الزوجان والواقع الجديد كأبوين
إن تعريف فقدان الوليد هو موت الطفل حتى فترة 28 يوماً بعد الولادة، وولادة طفل خداج أو ولادته مصاباً بآفات خَلْقية أو تلف دماغي ناجمٍ عن نقص O2 هي من الأسباب المؤدية لفقدان الوليد. وتعلّق الأهل بالطفل هنا مختلفاً نوعاً ما عن الحادثتين السابقتين- الإجهاض وولادة طفل ميت- مما يؤدي لاختلاف تفاعل الأسى عندهم رغم أن مراحله تبقى واحدة، فحين الولادة يرى الأهل طفلهم وهو حي وغالباً يحدث اتصال بصري معه.
وكذلك يحصل نوعاً من التعلق الحادث خارج رحم الأم والذي يعني بالنسبة للأهل أن الحمل هو شيء حقيقي فعلاً وأن طفلهم موجود فعلاً في هذه الحياة، لذا فإن فقدان الطفل بعد ذلك يدفع تفاعل الأسى ليكون أشد، وفي رأي الباحثين فإن الأهل الذين تعلقوا بطفلهم الحي يحدث لديهم تفاعل حزن أشد لفقدان الطفل من أولئك الذين عانوا من ولادة الجنين ميتاً لكنهم يصلون إلى مرحلة عزاء أسرع.
دراسـات الوفـاة في فتـرة الولادة
إن دراسات الوفاة في هذه الفترة قد تركزت على موضوعين اثنين؛ اختص الأول بدراسة الحزن Maternan grieving والمرض النفسي psychopathology لدى الأم عقب فقدان الطفل. في دراسة أجراها Gullberg ظهر أن 33% من النساء في هذه الدراسة بعد 2–1 سنة من وفاة أطفالهن حدثت لديهن اضطرابات نفسية خطيرة تشمل الذهان والرهاب، وهجمات من القلق والاكتئاب. وفي دراسة أخرى فإن 23% من النساء كان لديهن تفاعل الأسى طويل الأمد. وفي دراسة ثالثة أكثر منهجية شملت 38 أم فقدن وليدهن بعد -3 14 يوم فقط، استجوبت الأمهات بعد مرور ثلاثة أشهر ثم بعد تسعة أشهر من وفاته خضعن خلالها لعلاج دائم، ظهر تأثر سلوك وأداء Function الأمهات بوفاة أطفالهن ولكن في الشهر التاسع كانت أمورهن تجري بشكل أفضل. مثلاً بعد 3 أشهر 23% منهن فقط شعرت بأنها تأقلمت مع وفاة وليدها بشكل كافٍ، لكن في الشهر التاسع ارتفعت النسبة إلى 69%.
إن الحقيقة التي أيدتها 75% من النساء والتي تقول أن الفترة بين الشهر الثاني والرابع هي فترة صعبة جداً تعود لسبب أن الأهل والأصدقاء أصبحوا أقل تعاضداً عاطفياً مع الوالدين في هذه الفترة لتوقعهم أنهما عادا إلى حالتهما الطبيعية في هذا الوقت. ورغم أن الأمور تبدو جيدة على العموم في الشهر التاسع لابد أن نلاحظ أن 74% من الأمهات المستجوبات في هذه الفترة كنّ يصفن شعوراً بالاكتئاب لوفاة الوليد، وأن 42% منهن بعد الشهر التاسع بقين يعانين من نوبات بكاء وأن 53% منهن وصفن أنفسهن بأنهم نزقات وسريعات التهيّج Irritable بسبب وفاة الطفل.
إن الفكرة الشائعة هي ازدياد الصعوبات الزوجية عقب فقدان الحمل، ولكن في هذه الدراسة فإن 10% من النساء فقط ذكرن بأنهم عانين مشاكل زوجية، بينما وصف 50% علاقاتهن بأنها أصبحت أشد وأقرب بسبب تعاملهن وأزواحهن مع فقدان الطفل سوية. إن هذه الحقيقة السابقة بالذات توضح مدى قدرة الزوجين على التأقلم إذا أعطيا مساندة كافية من العائلة والأصدقاء ورجال الدين والصحة، وبعكس ذلك فغياب هذه المساندة قد يؤدي إلى المشاكل الزوجية وازدياد حوادث الانفصال والطلاق.
