العراق بين مواكب الموت وصمت القبور(2)
العِراق بين تصفية الحسابات التأريخيّة وصمت القبور
بداية، أتوجه بتحية شكر للصديق الأستاذ الدكتور "وائل أبو هِندي"، لإقامته منبر "مجانين" المشعّ ببريق تعدديّته ورونق الأقلام الخاطّة على جدرانه الأنيقة. وكذلك أشكر الأستاذ "يوسُف فَضلْ" على نقلة لمقال الكاتب الأمريكي "توماس فريدمان"، والذي أحب أن أخالفه الرأي من وجهة استقراءه لمقال الأخير "العراق بين مواكب الموت وصمت القبور(1)"، والذي لا أرى فيه أي فكر تآمري على الإسلام والعروبة، حسب تعبير الأستاذ يوسف فضل، بقدر رؤيتي لموقف مثقّف أمريكي محايد ينتقد ظاهرة حضارية بشعة وفقا لتفهمي لظروف الكاتب -بحكم معاشرتي للشعب الأمريكي- الفكريّة والإعلاميّة والاستقرائية.
قبل استقراء موقف السيّد "فريدمان"، أرغب بأن أسلط الضوء على واقع شرق~أوسطي لا يُحسد عليه، ذلك أن الأحداث الدامية في العراق لا تحرّك أي ضمير عربي رسمي أو جماهيري، وإلى هذه اللحظة لم تشهد أي مدينة عربية (أو ضاحية حتى) تظاهرة رفض للقتل المنظم بحق الشعب العراقي. والتبريرات بهذا المضمار تختلط مابين الاستقراءات (وبالتالي التبريرات) السطحيّة والتواطؤ الطائفي، الذي أمسى سمة فكريّة لشعوب الشرق الأوسط بشكلٍ عام. وكجانب من التبريرات السطحية هي الزعم بضعف السلطات الأمنيّة العراقية أو بتكاسلها بأداء واجباتها. وحقيقة، فالعراق ليس أرضا بلا سلطة كما يروق للإعلام العربي تصويره، متحججين بذلك بالأعمال والجرائم الإرهابيّة ضد الشعب والشرطة والأجانب، في وقت لا يراجع هؤلاء الإعلاميون أسس استنتاجهم المنطقي وتحليلاتهم الأمنيّة، لأنهم -وفق ذات المعايير التحليليّة- سيتوصلون بأنه ما من سلطة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية، أسبانيا، المملكة المتحدة، مصر، الأردن، أستراليا وإندونيسيا، وكلها بلدان تعرضت لهجمات إرهابيّة في السنوات الخمس الماضية، ومازال بعضها يتعرض ليومنا هذا.
أما التبريرات الناتجة عن التواطؤ الطائفي فهي الأكثر حتما، إذ يُغضّ الطرف عن العمليات الوحشية التي تستهدف العزّل -لكونهم شيعة- والتي لم تتوقف على التفجيرات، بل تعدتها لقتل عوائل بكاملها في أثناء تنقلاتها عبر البلاد، وكان آخر خبر بمضمار قتل العوائل هو قتل عائلة كاملة من أم و أب وأطفال أصغرهم يبلغ من العمر اثنين وعشرين يوما، إذ لم يرحم الإسلام السلفي هذا الطفل الذي لم يكمل الأسبوع الرابع من عمره، بل فضل الجهاد بدمه وتهشيم جمجمته الصغيرة برصاصة لم تجد أي حنجرة عربيّة تدينها أسوة بالجنون والغضب الذي تلى مقتل الطفل الفلسطيني "محمد الدرة" على أيدي الجنود الإسرائيليين.
كأن الشعب العراقي يدفع ثمن خلافه الطائفي وثمن أكاذيب سلفيّة من "شتم الصحابة" و"نكاح المحارم" وما إليها من هرطقات أو قضايا خلافيّة سطحية لا تستحق هذا القتل والتنظيم الإجرامي في إطار أبشع عملية تصفية منظمة منذ الهولوكوست النازي، إذ لم يسبق لأي شعب أن يُعلن عليه الموت بهذا الشكل البشع بما في ذلك الشعب الفلسطيني حتى، إذ أن السلطات الصهيونيّة تحاول ترحيله أو مضايقته، إنما لا تستحل دماء الجميع بهذا الشكل الهمجي البعيد عن أي اعتبارات أخلاقيّة أو أي بصيص من المدنيّة والتحضر.
