نعم غزة: من الحاجة إلى سماح!
في المساء اجتمعنا أعضاء الوفد النفسي واتفقنا على خطة النهار الأخير في غزة... هناك يوم تدريبي لمجموعة من الأخصائيين النفسانيين والاجتماعيين والتربويين في غزة إضافة لبعض المتطوعين تجرى فيها ورشتا عمل للتدريب... ولدينا في الوقت نفسه مؤتمر صحفي لأعضاء الوفد الطبي يفترض أن يمثل أحدنا الفريق النفسي فيه،..... ولدينا دعوة من الجامعة الإسلامية في غزة لنزورها... ولدينا أمل أن ننجز كل شيء إن شاء الله.... واتفقنا على ما سيقال في المؤتمر الصحفي وأن أمثل الفريق النفساني فيه.... كنا فعلا وما نزال خائفين على أطفال غزة الحبيبة...
في الصباح ذهبنا إلى مكان سياحي على شاطئ غزة يسمى الأندلس أو حديقة الأندلس لا أتذكر الآن وكان علي أن أفتتح اليوم التدريبي وكانت كلمات التقديم قصيرة فالقوم جادون في العمل... وبدأ العمل فقام ابن عبد الله وتلاه أحمد ضبيع وفي العاشرة والنصف تركتهم لحضور المؤتمر الصحفي الذي أقيم في فناء مستشفى دار الشفاء... وكانت كلماتنا للإعلام: فور بداية العدوان على غزة استحدثت في اتحاد الأطباء النفسانيين العرب شعبة طب نفسي الطوارئ والكوارث وذلك بالتنسيق مع أ.د. أحمد عكاشة رئيس الاتحاد،.... واستجابة لاستغاثة زملائنا العاملين في حقل الصحة النفسية في غزة ذهبنا لتقييم الأوضاع النفسية بعد العدوان بالتعاون مع اتحاد الأطباء العرب وهو المظلة التي تضمنا جميعا......
قمنا فور وصولنا بمقابلات مع وزاراتي الصحة والتعليم ومنظمات غير حكومية إضافة إلى زيارة عدة مواقع ميدانية ومدراس وحضانات... ويتم إجراء يوم تدريبي للمتخصصين والمتطوعين... أما عن الواقع النفسي لغزة..... فالوقت قصير وحجم الأزمة أكبر بكثير من طاقة كل الجهات... وهناك تأثر واضح على مستوى الأطفال البالغ عددهم أكثر من 780,000 من أعراض متوقعة وعابرة وبالتالي عندنا احتياج شديد لطب نفسي الأطفال... وهذا نداء إغاثي لكل المتخصصين في طب نفس الأطفال في العالم..... هناك تطلع واحتياج للخبرة المصرية خاصة وأننا الأقرب لأهل غزة ثقافيا، فهناك نقص كمي وكيفي وهذا يحتاج تدخلا مصريا للتدريب ولابد من تسهيل دخول الأدوات المطلوبة للعمل مع الأطفال.... كذلك من الواضح أن جانب الحرب النفسية والإعلامية والدعائية لعب دورا كبيرا وما يزال في هذه الحرب... والمشكلة ليست فقط العدوان وإنما هي الحصار.... إلا أننا كمتخصصين نستطيع أن نقول أن الشعب الفلسطيني في غزة لم يهزم نفسيا بل على العكس انتصر..... كنت تقريبا أحفظ ما أقوله وكنت واضح الانفعال ولم أكن مستعدا لغير ذلك.... لم تكن هناك أسئلة من الصحفيين إلا بقدر يسير.... وانتهى المؤتمر الصحفي ورجعت إلى حديقة الأندلس لمتابعة ما تبقى من اليوم التدريبي.....
وهناك وجدت أخي الأصغر د. وليد وصفي وقد فتح حوارا مع د. عايش سمورة ود. حسن الخواجة وأستاذ إحسان العفيفي بخصوص المعوقات التي تعطل عمل مركز الصدمات... كان من المهم جدا أن يقوم ولدي بارك الله فيه بذلك، وحل مثل هذه المشكلات هو من صميم عمل الطبيب النفساني في أوقات الأزمات والحروب.... كان وليد رائعا ولم أكن أجد لدي كثيرا لأضيفه على ما كان يقول فقد كان بارك الله فيه مرتب الأفكار لبق الأسلوب... وبالفعل لم أعلق رغم انتظار الجميع للتعليق -وبالطبع لم أقل لهم أنني أعاني قصورا عابرا في وظائفي المعرفية لأنه الأسبوع الثاني للإقلاع عن التدخين...-
تناولنا الغذاء في جو من الحميمية وبشرت الزملاء في غزة بأن الوفد القادم مساء يوم الأحد القادم 8/2/2009 سيكون فيه أ.د. محمد المهدي ود. محمود الوصيفي وأ.أميرة بدران وأ. إيناس مشعل وحكيت لهم عن كل مستشار منهم... واتفقنا كذلك على استمرار التواصل بيننا وبين أعضاء الفريق النفسي لمركز علاج الصدمات بمستشفى غزة النفسي والذي يرأسه د. حسن الخواجة...