وفي دراسة أجراها Swanson - Kanffan حول 20 امرأة أسقطن محصولهن الحملي قبل شعورهن بحركات الجنين Early Pregnancy Loss، أكدت هؤلاء النسوة أنهن شعرن بفقدان طفل حقيقي Real child ورغم أن الأسى البدني كان شديداً فإنه خلال6–4 أسابيع كانت هؤلاء الأمهات قد استطعن التعامل والتأقلم مع الفقدان وأصبحن قادرات على التفكير بحمل آخر. ومن هذه الدراسة فإن الزوجين اللذان عانا من إسقاط الحمل يمكنهما أن يفكرا بحمل جديد خلال أشهر قليلة من فقدان الحمل السابق، وبناء عليه ورغم النصيحة المعطاة للأزواج الذين يعانون من فقدان الجنين أو موت الوليد بالانتظار 6 أشهر وحتى السنة قبل أن يبدأ حمل جديد لإتاحة الفرصة أمامهم للحزن على فقدان الطفل، بينما الأزواج الذين يعانوا من الإسقاط في الثلث الأول من لحمل لا يحتاجون لمثل هذه المدة الطويلة من الأسى.
أما الموضوع الثاني فيبحث في العلاقة بين الأسى في فترة الولادة وتصرف الكادر الطبي حيال ذلك. أظهرت الدراسات أن موقف الكادر الطبي في المشفى والعائلة والأصدقاء غالباً له تأثير سلبي على تفاعل الأسى عند الأهل، فالكادر الطبي يجد صعوبة في التعامل مع وفاة الطفل وبذلك لا يستطيعون مساعدة الأهل على التعامل مع حزنهم. لذا فإن تثقيف الكادر وتطوير برامج حول وفاة الوليد Neoanatal Loss Program يجعله أكثر فائدة عاطفياً بالنسبة للأهل وتالياً يصبح تعاملهم مع الأسى أسهل من خلال تقديم عناية ومساندة أكثر فعالية.
المساعدة الطبية
كانت معظم المشافي في العالم- حتى فترة قريبة وبناء على طلب الطبيب والعائلة أو وفقاً لأنظمتها- تتلف سجلات الطفل الذي يولد ميتاً، وهذا الإجراء يصور الحمل وكأنه لم يكن موجوداً أو كأنه شيء مخجل ومخيب للآمال بدرجة يتوجب معها إخفاؤه! وحتى الآن، فإن بعض المشافي تفرض سياسة تفضل تجنب الحديث عن الموت، ولكن في نفس الوقت فإن المشافي الأخرى قد قطعت أشواطاً بعيدة في مساعدة الأهل على التعامل مع فقدانهم المأساوي لوليدهم.
على الطبيب والكادر الطبي العمل كفريق يساعد الزوجين على التعامل مع الموت، وأن يظهروا نوعاً من التوحد العاطفي empathy معهما، وأن يعملوا على تثقيفهما حول تفاعل الأسى الذي سيواجهانه عقب الفقد. هذه أم تستعيد مشاعرها عقب فقدان طفلها: "لم يقل لي أحد شيئاً" وفي غرفة الانعاش طلبت مني إحدى الممرضات أن أتناول هذه الأقراص كي يجف حليبي وسألتني عما أريد أن أفعله بجثة الطفل، ثم أرسلوني إلى جناح النسائية حيث لا أحد هناك يعلم ما حدث لي، لقد كانت هناك أوقات أستيقظ فيها وأسأل نفسي هل حقاً كان هناك طفل؟.. الله يعلم أني كنت أرغب في إنكار كون طفلي قد مات، وبدلاً من أن يساعدني المشفى على تقبل الواقع فقد عززوا رغبتي في نكران ذلك، كنت خائفة وأرغب في أن يعلمني أحد منهم كيف أحزن.