والمثير للدهشة والغضب أيضا، أن الإعلام العربي لا يكتفي بالصمت والتواطؤ على المجازر المنظمّة بحق شعب يعد الأعرق من كثير من الشعوب العربيّة التي تأسست بالأمس القريب، بل خرَق إعلام مشيخات النفط والجمهوريات الوراثيّة أبسط شروط النزاهة الصحفيّة والإعلاميّة، إذ أعاد صياغة جرائم كاملة بحق الشعب العراقي لاستعمالها ضد الحكومة العراقيّة الحاليّة. ومازالت الذاكرة رطبة بدماء الأبرياء التي نزفت في مدينة تلعفر، التي هجم على بيوتها البسيطة إرهابيون عرب وآسيويون (أفغانستان وباكستان والهند حتى!) مع دعم من مرتزقة البعث، وقاموا بتهجير وقتل (ذبحا) عدد كبير من سكان مدينة تلعفر، وذلك لانتمائهم للمذهب الشيعي الإمامي لا غير، بينما أمروا العوائل الشيعيّة بالرحيل عن المدينة وفُجّرت بيوتهم إثر رحيلهم، وقد نقل الإعلام الدولي مشاهدا لبيوتٍ مهدمة جزئيا وتحوي على رموز دينية شيعيّة، كالمعلقات الدينيّة وأسماء الأئمة المعصومين عند الشيعة وصور بعض المراجع الشيعة. وإثر هذه الدموية البشعة، قامت القوات العراقيّة بمساندة القوات المتعددة الجنسيات (جوا) بعملية "الستار الفولاذي" التي طهّرت المدينة من فلول الإرهابيين الجبناء، الذين لم يجدوا سوى الاستسلام أمام قوة الجيش العراقي الكاسحة.
حسنا، هذا ما حدث، لكن الإعلام العربي الطائفي شوّه الحقائق، وصوّر التغطية الجوية الأمريكيّة كقصف عشوائي للمدنين، وصوّر الجيش العراقي كآلات حرب مدمرة أتت لتقتص من المدنيين (كأنهم جيش صدامي مثلا) لا لكي تخلصهم من أيادي بدائية متسخة بالهمجيّة. وتكملة للكذب الإعلامي الوقح، يؤتى بمحللين بعثيين ومسؤولين سابقين في زمن الحكومة الصداميّة المجرمة، كي يناقشوا ويتظلموا للشعوب العربية، التي لا تدعم الإرهاب بصمتها فقط بل بمالها أيضا، إذ أشارت الاستطلاعات الأخيرة لوكالة المخابرات الوطنيّة العراقية ووكالة المخابرات المركزيّة الأمريكية وكذلك الفرنسية والبريطانيّة، عن دعم مالي كبير من قبل أثرياء المجتمعات العربية، متركزا هذا الدعم في منطقة الخليج العربي الذي يمتاز غالبيّة ساكنيها بتوجهات طائفية متطرفة وانطماس فكري بسبب الطبيعة الثقافية غير المتلائمة مع التطور الاقتصادي الراهن والناتج عن الطفرة النفطية المفاجئة، إضافة لانتشار المذهب السلفي الذي يعد أهم الإنتاجات الشرق أوسطية لتجميد الفكر الحر، إن لم نقل تحريمه ومنعه تماما.
ولجانب التواطؤ الطائفي، المبرِر للإرهاب، هناك الشوفينيّة العرقيّة القوميّة لدى الشعوب العربيّة، المختلفة عن ماهية القوميّة العربية، التي تأثرت بالإعلام السلفي عن كون الشعب العراقي (ذا الغالبية العربية) من القوميّة الفارسيّة -التي لا نعرف سبب كره العرب للقوميّة الأخيرة عدى المسوّغ الطائفي حقا- في الوقت الذي تنتهي أسماء كل العراقيين العرب (من سنة وشيعة) بأسماء قبائل عربية كبيرة مثل "الطائي" و"التميمي" و"الربيعي" و"الشيباني" و"الكناني" و"الحارثي"، بينما تنتهي أسماء الكثيرين من أولئك الإعلاميين بـ "غلام" و"العجيلات" و"الخلايلة" و"المصاليخ" و"الطحش" و"المونّس" وما إليها من نعوت "أعرابيّة" يُشك بأنها عربيّة أصلا.