كنت في كل ما سبق لي من الوقت في غزة أتناسى أني سأغادر... سأغادر قبل موعدي... كنت أتصرف في كل موقف وأنا أشعر أنني إن شاء الله سأعود... لكنني فيما تبقى لي من ساعات في غزة لابد أواجه حقيقة أنني على الأقل بعد قليلٍ سأغادر وأترك هذا المناخ النفسي المقاوم المنتصر العظيم الشموخ... كان علي أن ألتقط بعضا من طين غزة وأحجارها فأحملها معي وبالفعل أخذت من غزة بعض الطين الجاف وبعض الأحجار الصغيرة ودسستها في حقيبة الكومبيوتر المحمول التي أحملها على كتفي ولم أقل ذلك لأحد... كان علي أن أفي بوعدي لفاضلة من مريضاتي كانت تخدم جرحى غزة في مستشفيات القاهرة وعندما سألتها قبل السفر ماذا تريدين من غزة كان جوابها بعضا من أرض غزة يا دكتور لو ممكن...
طبعا جهزت حقيبتي ولبست الكوفية الفلسطينية التي أهدوها لنا ووضعت أيقونة علم فلسطين على صدر بذلتي... وكنا نتحرك قلقين بشأن ماذا سوف يحدث لأهل غزة في يوم 5 فبراير؟ لماذا تبدو حكومتنا قلقة علينا؟ ولاحظت أن كل الوفود التي دخلت غزة من رفح كانوا يغادرون... ماذا سيحدث؟ لم يكن أحدٌ من أهل غزة يتوقع جديدا في ذلك اليوم وكنت أحس بيني وبيني أنه مجرد نوع من الضغط على حكومة حماس في غزة... بالرغم من ذلك كان المشهد مؤثرا فليس الوفد المصري فقط إنها كل الوفود الإندونيسي والسوداني والجزائري وغيرهم كل هؤلاء راحلون من غزة إلى رفح ليدخلوا مصر.. خير اللهم اجعله خيرا!
وعندما تجمع أعضاء الفريق الطبي في فناء مستشفى دار الشفاء كان واضحا أننا لن نتمكن من تلبية دعوة الأخوة في جامعة غزة الإسلامية لأن من المطلوب أن نتواجد على المعبر من الجهة الفلسطينية قبل غروب الشمس.... وهكذا تركنا اعتذارنا ووعدنا بزيارة هذه الجامعة في مرة قادمة إن شاء لنا الله.
كان الطريق من غزة إلى رفح مختلفا هذه المرة فقد كنا ما بين العصر والمغرب وكان كلٌّ على الأغلب سارحا في أفكاره وهو راحل عن غزة... أتاح ضوء النهار لنا رؤية مزيدٍ من الدمار في المساجد والبيوت على الطريق من غزة إلى رفح وفي رفح..... دمعت عيناي وحيدا وأنا أتأمل في انتصار حماس وكيف أنها أثبتت قدرة المقاومة على الثبات حتى النصر وقدرتها على هزيمة العدو معنويا فضلا عن إحراجه وهو ما عجزت عنه على مدى ثلاثين عاما أنظمة الحكم الرسمية العربية كلها سواء المعترف بها غربيا وإسرائيليا أو غير المعترف بها.... حماس مثلت بالنسبة لي شخصيا النموذج السني المقابل لحزب الله وكانت الأمة كلها في احتياج إليه... واكتشفت فجأة أن العامل المشترك هو نموذج المقاومة وليست المسألة مسألة شيعة أو سنة فهناك موالون من هذا ومن ذاك ومستعدون للتطبيع مع العدو الصهيوني...
.. دعوت الله أن نحسن استثمار هذا النصر ودعوت لأهل غزة بالنصر ورفع الحصار.... ورحت في تأملاتي حتى أفقت على تسمية "فيروس المقاومة" وقلت آه نعم إنه فيروس المقاومة كان في لبنان 2006 وما يزال وأصبح الآن في غزة.... وغالبا هو نفسه الفيروس الذي يخشى من دخوله مصر.. وحزنت كثيرا على بلدي وبكيت وأنا أتذكر: ياما شفتك على البعد عظيمهْ يا بلادي يا حره يا كريمهْ
وزعيمك خلاك زعيمهْ! نعم بكيت فالحال اليوم في مصر غير الحال!...
في الجانب الفلسطيني من المعبر لم تطل وقفتنا وأخذنا صورةً أو صورتين مع المجموعة وصورة أو صورتين كفريق نفسي بناء على اقتراح من الريفي...... وصعدنا إلى الحافلة التي عبرت بنا لتنزلنا على الجانب المصري من الحدود.... وفيه صلينا المغرب والعشاء جمعا... وإذا بنا في مصر المعتادة! نشعر بالخزي المعتاد!
اقرأ أيضاً:
غزة من الداخل والخارج/ التقرير العربي النفسي الأول عن غزة/ هل هكذا فقط يكون الرد؟/ غزة تدخل التاريخ من حيث يخرجون/ حماس الآن أولى بالدعم نعم حماس