3- الصحة النفسية بين المطلق والنسبي:
وفي الواقع، مفهوم الصحة النفسية لكل هؤلاء (الطفل - الأم - الأسرة - المجتمع) مفهوم نسبي وليس مفهومًا مطلقًا، بمعنى أنه يختلف من بيئة لأخرى ومن مجتمع لمجتمع ومن أسرة لأسرة وما يمكن اعتباره صحيًا في مكان، يمكن اعتباره اضطرابًا في مكان آخر.
ولتقريب الفكرة، سنحكي حكاية صغيرة عن شيخ قبيلة أناني جدًا، هذا الشيخ عرف بطريقة سرية أن البئر الذي تشرب منه القبيلة كلها، سيسمم في يوم من الأيام، ونظرًا لأنانيته وحبه لنفسه، أخذ يخزن مياه كافية من هذا البئر في منزله حتى إذا تسمم البئر، يجد ما يشربه، فجاء اليوم وتسمم البئر بالفعل وأصيب أهل القبيلة كلهم بالجنون ولكنهم لم يموتوا، فظل هو العاقل الوحيد بينهم، طبعًا استغرب أهل القبيلة تصرفاته في وسطهم ولم يحتملوه بينهم وفي النهاية قتلوه. فعلى الرغم من أنه العاقل الوحيد بينهم إلا أن اختلافه جعله في أزمة معهم، وحدث عدم تناسب بين تفكيره وتفكيرهم.
إذن فلابد من أخذ هذا العامل في الاعتبار, لأن هناك اضطرابات كثيرة في الأطفال تكون مشكلتها النسبية في الصحة والزمان والمكان، فلابد من وضع اعتبار للزمان والمكان والظروف عند تقييم هذا الطفل.
سنعطي مثالاً آخر بسيط ليوضح هذه النقطة: لو أن هناك طفل تشتكي أمه من كونه كثير الحركة ويقفز فوق الشبابيك وعلى البلكونات ويكسر الكراسي والأشياء، وهم يعيشون في شقة غرفتين وصالة، فهذا الطفل لو تخيلنا أنه انتقل من هذه الشقة الضيقة المحدودة الممتلئة بأشياء زجاجية وقابلة للكسر، ووضعناه في بيت واسع حوله ساحة كبيرة وشجر، وعاش الطفل في هذا المكان الجديد يجري في الساحة الخضراء ويقفز فوق الأشجار كما يريد، وقتها لن تحس الأم أي شقاوة منه أو أي حركة زائدة، وفي نهاية اليوم يعود بعد هذا الجهد المضني لينام والأم راضية وهو راض، هنا اعتبار المكان والظروف مهم جدًا.
4 - الاستقطاب بين النقيضين مقابل الحوار والتعايش:
هناك أسر تكون في حالة استقطاب ما بين نقيضين، بمعنى أنها أسرة أحادية النظرة وأحادية التفكير، فلا ترى الأشياء إلا بلونين، أبيض أو أسود، ولا تستطيع رؤية درجات الألوان البينية ما بين الأبيض والأسود، يرون أن ما يفعلوه هو الصحيح المطلق وكل ما عداه خطأ ولا يقبل النظر ولا التفكير ولا الحوار، فينشأ الطفل في هذا الجو وهو مستقطب استقطابًا شديدًا في ناحية واحدة أو اتجاه واحد، أحادي التفكير، لا يستطيع رؤية سوى احتمال واحد في كل شيء ولون واحد من كل الألوان.
من هنا عندما يكون الاستقطاب في اتجاه، لابد أن يتصارع مع الاتجاه الآخر أو يضاده، ويفقد هذا الطفل القدرة على التحاور والتعايش مع الآخرين المختلفين عنه، وبهذا الشكل يصبح الطفل دائمًا في صراع مع أصحابه، ومع الجيران، ومع المجتمع، وعندما يكبر، يظهر موضوع الاستقطاب وأحادية التفكير مع الأب والأم، لأنه تعوَّد أن الحقيقة واحدة فقط، الدنيا بها لون واحد، عندما يكبر ويدخل فترة المراهقة، يختلف عن الأب والأم، لا يحتمل هذا الاختلاف فيبدأ بالعدوان على الأب والأم، لأنهم لم يعودوه الاختلاف مع الآخرين، والتحاور والتعايش معهم، فيدفع الأب والأم ثمن هذا الاستقطاب الذي أعطوه للطفل من خلال الجو الأسري القائم على فكرة الاستقطاب أو أحادية التفكير.
5- الاحتياجات بين الإشباع والحرمان:
للإنسان عدد كبير من الاحتياجات، وهناك عالم نفس شهير هو أبراهام ماسلو، قام بعمل ما يسمى "هرم الاحتياجات"، فقال إن الإنسان له احتياجات جسمانية بيولوجية عبارة عن الأكل والشرب والمسكن والملبس، هذه الاحتياجات لابد أن تشبع أولاً، وتمثل قاعدة الهرم، يليها احتياج للأمن والاستقرار، يليه احتياج للانتماء -الانتماء لأسرة ولبلد وللإنسانية- يليه احتياج للحب -أن يكون الإنسان قادرًا على أن يُحِب ويُحَب- يليه احتياج للتقدير، أن يحس بأن الناس يقدرونه كشخص، ويقدرون ما يفعله، وسعيدون به، وانتهى "ماسلو" في آخر الهرم بالاحتياج لتحقيق الذات -أن يحقق الإنسان ذاته في هذه الحياة- وتوقف عند هذه النقطة، لأنه كان يتبع المدرسة الإنسانية، التي كانت تنظر للإنسان على أنه هو نهاية المطاف
لكننا نضيف إلى هذه الاحتياجات احتياج مهم جداً هو "التواصل الروحي"، فالإنسان لديه احتياج للتواصل الروحي مع الله، مع الكون، مع السماء، مع الغيب، وهذا الاحتياج يمكن فهمه بشكل عملي وعلمي موضوعي من المعابد المنتشرة في كل أنحاء العالم تمثل مراحل التاريخ المختلفة، وكيف أن الإنسان كان محتاجًا لأن يكون على علاقة بالسماء وبالله سبحانه وتعالى, فأنشئت المعابد في كل الحضارات لتمثل هذا الاحتياج الحيوي المهم عند الإنسان.