وعلى أية حال، فالشعوب العربية غالبا ما تبتهج لمقتل الأبرياء العراقيين الشيعة بدعوى أنهم خونة مناصرين للاحتلال وكفرة بمجمل الحال (علما أن دماء الكافر محقونة بالإسلام)، وتتفجع للعراقيين السُنة الذين يستعملون كأصنام من قبل التنظيم البعثي لكسب تعاطف شعوب يعرفون بوجه الدقة كم هي طائفيّة وسطحيّة. ورغم أن الحكومة العراقية المنتخبة لم توفر مجهودا باسترضاء تلك الأصوات الطائفيّة~البعثية، إلا أن عين الرقيب العربي لا تكترث لهذي الجهود ولا تفكر بها أصلا أو تنصفها بأنملة من تقدير.
وعندما يعلن الإعلاميون العرب مناصرتهم للمقاومة العراقية المسلحة، إن كان شيء من هذا حقا، فإنهم يفعلون ذلك لغايات نفسيّة مريضة ومتأثرة بماضي حضاري من رفض الآخر، دون أي تقييم عقلي أو انتقاد لمقاومة تقتل 2000+ جندي أمريكي خلال سنوات ثلاث و29000+ مواطن عراقي بريء في الحقبة الزمنيّة ذاتها! إن هذا الموقف اللا إنساني هو ظاهرة تعكس الموروث الحضاري لهذه الشعوب وكرهها للحرية والديمقراطية، وكذلك آليتها الهوجاء بالتعامل مع الوقائع الإقليمية وصراعاتها ضد القوى الاستعمارية، والتي لا تفهم أي لغة سوى لغة القمع ولا ترغب بالتحاور مع الآخر سوى لغة الحرب، وكمثال فالعرب خسروا كل حروبهم مع الدولة العبريّة، نتيجة للفكر الأهوج وسياسة المبادرة بالقتال وإن كانت الظروف غير مؤاتية.
وبتكرار مشين للتأريخ، هاهي الأنظمة العربية تتجرأ وتتدخل -سلبا- في الشأن العراقي ويطالبوننا بخوض حروب دموية تالية مع جيوش يمكن أن ترحل بالتسويات الاقتصادية والسياسيّة، متناسين مكوث هذه القوات الغازية بأرض مشيخات النفط ونشرها لثقافة العولمة الأمريكية بين شعوبها، ومتناسين أن أول صيحات المقاومة العراقية السلمية هي بالوقوف بقوة أمام المشروع الأمريكي الثقافي في الشرق والعراق خصوصا.
إن المواقف العربيّة لم تؤدي لتفاقم الإرهاب كحالة مرضيّة فحسب، بل وأدت لتصديره إلى تلك البلدان والشعوب ذاتها، والتفجيرات الثلاث الأخيرة في عمّان لخير دليل على ما هو آتٍ. كما وإن الموقف العربي الطائفي المتواطئ والمتجاهل للكارثة الإنسانيّة العراقية، أدى (وإن على نحوٍ تدريجي) لبزوغ فكر انفصالي أممي عراقي، في مرحلة شديدة الأهمية إذ يقف العراق كشعب يختار بين بقائه كجزء من أمّة متواطئة ضده أو بين شق طريقه التأريخي كأمّة ذات طابع خاص أسوة بفرنسا ودول أخرى. ومما يبدو للراصد، فإن المثّقف العراقي يزحف نحو الأممية العراقية إذ أمسى الفكر العربي القومي (ذا المفاهيم البعثيّة) مستنقعا يفضّل كل الأكاديميين العراقيين ردمه إلى الأبد، بُعيد أن انتهى الفكر القومي عالميا، وبدأ عهد العولمة والدول القائمة على العقليّة المشتركة (وهو ما نادى به الإسلام أصلا) والتآخي العالمي في مجتمع دولي يحترم الإنسان والمبادئ العُليا.
وأمام كلّ هذا، يقف المثقف الأمريكي بواقعيّة أشد تماسكا، فهو يعرف أن الخيارات العربية لم تكن سهلة دوما، و لكنه يعرف أيضا أن القرارات و المبادرات العربية مليئة بالتخبط التأريخي والاستراتيجي، بدأً بحرب 1948 ومروراً بحرب 1967 وانتهاءً بغزو صدام حُسين للكويت وما أتى منها من بلاء على المنطقة. ويفهم المثقف الأمريكي المحايد أن إزالة صدام كان لأهداف أمريكيّة بحتة، رغم الفائدة الكبرى للشعب العراقي، ولكنه يعلم إن أي انسحاب أمريكي مفاجئ سيؤدي للكثير من المشاكل، خصوصا وأن الدولة العراقية الحديثة في بداية تأسيسها ومازال دستورها -العامود الفقري لأي دولة- حبرا على ورق، ولم تحن بعد الفرص لتنفيذ سطوره على أرض الواقع، أو المباشرة بالخطط الاقتصادية الجبّارة التي يُزمع بالبدء بها فور تسلم السلطة الدائمة الأولى زمام الأمور في بَغداد. والمثقف الأمريكي يعلم كذلك، كما المثقف العراقي، أن الطاقات الأمريكيّة على وشك النفاد، فهي تتكلف مليوني دولار يوميا لتكاليف جيشها، والشعب الأمريكي لن يصبر إلى الأبد على هذا الوضع.
