في هذه السن التي نناقشها يحدث الصراع Conflict عندما تحدُّ الأم من رغبات الطفل أو حتى تمنع هذه الرغبات. وسوف يتعلم الطفل بالتدريج أن بعض سلوكياته لن تكون مقبولة من قبل الأم لذا سيتكون نوع من الخطر الكامن المحتمل الوقوع Potential Danger عند الطفل وهو الخوف من فقدان حب الأم ورعايتها والذي سيحل مكان الخوف الأساس في السنة الأولى وهو فقدان الأم نفسها، وهذين الخوفين مع بعضهما يكونان قلق الانفصال separation anxiety والطفل سيحاول أن يمنع وقوع هذه الأخطار. وهذه المحاولات هي النموذج الأول لما سيسمى في المستقبل بآليات الدفاع وهي الطرق التي تحاول بها الأنا التعامل مع الرغبات التي إذا نُفذت فربما أدت إلى خطر كامن.
ولنأخذ مثال على ذلك: التمرين المرحاضي فبعض الأطفال يعرفون أن عليهم القيام بحركات الأمعاء في المرحاض لأن أمهم أخبرتهم بذلك عدة مرات لكن إذا حصلت معهم حركات الأمعاء في المطبخ فالذي سيتصرفونه هو التوجه مع نتاج حركات أمعائهم في البنطال إلى الحمام وسوف يجلسون على المرحاض وكأنهم يقولون أن ما فعلناه بالمطبخ يجب أن لا يُحسب فإني الآن أفعل ما تريدين مني أن أفعله، أي يحاولون إنهاء شيء حصل وربما أدى لخطر كامن هو فقدان حب الأم، وبعض الأطفال يحاولون التخلص من الخطر الكامن بآلية أخرى فمثلاً تدخل الأم المطبخ ونقول: ما هذه الرائحة فالطفل سينظر حوله وينظر إلى لعبة أو أي شيء ما تحت الطاولة مثلاً ويقول: ليس أنا وكأنه يحاول أن يعزل أو يخلص نفسه من هذا الشيء الذي قد يؤدي لخطر كامل، والبعض من الأطفال ربما يتصرفون بتنفيذ كامل لما طلبته الأم أي عندما تطلب منهم أن يكونوا نظيفين سيصبحون مدققين في نظافتهم- في منتهى النظافة-، فهم هنا يتخلّون تماماً عن رغبة الطفل الطبيعية في أن يكون نوعاً ما فوضوياً، وقد نرى طفلاً من هذا النوع ينزعج بشدة إذا شاهد بقعة وسخة على ثيابه، فهم يريدون أن يكونوا في منتهى النظافة كل الوقت ويفقدون ما هو طبيعي عند الطفل من رغبة في الاتساخ والعبث والفوضى في هذا السن.
إنّ جميع هذه السلوكيات طبيعية عند الأطفال؛ فالطفل في البدء لا يرى من داع لإفراغ أمعائه في المرحاض إذ لا يوجد لديه كراهية من البراز أو رائحته ولا يوجد أفضلية لديه إذا استعمل المرحاض لكنه سيتعلم أن ذلك مفضل بالنسبة للأم وبالتالي فعليه تغيير سلوكه، وهذا التقبل التدريجي لتغيير السلوك يمتد عدة أشهر وسيصبح بعد ذلك بمثابة الذاتية بالنسبة للطفل فمثلاً في الطفولة المتأخرة والبلوغ يكون الأشخاص نظيفون بسبب الرغبة الشخصية بالنظافة وليس لأنهم يريدون إسعاد أمهم.
