اللغة وعاء الفكر أي أننا نفكر عن طريق اللغة، فهي التي تصنع أفكارنا وتشكلها، بل الفكر هو وليد اللغة ثم أنه يسود عليها ليطوعها ويطورها فيخلق منها المعاني الجديدة والأفكار المبتكرة.. لذلك فإن التطور اللغوي هو أحد أهم عناصر التطور النموي عند الأطفال.. فعندما يكتسب الطفل مفردات لغوية هو في الحقيقة يتملك مادة خام يمكن بها أن يبدأ في العملية التفكيرية، تلك مقدمة بسيطة لنفهم أهمية اللغة في حياة الطفل في بداية عمره، فكل تأخير في مد جسور التفاهم المتبادل مع العالم المحيط به هو تعطيل لانطلاق قدرته الذهنية على التفكير والتفكر والتطوير والإبداع.
وقد تتم عملية التقاط اللغة بشكل عشوائي أو بشكل منظم تعليمي:-
الشكل العشوائي
هو ما يحدث في معظم البيوت حيث الطفل يتواجد في محيط يتحدث لغة معينة ويتلفظ الطفل من مفرداتهم ما يسهل عليه نطق حروفه وأيضا ما يعبر عن اهتماماته الخاصة كطفل. مثال يلتقط الطفل مثلا كلمة حصان في حين لا يلتفت ولا يحاول نطق كلمة إحسان بالرغم من تقارب صوتيات الكلمتين ذلك أن كلمة إحسان كلمة معنوية لا يستطيع الطفل في سنواته القليلة الأولى أن يفهم معناها في حين أن الحصان من المخلوقات التي تثير انتباه الطفل جدا ويحب التعرف عليها وحفظ اسمها ليشير إليها.
الشكل التعليمي المنظم :
هو الذي يراعي مراحل التطور اللغوي عند الطفل ومراحل قدرته على نطق أحرف معينة ونمو هذه القدرة. مثال من أول الحروف التي يسهل على الطفل نطقها هي حروف الباء والميم والدال، فيمكن للأسرة أن تختار الكلمات السهلة البسيطة التي تحوي تلك الأحرف من الأشياء التي تثير اهتمام الطفل وتبدأ بتعريفه على هذه الأشياء والتركيز والتكثيف على مسمياتها مثل بابا، ماما، دادا، بطة، قطة، قوطا طماطم ، مام (=طعام)..الخ
ويتساءل الآباء دائما خاصة الذين يعيشون في المهجر أيه لغة يجب البدء بها مع أطفالهم في المنزل لغة البيئة المحيطة أم اللغة الأم؟؟ بل إن هذه المسألة لم تعد قاصرة على ظروف من يعيشون في المهجر وامتدت إلى الأسر التي تعيش في الوطن والتي تريد لأبنائها تعلم لغة أجنبية وإجادتها إجادة تامة تؤهلهم لدخول العالم المعاصر فنجد تلك الأسر تعلم أطفالها المفردات الأجنبية داخل الجملة العربية التي يتحدث بها الأهل طيلة الوقت مثل ترى الأم لونا أحمر فتقول له:RED لتعلم طفلها ما هذا اللون.. وبدلا من أن تقول تفاح تقولApples أو هل تأكلApples؟
لذلك وجب دراسة هذه المشكلة لمعرفة مميزات وعيوب الطرق المختلفة، سأركز في إجابتي على أطفال المهجر بسبب حالتهم الخاصة وتباين الفرق بين البيئة والأسرة.. وسنجد أنه هناك ثلاث حالات:-
الحالة الأولى
تعريض الطفل للغة الأم فقط العربية وبذلك يضمن الآباء أن طفلهم يتلقى الصوتيات السليمة للغة مما سيمكنه من التفكير والتحدث لب لاحقا، معتمدين على أن لغة البيئة سيلتقطها الطفل على أية حال حين خروجه إلى المجتمع واحتكاكه مع البيئة سواء في حضانة أو مدرسة.
وعيب هذه الطريقة أنها تعطل تواصل الطفل مع بيئته واحتمال الصدمة التي يمكن أن يتعرض لها الطفل حين يتواجد في بيئة لا تفهمه ولا تتحدث لغته وغير قابلة لتوفير احتياجاته الأساسية فيبقى اعتماده على أهله هاما للتواصل عن طريقهم فيبقى الأهل هم مصدر المعلومات والخبرة الوحيد الذي ينهل منه الطفل.
الحالة الثانية
التحدث باللغة الأجنبية لغة البيئة مع الطفل حتى يتقنها أولا وبذلك يبدأ الطفل مبكرا تواصله مع المجتمع والتمتع بجميع الإمكانيات المتاحة به للأطفال في سنه دون الاعتماد على الوالدين مما يزيد ثقة الطفل في نفسه وفي قدرته على تنمية ما لديه دون الرجوع إلى الأهل، ولكن مشكلة هذه الطريقة انه سيتضاءل لدى الطفل احتياجه لتعلم اللغة العربية بما أنه لا مجال واسع لتطبيقها فالأهل يتحدثون معه اللغة الأجنبية من صغره فلن تأخذ اللغة العربية أهمية تذكر في حياة الطفل ولن تصبح لغة تفكير بالنسبة له أي اللغة التي يفكر بها وعن طريقها، أو يجري بها عملياته الذهنية والفكرية، وإذا تعلم العربية بعد ذلك فإنه سيفكر باللغة الأجنبية أولا ثم يحاول أن يترجم فكره إلى العربية مما سيعطل سهولة انسياب الجملة ويضاعف من المجهود الذي يبذله ليجري حوارا بالعربية كما أن عربيته ستكون أقرب إلى العربي المكسر من حيث الصوتيات غير السليمة للغة والبناء الضعيف للجملة. وتزداد المشكلة حين يكون الطفل مسلما ويريد والداه تعليمه القرآن والارتباط بالدين والوطن.
