القراءة الصهيونية للتاريخ "الحروب الصليبية نموذجًا"..(3)
٠ لقد كان الاستعمار الاستيطاني هو أبرز أهداف الحركة الصليبية وحين تحقق هذا الهدف فرضت آثاره السلبية نتائجها على المنطقة العربية وكانت أول إمارة صليبية شادها الغرب الكاثوليكي فوق الأرض العربية هي إمارة الرها التي استولى عليها بلدوين ليقيم بذلك شعار بيت أمراء اللورين بين نهري دجلة والفرات وفي سنة 1089 م تمكن الصليبيون من الاستيلاء على إنطاكية بفضل خيانة الأرمن وفي إنطاكية بدأ الإفلاس الأيديولوجي للحركة الصليبية يكشف عن نفسه في وضوح، فحين توقف القتال تجسد هذا الإفلاس في بؤرة شريرة من الدسائس والصراعات والمؤامرات التي امتدت خيوطها بين زعماء الصليبيين وفي خضم الصراع تفرق الجيش الصليبي وأخذ فرسانه يغيرون على المناطق الريفية المجاورة بهدف انتزاع أملاك خاصة لكل منهم، وإذا كانت المقاومة المحلية ضعفت فقد خضعت القرى الريفية القريبة للصليبيين الذين استطابوا العيش في هذه المنطقة ونسو هدفهم المعلن بتحرير بيت المقدس ولكن ثورة الفقراء الذين كانوا ما يزالون يحلمون بتحقيق الحلم الذي حرك مسيرتهم الطويلة أجبرت القادة على أن يتحركوا صوب بيت المقدس.
وبعد عدة أحداث تمكن الصليبيون من الاستيلاء على بيت المقدس في نهاية الأمر، وقد أعقبت انتصار الصلبين مذبحة شنيعة راح ضحيتها المدافعون عن المدينة من أفراد الحامية المصرية الذين سلموا بشرط ضمان حياتهم فضلاً عن سكانها من غير المحاربين وبعد المذبحة الرهيبة توجه جودفري البويوني يتبعه الصليبيون في أعداد متزايدة بعد أن رووا ظمأهم من دماء ضحاياهم من النساء والأطفال وغير المتحاربين إلى الضريح المقدس، وفي هذا الجو الموحش الذي يلفه الصمت الرهيب وتفوح فيه الروائح الكريهة الصادرة عن المنازل المحترقة والأجساد المتناثرة كانت دموع الفرح تسيل على وجوه الصليبين التي أرهقها القتل وترددت في جنبات كنيسة القيامة عبارة نحمدك يا لله وكما كانت عبارة "الرب يريدها" التي أطلقها الحاضرون في مجمع كليرمون وهي صيحة القتال الصليبية التي بدأت بها الحركة، وكانت عبارة "نحمدك يا رب" التي أطلقها الصليبيون في الكنيسة المقدسة إعلانًا ببداية الوجود الصليبي على الأرض العربية .
ونتيجة للنصر الذي أحرزته الحملة الصليبية الأولى وقامت فوق الأرض العربية عاصمة مسيحية لمملكة لاتينية كما قامت عدة مستوطنات صليبية في الرها وأعالي النهرين وإنطاكية وسوريا وفلسطين فضلاً عن بعض مناطق الشاطئ اللبناني، وكان من الضروري بالنسبة للفرنج أن يتم ربط هذه المراكز الاستيطانية المتناثرة حتى يمكن بناء كيان محكم البنيان يتميز بوحدة أراضيه، وفي بطء عنيد تحولت سيطرة الصليبين على بعض المدن والمراكز المتباعدة إلى سيادة ثابتة على أقاليم متصلة أخذت في التوسع على مدى جيلين كاملين لم يصادفوا أثناءها مقاومة جدية أو محاولة عربية للتصدي لهم بسبب تخاذل الحكام العرب والتمزق السياسي الذي كان ينشب مخالبه في المنطقة العربية حين قدمت الجيوش الصليبية تعبيرًا حقيقيًا عن موازين القوى فقد كانت الجيوش العربية وموارد المنطقة الاقتصادية والبشرية تكفل هزيمة ساحقة للصليبين إذا ما جمعتها جبهة موحدة وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك ولكن التشرذم العربي بل ومساندة بعض المسلمين للجيوش الصليبية وميراث الحقد والشك والضغائن بين حكام المنطقة جعل انتصار جيوش الصليبين أمرًا منطقيًا.