يعاني بعض الأطفال وبعض الراشدين في مجتمعنا وهم ليسوا قلة من مشاكل تنشأ من هذا الصراع وتؤدي لاضطرابات في تطور الشخصية، وسوف أشير من الآن إلى أن الموضوع الأساس هو الانفصال وتكوين فردية مستقلة، فالطفل يعارض السيطرة الخارجية إذا كانت شديدة وعندما تهدد هذه السيطرة إخضاع الطفل مما يعني فقدانه التقدير الذاتي والاستقلال فهو سيصبح متمرداً وعنيداً ويمكنه أن يكوّن بعض الصفات التي ستستمر طوال حياته، فمثلاً البالغون في مجتمعنا يجب أن يكون لديهم قدرة على المثابرة (Tenacity) فإذا أُعطوا عملاً لإنجازه يجب عليهم إتمامه لكن هناك من لا يستطيع ذلك فبدلاً من استطاعته إنجاز العمل سيصبح مشاكساً وعنيداً فهو مثل الطفل يقول لا لكل شيء وهو يكون شخصية تعتمد على المقاومة ورفض كل ما يطلب منه ومن الواضح أن هذه الشخصية ليست متأقلمة مع المحيط، وصفة أخرى للذي عانى من اضطرابات في هذه المرحلة هي عدم القدرة على اتخاذ قرار إذ لا يستطيع اتخاذ قرار في أي مجال من حياته فهو مثل الطفل الذي يصاب بالإمساك لأنه لا يعرف متى يجب أن يذهب للمرحاض ولا يعرف كيفية استعماله وبالتالي فهو يَعلق Stuck في هذه النقطة من التطور وهناك عدد من الراشدين والكهول الذين توقفوا عن التطور بنفس الطريقة.
مما ذكرت يمكننا فهم كيف أن معظم حالات الخلل النفسي واضطرابات الشخصية مرتبطة بهذه الفترة من تطور حياة الطفل ويبدو ذلك جلياً بشكل خاص في الاضطرابات الوسواسية القهرية Obsessvie Compulsive Disorders .
بقي أن أقول أن الطفل يحتاج لوقت كاف ليشعر بالثقة وبالتالي لتقبل بعض التحديد في استقلاله، مع العلم أن بعض الأطفال لا يستطيع إجراء تدريب مرحاضي في هذه السنة لأنه لا يكون هنا واثقاً من ذاتيته Autonomy واستقلاله، وفي هذه الحال وكما ذكرت سابقاً فمن الأفضل تأجيل التدريب حتى يكتسب الطفل ثقته بنفسه وبذلك لا يحدث صراع بين استقلاله وبين هذا التحديد من قبل الأم، وهكذا ستكون النتيجة تعزيز الإحساس بالذاتية عند الطفل بدلاً من إحساسه بالخجل والشك.
السنة الثالثة من الحياة
يحقق الطفل خلال هذه السنة تعزيزاً إضافياً في "الأنا" وإحساساً متزايداً بفرديته، ويزداد الاتصال اللفظي (الكلامي) بسرعة، كما سيزداد استعمال الكلمات والمفاهيم المجردة، ويبدأ اللعب (play). وهذه الأمور تساعده في التمكن من تجربة وممارسة أدوار عديدة والتعبير عن مدى اتساع الخيال لديه.
وهناك قدرة إضافية على تحمل الإحباط والبقاء منفصلاً عن الأهل لفترة أطول، فعالم الطفل يتسع ويصبح رفاقه في اللعب والأعضاء الآخرين في الأسرة لهم أهمية متزايدة. وفي نهاية هذه السنة سيكوِّن الطفل صورة أكثر ثباتاً عن نفسه، والتصوّر الداخلي Inner Representation للأم والأب أكثر استقراراً. إن التمثّل مع الأهل ومع الأشخاص الآخرين يستمر كما يوجد استدخال متزايد للمواقف الاجتماعية مع بدء تشكل الأنا العليا. وتكون السيطرة على التبول والتغوط قد تمت. وفي النصف الثاني من هذه السنة يبدي الطفل اهتماماً متزايداً للفروق الجنسية، وتبدأ استجابة لهذه الاختلافات بالظهور وسأشرح ذلك فيما يلي بالتفصيل.
