ثقيلة؛ حقائب الأطفال في فلسطين ثقيلة؛ وضعت "جنين" حقيبتها قرب سريرها؛ وجلست تستريح قليلاً، بدّلت ملابسها وتوجهت نحو المطبخ تُساعد في إعداد طعام الغداء؛ والدتها تعمل خارج المنزل منذ تدهورت الحالة الاقتصادية بسبب الإغلاقات الصهيونية للمناطق الفلسطينية وتراكم الديون على والدها؛ وتعاون العائلة ضروري في أعمال البيت، وبالأخص "جنين" البنت الكبرى لوالديها بالرغم من أنها لم تُنهِ بعد الثلاثة عشر ربيعاً.
عادت "جنين" بعد الغداء إلى حقيبتها، أعدت نفسها ليوم دراسي آخر ثم أخرجت الورقة..
جدائلها الشقراء الطويلة وجمال طلتها كانت تزيدها تميزاً وهي تشارك في النشاطات المتنوعة في مدرستها؛ أغلب من تعامل معها اعتبرها طفلة "كاملة الأوصاف" فهي مجتهدة متفوقة مبدعة ذكية جميلة وخلوقة، ولذا لم تتردد مديرة المدرسة في اختيارها كممثلة عن المدرسة للمشاركة في احتفال كبير خُصص لاستقبال وفد أمريكي هام وعلى أعلى مستوى قدِم إلى المنطقة للإعداد لمؤتمر سلام "تاريخي". مديرة المدرسة وفور وصول كتاب رسمي من وزارة التربية والتعليم لاختيار طفلة من المدرسة لتُلقي كلمة "جاهزة" باسم أطفال فلسطين أمام الوفد الأمريكي؛ قامت باستدعاء "جنين". تركت "جنين" غرفة صفها وتوجهت لمكتب المديرة؛ سلّمت المديرة الطفلة "جنين" الورقة التي كُتب عليها كلمة جاهزة باسم أطفال فلسطين وطلبت من "جنين" قراءتها لتتأكد المديرة من براعة الطفلة في الإلقاء ولفظ الكلمات بالإعراب الصحيح؛ سُرَّت مديرة المدرسة للغاية من أسلوب الإلقاء المميز للطفلة وأذِنت لها بالعودة إلى درس الرياضيات، عادت "جنين" إلى دروسها وانشغلت بها..
الآن أنهت الاستعداد لامتحان الغد في الرياضيات وفي يدها الورقة؛ تأملتها وبدأت تفكر بها.. قرأت الكلمة من جديد:
" التاريخ: ............
الرئيس جورج بوش
الولايات المتحدة الأمريكية
البيت الأبيض
السيد الرئيس؛
نحن أطفال فلسطين نشكركم على اهتمامكم بحقوقنا .................................
قرأت "جنين" الورقة حتى الدعاء بأن يحفظ الله الرئيس (بوش) الذي سينتهي على يديه آخر احتلال في العالم.....
"جنين" كأنما تقرأ الورقة لأول مرة؛ صمت انتابها حتى غادرها صوت أنفاسها، قرأتها في المدرسة؛ نعم؛ لكن انشغالها بدروسها لم يترك لها مساحة من الوقت لتفكر بما قرأت على عجل في غرفة الإدارة.. الورقة الآن بين يديها وأمامها جدار مازال التصدع ظاهر في شقوقه؛ هنا ضربت قذيفة مدفعية بيتهم فترة اجتياح المخيم؛ محظوظة هي وأخويها الصغيرين إذ لم تخترق القذيفة جدارهم كجدران أخرى انهارت فوق أطفال وأمهات، الولايات المتحدة الأمريكيّة رفضت إدانة (إسرائيل) على قتلها الأبرياء.. صغيرة هي؛ نعم؛ لكنها تابعت تلك القرارات التي هزت وجدان الكبير والصغير في المخيم، حتى الإدانة الظاهرية لم يوافق عليها الرئيس "المحفوظ" في الورقة..
التجأت "جنين" إلى فراشها؛ ليل طويل بارد مليء بالذكريات..... ـ صراخ عالٍ ونداء وهزات قوية على جسدها الصغير ـ استيقظي صغيرتي بسرعة أرجوك حبيبتي بسرعة ..
استيقظت "جنين" فزعة: بابا ماذا .. لماذا.. بابا ..
بسرعة حبيبتي وإلا داسوك بأقدامهم.. كانت "جنين" تلك الليلة تبلغ ست سنوات وما تزال تذكر والدها وهو مرتبك مفزوع يحملها بين ذراعية وهو يتمتم بالبسملة على رأسها وأمها تحمل أخاها الوليد ويركضان بهما خارج بيتهم وسط البرد والظلام الدامس؛ الجنود يقتحمون البيت يُدمرون أثاثه يُبعثرون البقايا في كل مكان.. "جنين" تصرخ وتنادي عمها.. عمو .. عمو .. تحرك يديها باتجاهه تحاول الإفلات من ذراعي والدها نحو عمها الشاب الصغير؛ دوماً يُداعبها ويحملها خارج البيت في جولاته خارج البيت .. عمو .. دم .. عمو ..دم.. العم مكبل اليدين والدماء تسيل من جبهته وتُغطي الجهة اليمنى من وجهه وجنديان يوسعانه مزيداً من الضرب في دورية الاحتلال .. عمو .. سبع سنوات مرت.. وعدد المرات التي رأت فيها "جنين" عمها محدودة، تحصل على إذن من مدرستها وتذهب منذ الفجر بصحبة جدتها إلى المعتقل البعيد كي تراه خلف القضبان، تسمعهم يقولون أن يدي عمها ملطخة بالدماء ولذا لا أمل بالإفراج عنه .. يأخذها العجب من هذه الأقوال .. فقد شهدت يديهم ملطخة بدمه.....
