إن علم السلوك يبحث في كثير من الظواهر السلوكية لدى الإنسان ويقوم بتمحيصها وتحليل أسبابها وبواعثها ومحاولة وضع خطط علاجية لحلها.. ومن العلماء المشاهير الذين قضوا وقتًا طويلاً في بحث السلوك الإنساني نذكر العالم النفسي الشهير المدعو (جان بياجيه) والذي بحث في سلوك الطفل ومراحل تطوره وتعلمه وفهمه وإدراكه للمحيط. هذا العالم يعد من كبار الخبراء النفسيين الذين بحثوا في التطور السلوكي لدى الأطفال، وقد قام بعدة تجارب شهيرة استطاع من خلالها أن يثبت للعالم أن الطفل يمر بمراحل فهم وإدراك متفاوتة تنمو وتتطور مع تقدم عمره.
فقد قضى جان بياجيه حياته في البحث عن كيفية تعلم الأطفال للأشياء المحيطة بهم وطرق فهمها، وقد استطاع أن يربط بين إدراك الطفل وتعلمه للمحيط وبين عمره الزمني.. أي أن الطفل لا يستطيع على سبيل المثال أن يتعلم الكلام قبل أن يصل إلى عامه الأول، وإذا كانت هناك محاولات فإنها بالطبع ستبوء بالفشل. كما يعتقد بياجيه أن الطفل يتعلم عن العالم المحيط به عن طريق ما يسمى بالإدراك التدريجي التابع للفكر.
لقد توصل جان بياجيه بعد أن قضى وقتًا طويلاً من حياته يبحث في جوانب الطفل السلوكية إلى ما أشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا.. حينما ربط لنا إدراك الطفل وفهمه لمحيطه بالعمر الزمني. وأن الطفل لا يستطيع أن يكتسب الشيء ويتعلمه إلا حينما يصل نموه ونضجه إلى الزمن المطابق لتعلم هذا الشيء.
عن عمر بن شعيب، عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة إذا بلغوا سبعًا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرًا وفرقوا بينهم في المضاجع". رواه أحمد وأبو داود والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم .
يقول الله تعالى: "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى".(سورة النجم:4-3).
إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. حديث مهم وبه ما يجب التمعن فيه والتفكر مليًا إذ يحدد محمد عليه الصلاة السلام فترات زمنية للتعامل مع الطفل.
فقوله: "مروا أولادكم بالصلاة إذا بلغوا سبعًا" تحديد للزمن وللوقت المناسب الذي يستطيع فيه الطفل تلقي الأوامر وفهم الأمور.
وحتى نتمكن من فهم هذا الحديث بشكل أوضح وأفضل.. علينا أن نفهم أولاً مراحل النمو النفسي والسلوكي لدى الأطفال في السن المبكرة، أي في مرحلة الرضاعة والمهد حتى السبع سنوات الأولى من عمر الطفل.
إن مرحلة الرضاعة تتميز بتقليد الطفل لحركات وأفعال الكبار مما يؤدي إلى بداية تعلمه.. ومن وجهة نظر علماء النفس أن التقليد يعتبر مستوى جديدًا من النشاط العقلي والمعرفي. وفي بداية السنة الثانية يبدأ الطفل باكتشاف المحيط والتعرف عليه عن قرب، كما ويبتكر أشياء جديدة غير مألوفة، وليس فقط مجرد التكرار عن طريق الصدفة كما كان في المراحل الأسبق وإنما يبدأ بنفسه اكتشاف الموضوعات المحيطة به.
وبذلك يرى الطفل نفسه كمؤثر.. وهو يتمسك بمفاهيم معينة للسبب والنتيجة. وكل هذا يتبين لنا حينما نرى طفلنا قد زادت حركته وزادت ضجته ولعبه أو كما نقول نحن "تخريبه للبيت" إن هذا يدل على مدى نمو الطفل من الناحية العقلية والمعرفية.