تطور الكلام والمفاهيم والحركة
تتطور القدرات الكلامية بسرعة خلال هذه الفترة إذ يهتم الطفل هنا يتعلم أسماء جميع الأشياء المحيطة به، ويسأل ما هذا؟ وما اسمه؟ كما يستعمل جملاً أكثر تكاملاً مكونة من فعل وفاعل ومفعول به، ويبدأ الطفل بإدراك وفهم الأرقام التي هي مفاهيم مجردة ويعني الوقت الآن شيئاً بالنسبة للطفل فكلمات: لاحقاً، قريباً يمكن أن تدرك من قبله وهذا يحدث بسبب زيادة قدرته على التأخير بالإضافة لتطور الاستعراف عنده. وكذلك يبدأ استعمال الضمائر وهو شيء لم يكن ممكناً سابقاً وبذلك يميّز بين نفسه والآخرين وأيضاً يميّز بين الآخرين أنفسهم.
ومن الهام بالنسبة للطفل في هذا السن أن يكون قادراً على تصنيف الناس إلى فئات مختلفة ويصبح في هذه السنة من العمر مهتم بشدة بهويته الخاصة Their Own Identification وكل صفة تنتمي له يتمسك بها بشدة فتلك الأمور مثل اسم الطفل أو لون عينيه هي التي تشعره بفرديته.
ومن السهولة إغاظة الطفل في هذه السنة إذا تلاعبنا بهذه الصفات، فإذا لعب البالغ مع الطفل هذه اللعبة قائلاً له: أنت لست أحمد بل أنا أحمد هنا سيصبح الطفل قلقاً ويصرُّ على أنّه هو أحمد وتلك اللعبة مزعجة جداً بالنسبة للطفل لأن الصفة التي لا ننسبها له هي جزء أساس من إحساسه بهويته، وإذا قلنا لفتاة صغيرة: أنتِ لست فتاة بل أنتِ صبي أو العكس فسنرى أن الطفل يصبح عنيفاً فهويته هامة ويشعر بالتهديد الشديد إذا لعبنا بتلك الهوية، والهوية التجنسية من حيث كونه ذكر أو أنثى هو جزء أساسي من الذات self .
كما يهتم الطفل في السنة الثالثة بالقياسات ويقارن كل شيء وفقاً لهذا المفهوم كما يهتم بشدة بمعرفة من هو أطول ومن أقصر، كما يحب أن تأخذ الأم طوله وتضع إشارة على الحائط لمعرفة درجة نموه وهذه الطريقة جديدة للتصنيف. وهكذا أصبح لدينا الآن صبي بشعر أشقر أو أسود، أكبر أو أصغر. لقد اهتم Piaget بذلك ودعا تفكير الطفل في هذه المرحلة بما قبل الإجرائية Preoperational ، وسوف أناقش ذلك بالتفصيل في تطور الاستعراف لاحقاً، وبالأساس فالطفل في هذا العمر يتأثر بما هو مرئي وملموس ولا يستطيع إصدار حكم عن طريق العلاقة بين الأشياء. فمثلاً بيّن Piaget أن الطفل يكون لديه فكرة محددة عما هو أكثر أو أقل More or Iess فإذا أعطيناه أنبوباً طويلاً ولكن رفيعاً جداً وآخر قصيراً ذو قطر واسع وسألناه أيهما حجمه أكثر ثم سألناه أيهما أثقل، فان الطفل سيجيب أن الأنبوب الطويل هو ذو الحجم الأكبر وهو الأثقل إذ ليس لديه إلا فكرة أن الأطول تعني الأكثر.
يزداد التطور الحركي في سن الثالثة، فعندما كان في الثانية لم يستطيع الركض وتغيير الاتجاه في نفس الوقت، وإذا حاول ذلك سيفشل ويصطدم بأشياء تقع في طريقه، أما في هذه السن فيكتسب رشاقة أكبر في تغيير الاتجاه وهو لا يتسلق السلم فقط بل يصعد ويهبط بسهولة.
إن تناسق الحركات الدقيقة عنده يكون أكثر تطوراً أيضاًن فإذا أعطينا الطفل قلم تلوين وطلبنا منه تلوين دائرة معينة عندما كان في عمر سنتين ونصف لن يلون الدائرة فقط بل جزءاً كبيراً من خارجها وهو غير قادر على إبقاء القلم في منطقة محددة، ولكن في سن الثالثة سيحقق ذلك بدقة أكبر ونفس التناسق ينشأ في عضلات العين، فالطفل في هذه السن يكون قادراً على تمييز الفروق بين الأشياء بوضوح.
