بالرغم من عداء الصهيونية لليهود واليهودية الذي كان واضحاً في البداية، ثم توارى عن الأنظار دون أن يختفي، وبالرغم من أن ثمة توتر مستمر بين الدولة الصهيونية وأعضاء الجماعات اليهودية يعبر عن نفسه من آونة لأخرى، كما بينّا في المقالات السابقة، إلا أنها تدّعي أن يهود العالم ملتفين حولها، يدعمونها قلباً وقالباً، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. فهناك قضايا كثيرة يثيرها يهود العالم من أهمها السؤال الخاص بيهودية الدولة اليهودية، وهل هي فعلاً دولة يهودية تعبّر عن الهوية اليهودية؟ أم أنها تعبّر عن هويتها الإسرائيلية العلمانية؟ وهل هي دولة اليهود تدافع عن مصالحهم، أم أنها دولة تدافع عن مصالحها دون أخذ مصالح يهود العالم في الحسبان؟!
وعادة ما تثار مثل هذه القضايا حين تتعاون الدولة الصهيونية مع إحدى الحكومات التي تأخذ موقفاً معادياً من أعضاء الجماعة اليهودية. فعلى سبيل المثال لا الحصر تعاونت الدولة الصهيونية مع النظام العسكري في الأرجنتين، حينما كان شامير رئيساً للوزراء، وقد ثبت أن هذا النظام المشهور بميوله النازية المعادية لليهود، كان يقوم بتعذيب معارضيه، واليهود منهم على وجه الخصوص، ومع هذا فقد استمر النظام الصهيوني في الحفاظ على علاقاته بالنظام العسكري في الأرجنتين. وكانت السفارة الإسرائيلية ترفض التدخل لصالح المعتقلين السياسيين اليهود. وثمة حقيقة مهمة تدعو إلى التساؤل: إن أحد أهداف الدولة اليهودية هو توفير الأمن والحماية لليهود، ومع ذلك فإن أعضاء الجماعات اليهودية يشعرون بأن أمنهم قد تزعزع بسبب الأحداث في الشرق الأوسط، وأن الجو الذي يعيش فيه اليهود في عدة بلاد قد تحوّل من جو آمن إلى جو قلق مشحون. وفي الواقع، فإن كثيراً من المؤسسات اليهودية تحتاج الآن إلى حراسة مسلحة.
ويشير اليساريون اليهود في العالم إلى علاقات إسرائيل بالنظم العسكرية في أمريكا اللاتينية، فهي من أكبر موردي السلاح إليها، كما أن علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية مع نظام جنوب أفريقيا كان محل انتقادهم، إذ كيف يتأتى لدولة يهودية متمسكة بالقيم اليهودية أن تتحول إلى حليف لكل قوى القمع والإرهاب في العالم؟ ويضطر الليبراليون أيضا إلى الاحتفاظ بمسافة بينهم وبين الكيان الصهيوني حينما يقوم بعمليات وحشية تفوح رائحتها مثل صابرا وشاتيلا وقانا وحصار غزة وتجويع أهلها.
وقد لاحظ هرب كاينون (في مقاله الذي نشرته الجيروساليم بوست 25 نوفمبر 2000) أن موقف يهود أمريكا من سياسة الولايات المتحدة الخارجية لا يتفق تماماً مع موقف إسرائيل، و85% منهم يريدون أن تلعب الولايات المتحدة دوراً نشيطاً في الشرق الأوسط، و75% لا يمانعون في ذلك حتى لو أدى إلى مواجهة بينها وبين الدولة الصهيونية.
وقد انفجرت القضية بحدة مؤخراً، فقد سجل لايزي لايبلر (جيروساليم بوست 19 نوفمبر 2001) أقوال بعض قيادات الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة ممن يرون أن سياسات إسرائيل والولايات المتحدة ليست بالضرورة متماثلة، مما يعطي الحق لأعضاء الجماعة اليهودية فيها أن يكون لهم رأي في السياسة الخارجية مستقل عن رأي إسرائيل.
وقد طالب زعيم كلال الحاخام إرفين كوهين بتوسيع النقاش، لأن قد لا تكون المصالح الإستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية متماثلين بالضبط. وعلق الليبرالي ليونارد فاين بأنه "قد آن الأوان أن نبين أن السياسة الإسرائيلية تعرِّض أمن إسرائيل للخطر". كل هذه التصريحات تؤكد شيئاً أساسياً وهو حق يهود العالم في اتخاذ موقف مستقل عن موقف إسرائيل.
