
الحركة الصهيونية كمشروع غربي/ الصهيونية والحرب النفسية/ من هم الصهاينة