والشيء البارز في التطور الحركي هو الحيوية المستمرة عند الطفل فجميع الحركات الجديدة للجسم يجب أن يتمرن عليها ويتقنها فهو يركض ويرقص ويتأرجح بحيوية بالغة طيلة النهار ويظهر متعة فائقة في التدريب والسيطرة على هذه الحركات.
اللعب والتطبع الاجتماعي والخيال
إن اللعب عند الطفل في سن الثالثة يبعث النشاط وينمّي حياة الطفل الخيالية ودرجة الوعي الاجتماعي Social Awareness وهذه العملية تستمر عدة سنوات، بمعنى أنها تبدأ عندما يبدأ الطفل بتمييز أمه على أنها شيئاً مختلفاً عنه. وفي سن الثالثة ومع تزايد إحساس الطفل بنفسه فهو يتقبّل وجود أطفال آخرين يتعاونون معهم وعندما نرى طفلاً في سن الثانية يلعب فإنه يكون مستغرقاً فيما يخصه، ففي سن الثانية يحبون اللعب كما يحبون حمل الدمى ويتحملون وجود أطفال آخرين بدرجات مختلفة ولفترات مختلفة، لكن لا يوجد لعب مشترك بينهم يسمى اللعب المتوازي parallei play لأن الأطفال يجلسون بجانب بعضهم وكل منهم يمارس لعبته الخاصة به ولا يتدخل أحدهم باللعب مع الآخر أما في سن الثالثة فاللعب المشترك joint play يبدأ بالتطور حيث نشاهد مجموعة أطفال- اثنين وحتى ثلاثة- يتشاركون في لعبة ما. وفي البدء التشارك في اللعب لا يكون بأعداد كبيرة ولا يستغرق فترة طويلة من الزمن إلا أن ذلك يكون بداية اللعب المشترك.
ومع بداية هذا السلوك الاجتماعي تزداد حياة الطفل خيالاً وتتطور قدرة الطفل اللغوية وقدرته على فهم واستعمال المفاهيم المجردة، فهو يستمتع باستعمال هذه القدرات إذ يتخيل ويبني أشياء في خياله ويفعل في هذا الخيال ما لا يستطيع فعله في الواقع وهذا يجعل جهازه العقلي أكثر إمتاعاً لكنه قد يخلق له بعض المشاكل. فهو في هذه السن يجتاز الخط الفاصل بين الخيال والواقع، أي إذا تخيل أنّه (سوبر مان أو جرانديزر أو نينجا)، وتخيّل أنه يستطيع الطيران نرى أنه يطبق ذلك على أرض الواقع فإذا كان حَسَنَ الحظ فسيقع من علو الطاولة أو الكنبة ولكننا نسمع بقصص مأساوية عن أطفال قفزوا من أماكن أعلى بكثير لأن خيالهم حملهم إلى تجريب ذلك وهم في هذه السن لا يستطيعون معرفة حدود الواقع.