وفي منتصف السنة الثانية يبدأ الأطفال بما يطلق عليه بياجيه: بدايات التفكير، إذ أنهم يجربون أفعالاً معينة "في رؤوسهم" قبل أن يجرونها في الواقع. وهذا ما يسمى بالاختبارات العقلية. هنا علينا أن نشير إلى أن شكل التفكير لدى الأطفال في العامين الأولين عادة ما يكون محدودًا للغاية. حيث أنه يتعامل فقط حسب مبدأ هنا والآن. أي أنه يعيش في عالمه الخاص به ولا يستطيع أن يتعرف على عالمنا الفكري والعقلي. فهو لا يفهم سوى ما يريده هو، وهذا ما أطلق عليه بياجيه: التفكير المتمركز حول الذات أو التمركز الذاتي .
بعد أن تمكن العالم النفسي جان بياجيه من اكتشافه بأن الطفل لا يستطيع أن ينظر من منظورنا إلى الحياة.. وذلك بعد مجهود كبير قام به.. نجد أن هذه النظرية توصل إليها محمد صلى الله عليه وسلم قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا ونيف، إذ نجد في حديثه الشريف:روى أحمد وابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال لصبي هاك، ثم لم يعطه فهي كذب".
في هذا الحديث الشريف يحدد لنا محمد صلى الله عليه وسلم القائل والسامع والنتيجة. فالقائل هو جمع الكبار.. لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتحدث مع الصحابة رضوان الله عليهم. والسامع هو الصبي أي الطفل. أما النتيجة فهي الكذب أي إذا قال الكبير للصغير هاك ولم يعطه فقد كذب، وإن قصد المزاح.
من هنا نجد أن الرسول الكريم أراد أن يوضح للناس أن عالم الطفل هو عالم آخر غير عالمنا، وأن الطفل لا يستطيع أن ينظر بمنظورنا للأمور نحن الكبار، أي يقصد عليه الصلاة والسلام هنا أن تفكير الطفل متمركز حول ذاته.. وأنه لا يفهم مقاصد الأمور، بل ما نقول ونفعل وهذا ما يقوله علم النفس الحديث، أن الأطفال الصغار يتعلمون على أفضل نحو من الأنشطة العيانية،، وحين نحاول أن ننقل المعرفة عن طريق اللفظ فإن النتيجة كثيرًا ما تكون فهمًا سطحيًا.
في كثير من الأبحاث التي قام بها بياجيه استطاع أن يربط بين النمو المعرفي لدى الطفل وبين النمو الزمني. فهو يستمر في شرحه لنظريته إلى أن يصل إلى المرحلة الثانية بعد المرحلة التي يطلق عليها اسم "الحس-حركية".
والتي تبدأ في نهاية السنة الثانية ويطلق عليها اسم المرحلة العقلية قبل الإجرائية. ففي بداية هذه المرحلة نجد أن الأطفال يبدؤون في استخدام اللغة وتنميتها كما ينمون استخدام الإشارات والرموز. ومن المعروف أن اللغة هي دليل على النمو العقلي لدى الأطفال.. فبواسطتها يحل مشاكل أكثر تعقيدًا وتركيبًا. وفي هذه المرحلة يبدأ عندهم مبدأ ثبات الأشياء وبقائها دون أن يروها أمامهم، في هذه المرحلة بحث بياجيه العمليات العقلية لدى الأطفال.. فوضع بعض المهام العقلية وعرضها عليهم، ورأى كيف يمكنهم التوصل إلى الحل.
مثال على ذلك:عرض على طفل كأسين كبيرين واسعين من الماء، مملوءين بارتفاع متساوي، وكأس ثالثة طويلة وفارغة.. ثم بعد عرضها على الطفل، سأله كيف يرى الماء في الكأسين الأولين؟ فقال الطفل أن الماء متساوي، ولكنه بعد أن سكب أحد الكأسين في الكأس الطويلة الفارغة على مرأى من الطفل وسأله أين توجد كمية الماء أكثر فأشار الطفل إلى الكأس الطويلة.