وقد وصل هذا التيار ذروته مع خطاب إدجار برونفمان أمام اجتماع المؤتمر اليهودي العالمي (الذي يضم ممثلين عن كل الجماعات اليهودية في العالم ويحاول أن يعبر عن وجهه نظرها). عقد الاجتماع في القدس في شهر أكتوبر 2001، وفاجأ برونفمان الكثيرين بقوله إن الوجود الإسرائيلي في غزة خطأ، وأن المستوطنات التي لا يمكن حمايتها يجب تفكيكها، وأن على الإسرائيليين أن يفصلوا أنفسهم عن الفلسطينيين. كما أن برونفمان ادعى أن القرارات في مثل هذه المسائل يجب ألا تتقرر في الكنيست بل من خلال الاستفتاء العام.
وقد لاحظ لابير أن برونفمان هو أول زعيم يهودي يستخدم منصة فائقة النفوذ كي ينتقد بصراحة حكومة وحدة وطنية في وقت تعيش فيه الدولة اليهودية حصارا حقيقيا، ويتعرض سكانها للعنف، ويوجه معظم العالم الانتقادات لإسرائيل على الطريقة التي تدافع فيها عن نفسها، وتؤيد فيها أغلبية ساحقة ائتلاف رئيس الوزراء آرييل شارون الواسع.
ويرى الكاتب أنه إذا ما بدأ زعماء يهود الشتات (أي يهود العالم) يحذون حذو برونفمان، فإن هذا سيقوِّض أكثر فأكثر المجتمعات اليهودية المحطمة أصلاً، وأكثر من ذلك سيشجع الحكومات الأجنبية على تكثيف ضغطهم على إسرائيل وهذا صحيح على نحو خاص بالنسبة للولايات المتحدة حيث تقف -بصفتها الحليف الوحيد لإسرائيل- في موقع تحاول فيه إدارة منقسمة المراوحة بين تأييد إسرائيل ومحاوله إقناع الدول الإسلامية بالانضمام إلى ائتلافها.
ويختتم لايبر مقاله بإعلانه رفض مثل هذا الموقف من يهود العالم، ويعبر عن استنكاره أسلوب هذا الزعيم اليهودي، الذي يعقد زيارة تضامن قصيرة لإسرائيل، وبدلا من ذلك يوجه النقد لسياسات إسرائيل، في أمور تتعلق بالحياة والموت. "فلنقلها بوضوح وبصوت عال في السياسة الخارجية وأمور الأمن إسرائيل والشتات (أي يهود العالم) غير متساوين". يبدو أن الدولة الصهيونية تريد من يهود العالم أن يهاجروا إليها ويغدقوا عليها العطاء وأن يلتزموا الصمت تجاه سياساتها الإرهابية، مهما بلغ خللها.
العلاقة إذن بين يهود العالم والدولة الصهيونية ليست علاقة وئام ووفاق كما تدعي آلة الإعلام الصهيونية، فهناك كثير من التوترات والتفجرات، ومع هذا أعلن المتحدث باسم الوكالة اليهودية أنها ستشن "حملة هجرة" على دول مثل الولايات المتحدة وكندا، وستأخذ هذه الحملة شكل حملة إعلامية مناسبة يمكن من خلالها تذكير أعضاء الجماعات اليهودية بأن تحقيق الوجود اليهودي لا يمكن أن يتم على أكمل وجه إلا في إسرائيل، وأن وجود إسرائيل مسألة مصيرية بالنسبة ليهود العالم. وأن الديموجرافيا مسألة مصيرية لوجود إسرائيل، ولذا فالهجرة ضرورية لتحقيق ذلك، ومن خلال الحملة يمكن تحويل الهجرة إلى قيمة يهودية مشتركة بين كافة التيارات الدينية (جيروساليم بوست 25 نوفمبر 2001)، أي أن المتحدثين باسم الوكالة اليهودية يخرجون المقولات الصهيونية التقليدية من الأدراج وينفضون عنها التراب والعناكب فيتحدثون عن الحفاظ على الهوية اليهودية ونفي الدياسبورا وبناء الوطن القومي، وهي مقولات -كما بيَّنا- أكل الزمان عليها وشرب، ولا تجد آذاناً صاغية من يهود العالم.
والله أعلم.
واقرأ أيضاً:
أسباب ظهور النظام العالمي الجديد/ شارون.. مسيح مخلص أم دجال؟/ الحركة الصهيونية كمشروع غربي / الصهيونية... مرتع الفساد / بيان إلى الأمة في الذكرى الستين للنكبة/ الحماقة الصهيونية الكبرى/ نكبة أم تطهير عرقي؟