والمشكلة الثانية في تطور الخيال في هذه المرحلة والتي يجد الأهل صعوبة كبيرة في التعامل معها هي أن الطفل في عمر 3.5 -1.5سنة يكذب بشكل مخيف، إذ يختلق الأطفال قصصاً عن أشياء شاهدوها أو أماكن ذهبوا إليها، ولكن لماذا يكون الطفل على هذه الشاكلة؟. معظم القصص التي يبتدعها الأطفال هي شفافة أي نستطيع معرفة اختلاقها بسهولة، لكن المشكلة هي اعتقاد الطفل أن والديه يعلمان كل شيء وهما يعرفان ما يفكر به لكنه ليس أكيداً من ذلك بشكل مطلق، فيختلق تلك القصص ويخبر الأهل بها ليعرف إذا كانا يعرفان اختلاقه هذه القصص. وإذا لم ينتبه الأهل أن ما يفعله الطفل هو التمرن على جانب هام من شخصيته وهي الخيال والإبداع فهم سيعتبرون الأمر كذباً وربما يواجه الطفل بعقاب شديد لسلوكه ذاك، وهنا يجب تطمين الأهل أن هذا الأمر لا يحتاج لقلق، وجميع الأطفال يفعلون ذلك، ويمكنهم ألا يتظاهروا بتصديق القصص التي يسمعونها إنما يداعبون الطفل ويمازحونه بشأن تلك القصص الخيالية. إن قسم من الأهل يخافون على أطفالهم نحو هذا السلوك الخيالي فهم يخشون أن يصبحوا كاذبين مدمنين لا سيما أن زيادة الخيال عند بعض الأطفال تأخذ شكلاً معيناً فالطفل الحساس بشأن انتقاده من قبل أهله سيكون شريكاً خيالياً له، وهذا الشريك هو الذي يفعل كل الأشياء السيئة فعندما يكسر الطفل شيئاً ما أو يقوم بعمل سيء يكون جوجو هو الفاعل وجوجو يوجد فقط في خياله وهي صورة لشخص يسقط عليه الطفل جميع الأشياء السيئة التي قام بها.
ثبات صورة الموضوع والذات
خلال معظم السنة الثالثة من العمر يكون الطفل في حالة صراع مع فكرة الجيد وفكرة السيئ، إن السلوك والأفكار التي توافق عليها الأم (أي الجيدة) تكوّن عند الطفل جزءاً من تصور ذاته self representation وهي صورة إيجابية عن نفسه أما الأمور السيئة فلا ينسبها الطفل إلى نفسه بل يضعها خارج نفسه كما هي في جوجو الخيالي! إن دمج الطفل لهاتين الصورتين ومعرفة أنهما تمثلان شخصية واحدة يستغرق وقتاً.
وبصورة مماثلة ينظر الطفل لأمه على أنها شخصية الأم الجيدة والأم السيئة فالأولى هي التي تعتني به وتشبع حاجاته بينما السيئة هي التي تمنعه من فعل ما يرغب به والتي تغضب وتتخلى عنه. فالطفل في السنة الثالثة غالباً ما يدمج هذه الصورة المختلفة في تصور واحد للموضوع. وحين تبدأ الأم بتحديد فعالية الطفل يكوّن عندئذ عنها فكرة الأم السيئة ولكن عندما تكون الأم حاضرة فغضب الطفل على أمه لا يظهر حالياً بسبب وجوده مع أمه الجيدة، وربما أسقط صورة الأم السلبية على أنها ليست أمه وإنما أم جوجو، إنّ الطفل يغضب من لعبة ما لأنه يسقط صورة الأم السلبية على هذه اللعبة. وهكذا عندما تكون الأم غائبة فذلك يؤدي لظهور صورة الأم السلبية عند الطفل بسبب غيابها عنه وبالتالي غياب صورة الأم الجيدة ومع عودتها تعود الصورة الإيجابية، فهو إذاً غير قادر على الاحتفاظ بالصورتين معاً. مثلاً: إذا غاب الأهل عن المنزل في رحلة قصيرة فحين عودتهم يتوقعون استقبالاً دافئاً من الطفل لكن طفلهم يمكن أن يهملهم لفترة قصيرة من الزمن بسبب أن الطفل غاضب ويحتفظ بالصورة السلبية بسبب تخلي الأهل عنه هذه الفترة. ولكنه طبعاً بعد فترة سيستعيد الصورة الإيجابية ويرحب بقدومهم وكأنه يقول لهم: "لقد تركتموني وجاء دوري الآن لأترككم".