هنا ومن هذا المثال يشير بياجيه إلى أن الطفل فقد الحكم بالثبات والبقاء من الناحية الكمية، أما الطفل الذي يفهم أن اختلاف الحجم قد لا يؤثر على الكم فقد وصل إلى درجة من التفكير الذي يتغلب فيه على الإدراك.
إن إدراك الطفل في هذه المرحلة للأشياء يميل إلى أن يكون مقيدًا بالسمات السائدة أو الخصائص الغالبة على شكل المثير، ومع ازدياد العمر للوليد البشري ونضج القدرات الإدراكية نرى أن إدراكه يتحرر من اعتماده المبكر على الخصائص المهيمنة والسائدة.. وبالتالي نجده يستطيع التعامل مع الشكل وينظمه بصورة كلية عامة، وهذا تفسير يمكن أن يلاحظ في الطريقة التي يؤدي بها الطفل عدد من المهام الإدراكية المختلفة. وعلى العموم فإن معظم الأطفال ما قبل السادسة أو السابعة لا يفطنون إلى مبدأ الثبات وبقاء الأشياء.
من هذا المنطلق يقول بياجيه: أن الطفل ما قبل المدرسة تنقصه الإمكانية والقدرة على التفكير بشكل منطقي.
ومن الجدير بالذكر أن تجارب بياجيه واختباراته جربت في كثير من دول العالم، وكانت النتيجة مطابقة بشكل مذهل.. ومن الاستنتاجات التي استنتجها جان بياجيه؛ هي التفكير المتمركز حول الذات، فالطفل الذي لم يصل إلى السابعة من عمره تسيطر عليه صفة التمركز حول الذات في التفكير والكلام والسلوك، فقد لاحظ أن الأطفال عادة ما يتكلمون مع أنفسهم أكثر مما يفعلونه مع بعضهم البعض. وكلامهم عادة ما يكون مرتبطًا بالفعل ولا يكون بمثابة مجهود يبذله الطفل لهدف الاتصال.
نأتي بمثال على هذا؛ طفلين في الثالثة من عمرهما يلعبان سويًا وقد دار بينهما حديث:
-أحمد: اشترت لي أمي هذا الحذاء الجديد.
-علي: هذه اللعبة الخربة! لماذا لا تعمل؟؟
أطلق بياجيه على هذا النوع من الحديث: الكلام المتمركز حول الذات، وذلك نتيجة التفكير المتمركز حول الذات أيضًا الذي تتصف به هذه المرحلة الزمنية.
يمكن القول أن الأطفال حينما يتواجدون مع بعضهم البعض فإن كل طفل يكون كلامه عادة موجه أكثر لنفسه، لذلك نجد أن الطفل حينما يتكلم يستخدم الصيغ التالية: أنا أعمل، أنا أرسم، أنا أكل، أنا ألعب..
ويشير بياجيه إلى أن الطفل الصغير المتمركز حول ذاته لا يمكنه أن يأخذ وجهة نظر الشخص الآخر عندما يختلف معه، إن تفكير الطفل الصغير له نظامه الخاص به، فنحن لا نستطيع أن نفهم الطفل بشكل كلي وذلك لعدم قدرتنا على الارتداد إلى نماذج فكرية ذاتية. وهي تلك النماذج التي تميز تفكير الصغار.
لذلك قد يساء فهمنا لسلوك الصغار وذلك لاختلاف نظرة الأطفال للعالم المحيط مما هي لدى الراشدين. قد يتأثر الطفل الصغير ويصدم حينما لا يستطيع أن يشارك دميته في ردود فعلها. وذلك لاعتقاده أن دميته جزء من نفسه..
ويتبع ....: النظرية المحمدية وعلم السلوك(2)
*اقرأ أيضا:
كراهية الأبناء للآباء / التربيةالجنسيةوالطفولة / كيف نُعد دستورًا أسريًا؟(2) / قواعد الصحة النفسية للطفل(4)