وهناك مشافٍ تفرض في حال فقد الحامل وليدها عدم وجودها في جناح الولادات، حيث بكاء الأطفال وأصوات الأمهات في جو فرح، لكن معظم الأمهات ترغب في أن يكون لها خيار بين البقاء في جناح الولادة أونقلها إلى جناح آخر، وهذه أم تصف ذلك: "كنت أخطط منذ أشهر من أجل ولادة طفلي والاستمتاع في إقامتي في المشفى مثل بقية الأمهات والأطفال وحين ولادة طفلي ميتاً شعرت أني خدعت بطفلي وأني خرجت من قسم الولادة وكأني منبوذة، لقد أردت أن أسمع بكاء الأطفال في جناح الولادة، إنها تعني الأمل بالنسبة لي"، وهكذا نلاحظ شعور النبذ لدى الأم التي فقدت طفلها من خلال تعامل المحيطين بها في المشفى أو خارجها وكأنها نذير حظ سيء كما قالت هذه الأم التي بكت عندما تذكرت ذلك: "لقد شعرت أن أصدقائي يتوترون عندما أحمل وليدهم وكأني قاتلة أطفال!..".
فالتعبير الكامل عن التعامل العاطفي في تفاعل الأسى هو شيء أساسي ليتراجع الأسى بشكل صحي، ودور الطبيب والكادر الطبي في تسهيل الحزن يمكن أن يتم بطرق عدة.. إن إشعار الأهل بحقيقة موت طفلهم هو أمر أساسي وعلى الكادر الطبي أن يشجع الأهل على رؤية ولمس وحمل طفلهم الميت، فشعور الأهل بوجود طفلهم عن طريق لمسه وعناقه يساعدهم على تقبل حقيقة وجوده وحقيقة موته. ومن المفيد للأهل أن يشجعوا بلطف على حمل طفلهم بعد الولادة وفي فترة الصحو، فإذا رفض الأهل أو كانت حالتهم لا تسمح بذلك يجب إعلامهم عن المدة المتاحة لهم لاتخاذ قرارهم، ويجب أن يقدم الطفل إليهم مرتين أو ثلاثة خلال هذه الفترة.
كما أن ضرورة اتاحة وقت للأهل ليكونوا وحدهم مع الطفل شيء هام، إذ يمكن للأهل فحص الطفل وربما إجراء حمام له وتوديعه نهائياً. وحين يكون الطفل قليل التطور أو متعطن أو لديه تشوهات خلقية فعلى الكادر الطبي أن يكون مشجعاً ويقدم الطفل للأهل ويحاول إظهار الصفات الإيجابية للطفل بالإضافة لمشاكله، إن تحضير الأهل لذلك عن طريق وصف الطفل ضروري فذلك يجعلهم يشعرون بانزعاج أقل ويخفف صدمة رؤية طفلهم المشوه. ويجب الانتباه، فما يظهر غريباً في الطفل بالنسبة للكادر الطبي قد يراه الأهل جميلاً، وهم غالباً يبحثون عما هو إيجابي في الطفل ويركزون عليه!.
من الطرق المساعدة الأخرى للأهل "صورة للطفل". ففي دراسة أجراها Hermon ظهر أن 86% من الأهل حصلوا على صورة لطفلهم أو رغبوا بذلك، إن هذا يثبت فكرة أن الأهل لهم ذكريات مع أطفالهم. إن الحصول على صورة للطفل هي طريقة إيجابية لتطوير تفاعل الحزن بتأكيدها على أن الطفل كان حقيقة وواقعاً وليس وهماً Fantasy، والسماح للأهل بتسمية طفلهم هي طريقة أخرى للتأكيد على واقعية الطفل، وغالباً فإن الأهل لن يختاروا الاسم الذي أرادوه لو عاش الطفل، لكن تحديد الأهل هوية الطفل تجعلهم يشعرون بالارتياح والاحترام لطفلهم الذي ولد ميتاً. وبما أن استمارة الولادة لا توضع فإن بعض الأهل يؤكدون ويصرون على تسجيل اسم الطفل في دائرة الإحصاء للتأكيد على أن طفلهم لن ينسى. إن القياسات الخاصة بالطفل وخاصة بصمات الأقدام- وبعضهم يفضل الحصول على خصل من شعره- تبقى تذكاراً جيداً للأهل، وتدخل العادات والمعتقدات في الكثير من هذه الأمور، وبمساندة العائلة والأصدقاء الذين يشاركونهم مشاعر الحزن فإن التشييع يمكن أن يساعد على بدء تفاعل الحزن ويمنح الأهل مكاناً خاصاً لزيارة طفلهم والحزن عليه.