يستغرق الطفل وقتاً ليحتفظ بصورة أمه أو في ذهنه حين غيابها. ونحن نعلم أن الطفل يمكن أن يتذكر لعبة إذا أخفيت عنه وهو سيبحث عنها لكن الأمر مختلف هنا فهو لا يشعر نحو اللعبة بما يشعر به نحو الأهل. إن الطفل بين سن الثانية والثالثة يصبح قادراً على الاحتفاظ بصورة ثابتة عن أهله حين غيابهم ويتحمل هذا الغياب بصورة بعيدة. ووفق مصطلح Piaget يكون الطفل قد اكتسب الذاكرة المحرضة Evosative Memory ونحن نسمي ذلك ثبات الموضوع Object constancy وهذا الإنجاز هو شيء هام في سياق التطور لأنه يعني اتحاد الصورة الجيدة والسيئة معاً وهو شيء أساسي في تحقيق علاقات مناسبة مع المواضيع. وثبات الموضوع يعتمد على التوازن بين الإجهاد والإحباط المحمول وغياب الأهل من جهة وبين تحقيق وجود كاف للأم وتحقيق الإشباع والمتعة من قِبَلها من جهة أخرى.
الهوية الجنسية
إن توسع حياة الطفل الخيالية في السنة الثالثة تقوده أن يلعب بنماذج مصغرة عن أشياء كبيرة مثل لعبة على شكل بيت أهله أو سيارتهم أو مسدس مصغر. ومن خلال هذا النوع من اللعب يشعر الطفل بالارتياح وذلك لظنه الخيالي بأنه قادر على السيطرة على الأمور الكبيرة. وفي الحياة يحسد الطفل أبيه لقدرته على قيادة سيارة العائلة وهنا يقوم الطفل بقيادة سيارة مصغرة في الغرفة محاولاً أن يشير إلى أنه يفوق أبيه مهارة في القيادة. والطفل الذكر يلعب بأشياء تختلف عن ألعاب الفتاة، وبشكل تقليدي فهو يلعب بسيارة أو بمسدس بينما تلعب الفتاة بدمية أو بحذاء ذو كعب عالٍ.
وفي هذا الصدد من الممكن القول أن الطفل يختار أن يلعب دور الأب إذا كان ذكراً والفتاة تختار أن تلعب دور الأم وذلك لتعزيز الهوية التجنسية الخاصة سواء ذكراً أو أنثى. تلك العملية تبدأ بصورة مبكرة وتستمر مدى الطفولة فإذا كانت الأم طبيبة تميل الفتاة لتمثيل دور الطبيبة والشيء الهام هو قدرة الطفل على تمثل بقية الأشخاص من نفس جنسه وبذلك يستطيع الطفل تحديد جنسه في السنة الثالثة ويشعر بهويته. وعلى الرغم من أن الطفل في تفكيره الخيالي يمكن أن يحوي مزيجاً من الذكورة والأنوثة إلا أنّه في الواقع يشعر ويحمي هويته التجنسية التي ينتمي إليها.
لقد قلت أن شعور الطفل بهوية تجنسية معينة ليس له علاقة بمعرفته بالفروق التشريحية، إن الطفل لا يحب أن يتحدث بصراحة عن الطريقة التي يستطيع بها التمييز بين الذكر والأنثى وذلك قد يعود لأنه لا يحب الإدلاء بكل المعلومات التي يعرفها في هذا المجال ربما لأنها ترتبط بالقلق.
وتجنب هذا الموضوع من قبل الأهل يؤدي إلى وقوع الطفل في غموض، فنحن نؤدي لحدوث هذا الغموض في هذا الموضوع عند الطفل بسبب الصراع في داخلنا حول الأمور الجنسية، فمثلاً لا أحد يفكر بأن يخبر الطفل عن عينيه بقوله هذا شيء للرؤية وعن أنفه هذا شيء للشم لكن عندما يأتي الوقت لتحديد الأعضاء الجنسية فإننا نجد معظم الأشخاص يستعملون نوعاً من التجنب في تحديد هذه الأعضاء من حيث أن الأهل يسمون الأعضاء الجنسية عند الطفل بالوظيفة التي تقوم بها عوضاً عن الاسم الحقيقي للأعضاء.
فبعضهم يشعر بعدم الارتياح لإخبار هذه الأشياء بوضوح لأطفالهم كما يصابون بالقلق إذا استعمل الطفل هذه التعابير الصحيحة عن الأعضاء التناسلية، فمثل هذا الارتباك والقلق لا مبرر له فالطفل قادر على التعلم واستعمال التعابير المناسبة.