وآثر عدد كبير من الصليبين أن يبقوا في الشرق حيث كان عليهم تحمل مهام الإدارة الاستعمارية الاستيطانية ولأنهم كانوا أقل كثيرًا في عددهم من السكان الأصليين فقد حاولوا قدر الطاقة أن يشجعوا الهجرة من أوروبا إلى فلسطين لتدعيم وجودهم وكان التجار والجنود والحجاج والمغامرون والمهاجرون يفدون من أوربا في جماعات كبيرة أو صغيرة إلى المناطق الصليبية التي اعتبرها الفرنج وطنًا ثانيًا أو فرنسا ما وراء البحار وفي بداية الأمر حاول بارونات الصلبين وفرسانهم أن يحافظوا على ما نجحوا في الاستيلاء عليه دون الاستعانة بالغرب الأوربي ولكن جسدًا غربيًا لا يمكن أن يعيش في منطقة معادية دون أن يجد لنفسه السند من خارج المنطقة وكان النموذج الصليبي أشد تجسيدًا لهذه الحقيقة في الماضي كما أن الكيان الصهيوني يجسدها حاليًا وهكذا كان على أوروبا أن تقوم بدور الظهير الذي يرعى الكيان الصليبي ويحميه باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الغرب يعيش تحت سماء الشرق، وعلى ما يقرب من قرنين من الزمان كان الغرب يبعث برجاله ونسائه أو أطفاله أحيانًا لتدعيم الكيان الصليبي، ولكن التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على الغرب الأوروبي خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين جعلت حجم التأييد الأوربي الفعلي للكيان الصليبي يتقلص شيئًا فشيئًا كما أن إساءة البابوية للفكرة الصليبية حتى استخدمتها لضرب خصومها السياسيين في أوربا ومن بينهم ملوك مسيحيون مخلصون للكنيسة جعل الناس لا يحفلون كثيرًا بمصير الكيان الصليبي.
* حقيقة أن الفكرة الصليبية لم تختف ولكن وسائل تحقيقها في نظر الأوربيين في أخريات العصور الوسطى كانت تختلف عن رؤية أسلافهم الذين دعموا الحملة الأولى وخرجوا في صفوفها، لقد اختلفت مصالح ومفاهيم الظهير الأوربي مع مصالح ومفاهيم الكيان الصليبي في الشرق بالقدر الذي سار بالصليبين في طريق النهاية المحتوم على أيدي المسلمين في المنطقة العربية.
ولاشك في أن المسلمين لم يكونوا يدعون الصليبيين يهنئون بالمدينة المقدسة التي كانت بمثابة درة التاج وواسطة العقد لدى المسلمين والمسيحيين على السواء كما أنهم لم يكونوا ليغضون الطرف عن وجود الكيان الصليبي فوق الأرض العربية، وعلى الرغم من تخاذل الحكام العرب في الاتحاد لمواجهة الخطر الصليبي منذ البداية فإن المصادر التاريخية عربية ولاتينية وبيزنطية وأرمنية تحدثت عن أن الحرب لم تتوقف ضد الصليبيين منذ وطأت أقدامهم الأرض العربية ولكن الحكام كانوا على حال من التنازع والأنانية وقصر النظر في المرحلة الأولى من الصراع بحيث توصل الكيان الصليبي إلى أقصى اتساع له خلال جيلين وقد شهدت السنوات الخمسون التي أعقبت قيام مملكة بيت المقدس اللاتينية حركة توسع صليبية في كل اتجاه كما شهدت عجز الدول والإمارات الإسلامية المطلق عن التعاون في خلق جبهة موحدة ضد الصليبين وبين الحين والحين كانت القوى الإسلامية تعقد بعض الاتفاقات فيما بينها بقصد العمل المشترك بيد أن التحالفات السريعة كانت لا تلبث أن تنفصم عراها بنفس السرعة التي تمت بها نتيجة لميراث الشك المتبادل بين الحكام في المنطقة العربية والحرص على المصالح الذاتية بالقدر الذي جعل البعض يتحالف مع العدو الصليبي.