إن نقد أي مثقف أمريكي للصمت العربي هو عمل يستحق الشكر العراقي الجزيل عليه، في وقت يعتبر العرب نقدا كهذا مؤامرة أخرى لتدمير عروبتهم وإسلامهم، دون أن يدركوا بأنهم لا يملكون من العروبة سوى الشوفينيّة ولا من الإسلام سوى التطرف والتحريف والعيش في مجتمعات تنضح مرضا ومآسي.
إن السيّد "فريدمان"، وإن كان -فرضا- قد قصد سوءً بمقاله، فإنه قد سلّط الضوء على مأساة يوميّة نعيشها، إذ تتمثل في تفجع الشبكات الإعلامية العربية لانفجارات الأردن، بينما -بالمقابل- لا تقوم إلا بالتقليل والسخرية من دماء العراقيين ومشاعرهم. ويبقى الأخيرين متحلقين خلف التلفاز، تسمّرهم الدهشة ولا بواكي لهم. لكنما يبقى الأمل في العقل العراقي المعطاء والروح الشجاعة، التي طالما أثبتت أنها غاية المُرتجى عند الشدائد والمصائب العظام.
November 10, 2005
**ويضيف الدكتور وائل، أخي الصغير الحبيب أحمد أعجبني مقالك، وأهمس في أذنك بعد قراءتي السريعة له، أعجبني يا أحمد وإن خالفتك الرأي في بعض ما ورد فيه، وخلافنا لا يفسد للود قضية، لكن ورد فيه أيضًا ما سيخالفك فيه كثيرون من المجانين على مجانين:
وذلك إذ تقارن بين ما يحدث لإخواننا في العراق -وهو لا يرضي أحدا- وبين ما يحدث لإخواننا في فلسطين، لتبدو وكأنما تدافع عن تحضر وتمدن وأخلاقيات الصهاينة حتى تقول واصفا أفعالهم: (إنما لا تستحل دماء الجميع بهذا الشكل الهمجي البعيد عن أي اعتبارات أخلاقيّة أو أي بصيص من المدنيّة والتحضر.) فأي أخلاقيات تلك أنا لم أسمع بها ولا أظنني سأسمع، فهل سمع أحدٌ من المجانين؟
يؤلمني مثلما يؤلمك أن تشتعل نار الطائفية بين المسلمين ولو حتى على مستوى التفكير تؤلمنا فما بالك باشتعالها على مستوى الدماء والأرواح، لكن يؤلمني أن تقارن فعل أيٍّ من المسلمين بفعل الصهاينة -حتى ولو كانوا ممن تمقتهم وهم أخوة لك مسلمون مهما انحرفت أفكارهم وأفعالهم، وتحسبهم على السلفية،- حتى ولو كانوا كذلك لا أستطيع أن أقبل تلك المقارنة؟
ثم تذكر بأن الفرق كبير بين بلدٍ يحكمه القانون، وبلدٍ يبدو "سداح مداح" من الناحية الأمنية، واعلم أن الصهاينة أسوأ فعلا من الأمريكان في أبو غريب.... لو أتيح لهم أن يفعلوا دون رقابة من المنظمات والهيئات الدولية، وأسوأ من الأمريكان في الفالوجة لو أتيح لهم نفس الوضع السداح مداح، ثم ذكرني بالمدنية أو التحضر أو الأخلاقية في جنين أو أي نقطة من تراب غزة حين يقتحمها جيش الدفاع الصهيوني؟ ...... راجع نفسك وراجعني، بارك الله فيك .
اقرأ أيضاً:
ضد الاحتلال/ حنين وطن، وأحزان/ المسلمون و تفجيرات لندن/ مذكرات رجل ما (1)/ حول مفهوم العلمنة وخطاب مجانين