إن الطبيب الشاب يمكن أن يفاجأ بكون جزء من مرضاه البالغين لا يعرفون أسماء أعضائهم التناسلية حتى أن بعضهم لديه غموض شديد لتشريح الناحية التناسلية، وفي هذا المجال يوجد فروق بين الذكور والإناث، حيث أن الإناث هم أكثر غموضاً والتباساً بمعرفة أعضائهن التناسلية من الذكور ربما لأن رؤيتها أصعب. فمثلاً قد تجد المرأة صعوبة في تحديد ما تشعر به فإذا شعرت بألم لا تعرف تماماً هل هو في الأعضاء التناسلية أو في الحوض، وإذا سألناها عما يزعجها فقد تقول: أنه في الأسفل وربما كانت تعني بذلك منطقة تمتد من السرة وحتى الركبة ربما لأن الإحساس نفسه غير محدد وغير دقيق. إن الغموض التشريحي يتضح من استعمال وصف غامض وربما عنت المرأة بألم في المعدة! ألماً ناشئاً عن تقلصات الدورة الشهرية أو تعتقد أن الطفل يوجد في المعدة بدل الرحم، فهن مصابات بغموض في معرفة التشريح، ومن المهم أن نتذكر هنا كون الذكر لديه صعوبة في معرفة بنية الأعضاء التناسلية للأنثى لأسباب أخرى مختلفة تماماً.
لنعود الآن لمثالنا عن التمرين المرحاضي لنفهم طبيعة الغموض في هذه المواضيع؛ إن التمرين المرحاضي يجلب انتباه الطفل إلى المنطقة الشرجية التناسلية الإحليلية Anal Genital – urethriel area وقيام الأم بتنظيف الطفل في هذه المناطق تنتج إحساساً مريحاً عنده ويبدأ الطفل عندها باكتشاف هذه المناطق عن طريق اللمس والبصر وهنا يجد الذكر سهولة في اكتشاف تلك المناطق نسبة للفتاة لأن أعضاءه خارجية ترى وتلمس بسهولة وهو يميز بين عمل التبويل وعمل التغوط وكذلك الشعور بنوع من الراحة وربما المتعة بلمس أعضائه التناسلية، بينما الفتاة تمرّ بتجربة مختلفة فهي ترى بصعوبة أعضاءها التناسلية، كما أنها اقل تحسساً لها من الذكور.
إن اتخاذ الفتاة نفس وضع التبويل والتغوط يسهل في زيادة الغموض عندها، فمن الشائع أن نجد فتاة تعتقد أن هناك فتحة واحدة للعمل المستقيمي والإحليلي والمهبل! أيضاً فالاسم المستعمل من قبل الأهل قد يساعد على زيادة الغموض فالفتاة الصغيرة قد تخبر؟ أنها تملك مهبلاً لكن هذا المصطلح يستخدم بشكل واسع لوصف الناحية التناسلية الخارجية والأشفار والبظر كما يشمل الإحليل والمهبل. إن نقص الدقة في تسمية الأجزاء المختلفة لا يؤدي فقط لغموض في معرفة الفتاة لتشريحها بل ربما أدى لإحساسها لنوع من القذارة نحو الرائحة التي تصدر منها وهذه الإحساسات في الحقيقة تعود إلى المنطقة الشرجية أو البولية، وقد يحدث هذا أحياناً لدى الذكور إلا أنه أكثر حدوثاً عند الفتيات.