وعلى الرغم من الفشل السياسي في توحيد الجهود العربية إزاء الخطر الصليبي الذي كان يؤدي بدوره إلى مزيد من الإخفاقات العسكرية، فإن الرأي العام الإسلامي بدأ يضغط بكل قواه على الحكام، لقد كان الحكام شيئًا فشيئًا تختلف تمام الاختلاف عن الناس، ولأن الحكام اهتموا بكراسيهم ومصالحهم الذاتية فقد كان تخاذلهم سريعًا، أما الناس أصحاب المصلحة الحقيقة فقد اختاروا الطريق الصعب والمضمون وهو طريق المقاومة الذي أدى في النهاية إلى إفراز قيادات من نوع جديد يضعون أنفسهم في خدمة أهداف الأمة مثل عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي.
وحين فشل محور القاهرة دمشق في التصدي للعدوان الصليبي نتيجة لأحوال الدولة الفاطمية المتدهورة وأحوال حكام دمشق الذين قنعوا بالتعايش مع الفرنج بدأ يظهر في الأفق دليل على أن شيئًا ما قد أخذ يتغير في المعسكر الإسلامي وجاء هذا التغيير من بين جماهير المسلمين الذين أدركوا مدى فداحة الخطر الصليبي من جهة وفشل القيادات الحاكمة من جهة أخرى، فقد أثارت أعداد اللاجئين التي تدفقت من بلاد الشام إلى سائر بلاد المنطقة العربية مشاعر الغضب والاستياء ضد الحكام، وفي البداية عبر الناس عن مشاعرهم الغاضبة في المساجد ومن فوق المنابر في صلاة الجمعة وبدأت الدعوة إلى الجهاد تسري في أوصال العالم الإسلامي وسرعان ما تحولت إلى حركة شعبية ضاغطة يقودها المفكرون وأصحاب الرأي وسطرت الكتب ودبجت الرسائل التي تتحدث عن الجهاد وفضل المجاهدين وعن مكانة بيت المقدس وأهميته بالنسبة للمسلمين، وفي ظل هذه الحركة تكون رأي عام قوي وضاغط بحيث لم يعد في وسع الحكام أن يتجاهلوه، وقيض لهذه الحركة أن توجه مجرى الأحداث على مدى ما يزيد على قرنين من الزمان.
وفي ظل هذا البعث الفكري ظهر عماد الدين زنكي ليقود حركة المقاومة العربية ضد الصليبيين على محور جديد، محور "الموصل-حلب" بدلاً من محور "القاهرة-دمشق" الذي أثبت فشله بسبب ضعفه والتفكك الداخلي في مصر والشام آنذاك. وأخضع عماد الدين زنكي المنطقة الواقعة بين الموصل وحلب لسلطانه وما لبث أن صار هو أقوى حاكم إسلامي في زمانه لأنه طوع قوته وسلطانه في خدمة المطلب الشعبي العام أي الجهاد ضد الفرنج فقد قامت المدارس والعلماء والمتدينون بخلق مناخ للرأي العام كان من المتعذر في ظله أن يتجنب الحكام في الشام ومصر المواجهة المباشرة للتحدي الذي فرضه الوجود الصليبي، وشيئًا فشيئًا نجح عماد الدين زنكي في التغلب على الثغرات الانعزالية في كل من الشام والعراق وفى سنة 1144 ميلادية شن هجوما ناجحًا على الرها واستردها لتكون بذلك أول إمارة صليبية على تراب الشرق العربي تسقط في أيدي المسلمين وفى سنة 1146 قام الصليبيون بمحاولة فاشلة لاستعمارها ولكن نور الدين محمود خليفة زنكي ووريثه قضى على المحاولة ومن ثم انتهى الضغط الصليبي على مناطق أعالي الفرات.
ولكن نور الدين لم يكن ليقدر على شن هجوم حاسم على الصليبين لأن سيطرته على محور "الموصل/حلب" لم تكن قد رسخت بعد، كما أن خروج محور "القاهرة/دمشق" عن نطاق سيطرته كان عاملاً سلبيًا في حسابات القوة. إذ كان حكام دمشق عقبة كئود في طريق توحيد الجبهة الإسلامية فقد كانت دمشق قد توصلت إلى حال من التعايش السلمي مع الفرنج لدرجة أن حكامها استنجدوا عدة مرات بالصليبيين في مواجهة قوات الزنكيين، ومن ناحية أخرى لم يكن نور الدين يستطيع أن يهاجم المملكة اللاتينية ومن وراء ظهره إمارة دمشق التي لا يثق بحاكمها فضلاً عن أن مصر بمواردها البشرية والاقتصادية الهائلة كانت ضرورية لضمان النصر في الصراع المرتقب وجاء الحل السعيد على أيدي زعماء الحملة الصليبية الثانية التي جاءت كرد فعل أوربي إزاء سقوط الرها في أيدي المسلمين فبدلاً من أن يحاولوا صليبيو الحملة الصليبية الثانية استعادة الرها إذا بهم يشنون هجمة خرقاء على دمشق ولكن هذه الحماقة انتهت بفشلهم في دخول المدينة وبمجموعة الاتهامات التي وجهها قادة الحملة الصليبية الثانية إلى المستوطنين الصليبين بقبول الرشوة لإحباط الحصار حول دمشق ولكن النتيجة الرئيسة لهذه الحملة تمثلت في ارتماء دمشق في يدي نور الدين المفتوحتين سنة 1151 م.