إن الزوجين يبديان ارتياحاً شديداً نحو مشاركة الطبيب والممرضات حزنهما وتوحدهم العاطفي معهما، ويمضيان وقتاً في الاستماع إليهم وطمأنتهم حول المشاعر التي يشعران بها. ومن جهة أخرى فإن الأشخاص في المشفى الذين يبدون ملاحظات مثل: "أنت لا زلت شابة ويمكنك الحصول على طفل آخر" أو "يجب عليك أن تكون قوياً من أجل زوجتك".. أو يكونوا حادين في التعامل مع الأهل أو يظهرون تصنعاً في التعامل مع الحزن فإنهم سيجابهون لاحقاً بغضب الأهل. ويفسر هذا الغضب على أنه نوع من إلقاء اللوم على الأطباء بسبب موت الطفل، ولكن حقيقة الأمر أن الأهل يتوقعون من الطبيب المساعدة والتفهم أو العناية في هذا الموقف المخيف والمأساوي، وهذا الغضب من قبل الزوجين غالباً هو نتيجة لخيبة أملهما من عدم تحقق توقعاتهما. وهذا لا يعني أن على الطبيب تلبية جميع الحاجات في مثل هذه المواقف فهذا أمر غير منطقي ولا يمكن تنفيذه على أرض الواقع، ولكن يمكنه أخذ المبادرة عن طريق التثقيف والرعاية من قبل الكادر الطبي والتمريضي في المشفى. وفي الحقيقة، تلعب العائلة الكبيرة من أهل وأقارب وكذلك الأصدقاء والجوار دوراً إيجابياً على الغالب ليتجاوز الزوجان هذه المحنة.
تبــدد الأســى
إن المرحلة الأخيرة من تبدد الأسى هي إعادة التنظيم Reorganization فيبدأ التفكير بالمستقبل، وتعود الاهتمامات السابقة للظهور، وفي هذا الوقت يبدأ الزوجان بالتفكير بحمل آخر، ففقد الطفل يبقى في الذاكرة لكن الزمن يساعد على تخفيف الألم البدئي للأسى. وعندما يبدأ الزوجان بمناقشة حمل آخر فإن المختصين يرون ذلك دلالة على انتهاء تفاعل الحزن، والحصول على طفل تالٍ يساعد على تبديد الحزن لدى معظم العائلات، لكن البعض يجد نفسه فجأة مصاباً بالحزن وتذكر صور المأساة السابقة، وهذه المرحلة الأخيرة من إعادة التنظيم لا تأتي هكذا مباشرة وقد لا تحصل أبداً عند بعضهم..
وصف Peppers and Knap في كتابهما "الأمومة والحِداد" هذه التجربة وكأنها حزن يقبع في الظل Shadow Grief وهذا الحزن يظهر بألم مبهم دلالة على تجربة لم يمر بها الكثيرون، تجربة تترك ندبة لا تمحى. إن الأبوين يمكنهما الضحك والاستمتاع بالحياة ولكن هناك دائماً هذا الألم الثابت الذي يبرز إلى السطح أحياناً، خاصة مرتبطاً بأمور محددة كيوم ميلاد الطفل أو يوم موته أو سماع اسمه أو رؤية أطفال آخرين بنفس عمره. لقد وصفت إحدى الأمهات هذا الشعور بصورة مؤثرة: "مباشرة بعد موت الطفل نمرّ بجميع مراحل الفقدان ولكن نستطيع بعد فترة أن نعاود حياتنا الطبيعية، لكن الحزن لا يختفي بل يأتي على موجاتٍ وهنا علينا أن نعتاد على ذلك وهكذا بعد أن نعتقد أنك قد تحررت من تأثير الفقدان فإن الألم يخف لكن الذكرى تبقى. وبعد ست سنوات وقد أصبح عندي طفلين وهما الآن بحالة جيدة، رغم ذلك فإن ذكرى فقدان طفلي لا يمكن أن أنساها أبداًً".
المصدر: المجلة الإلكترونية للشبكة العربية للعلوم النفسية
ويتبع >>>>>>: السـنوات الأولى للطفولة
واقرأ أيضًا:
فهم الطفل والمراهق