إن تلك الفروق الشرجية والبيولوجية هي فقط عنصر واحد في التفريق بين الجنسين. وفي السنوات الأخيرة طرح نقاش طويل بين الخبراء وعلماء النفس حول هذا الموضوع، فهناك وجهة نظر لأغلب العلماء ترى أنّ الهوية التجنسية يحددها التشريح والذي يحدد كل شيء Anatomy is desting، وهناك البعض الذي أخذ يدافع عن وجهة نظر أخرى معاكسة تقول أن المحيط هو الذي يحدد الهوية التجنسية.. وهذا مجال بحث فائق التخصص لست في مجال التوسع في شرحه، ولكن أكتفي هنا بالقول أن هناك شيئاً يقال عن كل وجهة نظر فكلتا الوجهتين ليست صحيحة بشكل مطلق، فنحن نعرف أن تحديد الهوية التجنسية يبدأ بالانتقال المورثي بحيث إما أن يملك الشخص مورثة x أو مورثة y كما أن بعض المخابر تزودنا بأدلة تقول أن الهرمون الجنسي المفرز في الحياة الجنينية سيؤثر على السلوك الجنسي في الحياة. وفي نفس الوقت يوجد دور مؤثر بشدة للعوامل المحيطية؛ إذ دلّت الأبحاث في السنوات الأخيرة أن تلك العوامل يمكن أن تؤثر بشكل كبير وتطغى على الأمور البيولوجية في بعض الأحيان، أي أن الأطفال يحددون دورهم الجنسي sexual roles حسب الطريقة التي تمت تربيتهم بها حتى لو كان الأمر يعاكس المورثات.
ورغم أن كافة الأبحاث في هذا الميدان لم تستطع حسم هذا الأمر حتى الآن، ورغم عدم الدقة العلمية والموضوعية للكثير من هذه الدراسات فالملفت للنظر أن هذه النظريات طغت على توجه السلوك الجنسي في العالم الغربي وجعلت من الهوية التجنسية أرجوحة غير واضحة المعالم ومبرر يتمنطق به الكثيرون كي يعبثوا بالسلوك الجنسي الإنساني وفق أهوائهم ورغباتهم، ويبررون من خلاله حالة الانحراف والشذوذ التي يعيشونها. وسأتحدث عن هذا الموضوع بالتفصيل في كتابي فكرة وجيزة عن الجنس عند الإنسان (تحت الطبع).
لقد ذكرت سابقاً أن الأهل يختلفون في معاملتهم للصبي عن البنت وفي هذا العمل نزرع في الطفل مجموعة من القيم المعمول بها سواء في المجتمع أو العائلة، وهذه القيم هي التي ستحدد للطفل ماذا يعني كونه صبياً أو كونها فتاة في وسط البيئة التي يعيشان فيها.
ومن هنا نرى أن كثيراً من القيم التي لا علاقة لها فعلياً بالأنوثة أو الذكورة تتدخل إذ نقول أشياء للصبي من قبيل: لا تفعل ذلك إن هذا الشيء يدل على التخنث فمثلاً إذا رغب الطفل في لعب دور الأم وكان له أهل يخشون أن مثل ذلك السلوك يجب ألا يتصرفه الصبي فهم لا يشجعونه على هذا السلوك ويمنعونه، وكذلك إذا رغبت الفتاة في لعب كرة القدم فقد يرى الأهل أن مثل هذا السلوك هو تصرف صبياني فهم لن يشجعونها وسيمنعونها. ومثل هذه القواعد توجد في كل المجتمعات وليس فقط في مجتمعنا وهذا ما يبرر الاعتقاد أن بذورها تمتد عميقاً في التاريخ.
والمفارقة أن السلوك المؤنث عند الصبي يكون مرفوضاً بشدة أكثر بكثير من السلوك الصبياني عند الفتاة! فنحن لا ننزعج بشدة إذا كانت الفتاة تلعب وتقلد صبي فإذا حاولت تسلق شجرة أو لعب كرة القدم ربما اعتبر ذلك فكاهة، أما إذا رغب صبي في نفس العمر أن يلعب بالدمى فإن والديه والمجتمع كله سيثور ضده، ولا يوجود تفسير دقيق لرفض الرجل كل ما هو أنثوي بداخله وعمله على الإقلال من شأن المرأة الخاصة، ولماذا تقبل المرأة بذلك رغم وعيها ونفورها من هذا الواقع. وفي حقيقة الأمر إن الجواب على هذه الأمور معقد والكثير الكثير منها لا يزال مجهولاً، وسأحاول الإجابة على بعض هذه الأسئلة لاحقاً.
المصدر: المجلة الإلكترونية للشبكة العربية للعلوم النفسية
ويتبع >>>>>>: السنوات الوسطى من الطفولة
واقرأ أيضًا:
فهم الطفل والمراهق