الطريقة الثالثة
هي الخلط بين اللغتين، ومشكلة هذه الطريقة أن الطفل يدمج اللغتين في لغة واحدة ويستعمل نفس الطريقة في التحدث مع الغرباء فلا يفهمون نصف كلامه ولا مقصده ويصبح بعد ذلك صعبا التفريق والفصل بين اللغتين.
الحل
يعتمد الاختيار بين إحدى اللغتين على عدة عوامل:
أولا:اللغة الأم لراعي الطفل The Care-giver
قد تكون الأم عاملة وتعهد لطفلها بالرعاية عند الجد والجدة أو خادمة أو مربية أو حضانة، وبذلك يقضي الطفل معظم وقته مع الـراعي البديل ويتلقى منه معظم تعليمه الأولي، لذلك يجب تغليب لغة الراعي ومحاكاتها مع الطفل بسبب الدور الكبير الذي يلعبه هذا الراعي في يوم الطفل وحاجة الطفل الكبيرة للتواصل السليم والمتبادل معه لتتم تلبية احتياجات الطفل الأساسية. وفي ذلك تغليب لمصلحة الطفل
مثال
إذا كان الـراعي البديل هو مربية أو حضانة أجنبية وجب على الوالدين التحدث باللغة الأجنبية معظم الوقت مع الطفل خاصة حين الإشارة إلى متطلبات الطفل الأساسية مثل الطعام والشراب والنوم وقضاء الحاجة، وذلك مع البدء في تعريضه لبعض صوتيات اللغة العربية بعد ذلك.
أما إذا كانت الأم هي الراعية لطفلها فإنه يمكن أن تبدأ باللغة العربية مع طفلها وذلك بسبب خصوصية بعض الصوتيات للغة العربية التي يجب أن يعتادها اللسان منذ الصغر ليستطيع نطقها النطق السليم، مثل حروف الحاء والخاء والعين والغين والضاد.
ثانيا: الطبيعة الاجتماعية للأسرة
اقصد بها طبيعة علاقة الأسرة المهاجرة بالمجتمع، فبعض الأسر يقتصر نشاطها الاجتماعي على العمل وخارج إطاره ليس لها العديد من التواصل الاجتماعي مع أسر بلد المهجر بل تكون علاقتها قاصرة على بعض الأصدقاء أو المعارف من دائرة المهجر من نفس أصل الوطن.. وبذلك تكون الدائرة الاجتماعية للأسرة صغيرة وإطارها قومي يمكن من خلاله تعليم اللغة العربية للطفل وتدعيم المحيط الاجتماعي الصغير للأسرة لهذه اللغة.
أما إذا كان محيط الأسرة أوسع من ذلك وهي في تواصل عميق مع اسر المجتمع وكانت الأم غير عاملة أي أنها في تواصل يومي مع طفلها واختارت أن تبدأ باللغة العربية معه وفي نفس الوقت يتعرض طفلها من صغره للغة ثانية أثناء مقابلات الأسرة مع أسر المجتمع فلا خوف كبير على الطفل لأن الأطفال يجدون دائما طريقة للتواصل فيما بينهم وإن لم يتحدثوا نفس اللغة طالما أن تعرضه للغة الأجنبية سيكون في إعطاء الرفاهية وليس لتلبية الاحتياجات الأساسية للطفل فتبقى الأم ذات التأثير الأكبر على اهتمام الطفل ومحاولاته للتواصل معها فلن تتأثر لغته العربية وحاجته إليها وقد يلتقط بعض الكلمات الأجنبية من أطفال الأسر الصديقة وليس في هذا مشكلة أو تداخل مع العربية لأن اللغة ليست أسماء ومفردات فقط بل بنية جملة وتفاصيل تركيبية.
ثالثا:إجادة الوالدين للغة
هو عامل مهم جدا فاللغة الأولى التي سيلتقطها الطفل يجب أن تكون ممن يجيد التحدث بها نطقا وتصريف، فلن يفيد الطفل تعلم لغة أجنبية ضعيفة ركيكة حتى لو كانت لغة البيئة، ذلك أنه عند احتكاك الطفل بالبيئة سيجد غرابة بين ما ينطقه وما يسمعه من الآخرين ولن يتم أخيرا التواصل بالشكل السليم فيكون في هذا الوضع اللغة العربية التي تجيدها الأم انفع له وأكثر تدعيما لثقته في التواصل بها حتى وان لم تكن كافية للتواصل مع كل أفراد مجتمعه.
بمراجعة تلك العوامل الثلاثة وتشابكها مع بعضها يمكن على ضوء نتيجتها التوصل إلى اختيار أفضل لصالح الطفل للبدء بتعليمه اللغة المناسبة للظروف والعوامل المحيطة. ولن يكون في ذلك تفويت على الطفل لفرصة التقاط اللغة الثانية فسأوضح في مقالات لاحقة كيف يمكن إدخال لغة ثانية في حياة الطفل عن طريق تتبع مراحل نمو القدرة اللغوية المرتبطة بسن الطفل.
اقرأ أيضاً
أصل حكايتنا نحن البشر / إغواء آدم وذريته / عالم عيال كبار - 1- أحمد الأحمر