وهذه الاحتياجات لابد من أن تشبع بتوازن، بمعنى أن نبدأ أولاً بالاحتياجات الأساسية، الأكل والشرب والمسكن والملبس، ثم الأمان، والانتماء، ثم الحب، وهكذا.. كل حاجة من هذه الحاجات تشبع وتأخذ حقها، ولا تطغى إحداها على الأخرى، ومع هذا هناك قاعدة مهمة وهي أن إشباع الاحتياجات لدرجة التخمة يؤدي إلى حالة من الترهل والضعف والمرض، فلابد من وجود توازن بين درجة الإشباع ودرجة الحرمان، فالإنسان محتاج أن يشبع وفي نفس الوقت أن يحرم من بعض الحاجات.. لماذا؟ لأن الحرمان ينشط الدوافع، ويجعل الإنسان يتحرك ويعمل ويكون عنده أمل، ويسعى وراء هدف..... لو أشبعت كل حاجة، فسيتوقف الإنسان عن السعي والحركة والتفكير والإبداع..... إذن لابد من وجود أشياء يحتاجها.. أشياء يحرم منها ويسعى إليها ويحلم بها..
إذن فهناك توازن ما بين الإشباع والحرمان، فالطفل لو أخذ كل احتياجاته فلن يكون صحيحًا، ولو حرم حرمانًا شديدًا، ستصبح عنده مشاعر حقد وكراهية وحرمان وكره لمن حوله، لأن كل الذي يحتاجه لا يجده. وقد وضع علماء النفس معادلة يمكن تجربتها، وهي في الحقيقة مفيدة، قالوا أنه يكفي تلبية 70% من احتياجات الطفل، بمعنى: لو الطفل طلب مائة مطلب، يلبي له منها 70 فقط، حتى لو كانت المطالب الـ 100 منطقية وهو يحتاجها بالفعل، لكن تلبية جميع المطالب لن تؤدي إلى سلامة هذا الطفل، فلابد من وجود شيء ينقصه.. يسعى إليه ويحلم به، ويكون عنده الأمل أن يحصل عليه في وقت من الأوقات، ونشجعه أن يعمل ويسعى للحصول عليه.
6 - مواكبة مراحل النمو :
غالبًا ما تأتي الأم وتقول أن أولادها عندما كانوا صغارًا كانت تحبهم وتحس بأنهم جزء منها، وكانوا منسجمين جداً معها، لكن عندما كبروا، أصبحت تحس بغربة معهم، كأنهم لم يعودوا أولادها، ولم تعد منسجمة معهم كما كانت، فهي عاجزة عن فهمهم، وهم بالمثل غير قادرين على فهمها، لا تعرف بالضبط من المخطئ هي أم هم..... هذه الأم نقول لها أنها كانت متفقة مع أولادها في مرحلة معينة وهم أطفال، لكن أولادها يكبرون ويتطورون في تفكيرهم وفي عاداتهم وفي تقاليدهم وفي تطلعاتهم, لكن للأسف هي لم تتمكن من مواكبة هذه المراحل، وقفت عند مرحلة معينة وثبتت عندها في حين أن أولادها مستمرون في النمو والتطور، فهنا نشأت فجوة ما بين الاثنين، فتكون الغربة واختلاف اللغة، فهي لا تفهم دنياهم ولا حياتهم ولا طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه، وطريقة التعامل بينهم.....
وهكذا نقول لها أنها هي والأب لابد وأن يواكبوا مراحل النمو، بمعنى أن يعيشوا معهم مرحلة مرحلة. وهذه المواكبة مفيدة ليس فقط للأبناء، بل للأب والأم لأنهما أيضًا محتاجين لأن يعيدوا هذه المراحل مرة أخرى لأنفسهم، فمثلاً هناك أب لم يعش مرحلة طفولته جيدًا، ولم يعش مرحلة مراهقته جيدًا، لأي سبب من الأسباب، فيعيد التجربة مرة أخرى مع أولاده في هذه المرحلة، وكأنه يعيش المرحلة التي فقدها أو التي أفلتت منه بدون ذنب منه، أو لأي ظروف حدثت، هذا يفيد نفسيًا، لأن الأشياء التي لم يتمكن من فعلها، سيعود لمعايشتها مرة أخرى، فيكمل النقص، أو الأماكن التي كانت مؤلمة نتيجة للحرمان في مرحلة معينة، وفي نفس الوقت سيكون على نفس الموجة مع أبنائه، فتعطي فائدة مزدوجة للطرفين، وتجدد دائمًا طفولة ومراهقة وشباب الأب والأم وتقوم بعمل حالة من التكامل في شخصيتهما.
ويتبع : .................. قواعد الصحة النفسية للطفل(3)
اقرأ أيضاً:
مفهوم اللغة في حياة الطفل / الصحة النفسية للطفل (2) / الاضطرابات النفسية لدى الأطفال (3) / عالم عيال كبار - 1- أحمد الأحمر / حتى نعْدل إن عاقبنا