وهكذا تم توحيد الجبهة الشمالية وتم حشد كافة الموارد البشرية والاقتصادية والثقافية لدعم هذه الجبهة، وبسبب تماسك الجبهة الشمالية وصلابتها اتجه الصليبيون جنوبًا حيث كانت الظروف ملائمة لتحركهم، كانت مصر الفاطمية آنذاك بمثابة الرجل المريض على ضفاف النيل حيث كانت الخلافة الفاطمية عارية سوى من بعض ظلال قوتها السابقة فقد أنهكتها الكوارث الطبيعية والخلافات الداخلية وتوالى تغير الوزراء الذين كانوا هم أصحاب السلطة الحقيقيين في إيقاع سريع للفتن والاضطرابات بغية الوصول إلى كرسي الحكم وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى ازدياد منحنى التدهور في قوة الدولة بشكل أغرى جيرانها على الطمع فيها وكانت مصر بمواردها الهائلة كفيلة بترجيح كفة من يمكنه الاستيلاء عليها أو ضمها في الصراع الدائر بين نور الدين محمود والصليبين، وفي سنة 1150 هاجم الصليبيون غزَّة في إشارة واضحة لاتجاههم ضد مصر. ثم سقطت عسقلان آخر المعاقل المصرية في فلسطين سنة 1153 وحين هاجم الصليبيين العريش سنة 1611 م كان ذلك تعبيرًا عن اختلال موازين القوى على الجبهة الجنوبية لصالح الصليبين ذلك أن أهم نتائج ذلك الهجوم كانت هي الإتاوة السنوية التي تعين على مصر أن تدفعها للصليبيين.
وأخيرًا حانت فرصة التدخل الصليبي والوصول إلى القاهرة دونما معارك بسبب النزاع بين شاور وضرغام فقد لجاء أحد الوزيرين المتنافسين إلى طلب المساعدة من أماريك عمورة ملك بيت المقدس على حين لجأ الثاني إلى الاستنجاد بنور الدين وخلال السنوات الست التالية غزا الصليبيون مصر خمس مرات وكانت هذه فرصة رائعة للصليبيين الذين كانوا ينشدون وقف الخطر المصري إما بغزو مصر وضمها لأملاكهم وإما بعقد معاهدة مع المصريين لتحييدهم ومن ناحية أخرى أبدى البيزنطيين استعدادهم لمعاونة الصليبين ضد مصر ولكن الصليبيين كانوا يثقون في قدرتهم على تحقيق النصر دون مساعدة كما كان يحدوهم الأمل على أن ينفردوا بثماره وحين قدمت قوات الصليبيين إلى مصر لنصرة أحد الوزيرين المتنافسين قدمت قوات نور الدين محمود لنصرة الوزير الآخر.
كان هذا هو السبب المعلن ولكن الحقيقي أن كلا من الطرفين كان يسعى إلى ضم مصر أو تحييدها ضمانًا لكسر الجبهة العربية فلاشك في أن نور الدين محمود قد أدرك أنه لن يستطيع توحيد الجبهة العربية دون مصر وأن ضمها هو السبيل الوحيد لتحقيق انتصار كامل على الصليبين، ودار القتال على الأرض المصرية بين المسلمين والصليبين واختارت جماهير الناس في مصر أن تقف مع القوات العربية الإسلامية بطبيعة الحال واضطر الصليبيون إلى الانسحاب في نهاية المطاف، ولكن الاستيلاء على مصر ظل سرابًا يجذبهم تجاهه بين الحين والحين.
ويتبع >>>>>: القراءة الصهيونية للتاريخ(4)
اقرأ أيضا:
كرب ما بعد الصدمة PTSD / الحركة الصهيونية كمشروع غربي