تقلبت "جنين" في فراشها واستيقظت أكثر من مرّة، والجدار المتصدع ماثل أمامها في كل مرّة.. وقفت "جنين" وقالت: مديرتي الفاضلة هل تسمحي لي أن أقول رأيي في الورقة؟
المديرة: نعم صغيرتي.. أنت محقة .. غير أني أريد أن تُمثلي المدرسة في هذا المؤتمر الهام، إنه مهم لنا أن تُذكر مدرستنا كمدرسة مشاركة على هذا المستوى الكبير..
"جنين": ولكن هل يمكنني أن أقول كلمتي؟؟
المديرة: لا صغيرتي لا يُمكنك تغيير حرف واحد.. ـ وبعد إصرار الطفلة قالت مديرتها ـ لكن اليوم يأتي المسئول الكبير لاصطحاب الأطفال المشاركين فأخبريه بما تريدين ..
ألقت "جنين" الكلمة أمام المسئول في غرفة المديرة، أُعجب المسئول بإلقائها وقرر أنها الطفلة المطلوبة ولا أحد غيرها يفي بالغرض..
"جنين": لكن هل تسمح لي أن أخبرك ببعض الملاحظات؟؟
المسئول ـ وقد أربكه جرأة الطفلة وفصاحتها في الخطاب ـ: أنت محقة .. ولكن .. نحن علينا أن نعيش الواقع نحن ضعفاء وعلينا استدرار عطف الآخرين.. نحن ضعفاء وهذا الواقع.. هذه سياسة .... هذا الواقع ...
"جنين" وقد أدهشها أسلوب المسئول في الإجابة وأثار غضبها بل وجعلها تصر على عنادها وموقفها من الورقة ..
المسئول يوجه خطابه للمديرة: غيري هذه الطفلة؛ ابحثي عن أخرى..
المديرة ـ وقد أثارها ضعف حجة المسئول ـ: لن أغير الطفلة.. هي من ستلقي الكلمة.. لن أختار غيرها؛ ثم حاولت المديرة إقناع الطفلة بالنقاش هناك في قاعة المؤتمر مع مسئولين آخرين ولكن المهم أن تكون هي من تلقي الكلمة لتذكر الصحف هذه المشاركة للمدرسة..
"جنين" في قاعة الانتظار ساعات قبل موعد الحفل؛ أطفال من عدة مدارس يتدرب كل منهم على مهمة يقوم بها، "جنين" ما تزال عنيدة.. هؤلاء الأطفال منشغلون بمراجعة نشاطاتهم.. في مثل حالهم كانت تقف قبل كل احتفال مدرسي تراجع مع صديقتها "ياسمين" نشاطهن التمثيلي.. ياسمين شغلها ذات يوم نشاط مدرسي عن موعد العودة إلى البيت، البعض يرى أنها كانت محظوظة بتأخرها ذاك والبعض يرى أنها أصبحت الأكثر تعاسة في العالم؛ فوالدة ياسمين التي اصطحبت أطفالها من مدارسهم بعد انتهاء الدوام المدرسي مباشرة اغتالتها صواريخ غادرة أبقت ياسمين وحيدة في هذا العالم بعد أن كانت تنعم بأسرة مميزة مليئة بالدفء والسعادة، ياسمين لم تحتمل البقاء بذات المقاعد التي غادرتها شقيقتيها فتركت المدرسة و"جنين" الصديقة.. "جنين" تتأمل الأطفال الممسكين بأيدي بعضهم كما كانت وياسمين وتبتسم ابتسامة شاحبة لأيام لن تعود..
"جنين" ترقب الأطفال وتتذكر ياسمين في صمت والورقة تتدلى من يديها تكاد تتمزق ولا تعيرها "جنين" أي اهتمام.. وما تزال عنيدة.. وقت قصير ويبدأ الحفل.. امرأة طويلة بشعر أصفر فاقع وألوان عديدة تغطي وجهها تنادي على الطفلة التي ستلقي الكلمة الرئيسية باسم أطفال فلسطين، "جنين" تتنبه أنها المطلوبة..
المرأة ـ تتكلم بكثير من التعالي والإيحاء بالانهماك بالعديد من الأعمال وضيق وقتها ـ: أنتِ من ستلقي الكلمة؟
"جنين": نعم، ولكن لديَّ بعد الملاحظات ..
المرأة: ـ تنظر إلى الطفلة وقد غضبت؛ استدرجت الطفلة على مضض لدقيقة أو ما يقاربها محاولة إقناعها بقراءة النص المكتوب فقط وأنه بإمكانها سرد الملاحظات لاحقاً..
"جنين عنيدة".. تصر أن تقول كلمتها..
المرأة ـ تنظر بغضب نحو الطفلة وتقول ـ: أنتِ .. هل أحد من عائلتك من المتشددين.. المعارضين .. الـ...؟؟
"جنين": لا ..
المرأة: وقد أشاحت بوجهها عن "جنين" وتجاهلتها ونادت موظف آخر .. فطلبت منه الاتصال فوراً بشخص "بعينه" لديه طفل مناسب لإلقاء كلمة "جاهزة" باسم أطفال فلسطين..
ربيحة علان علان
مخيم الحلزون ـ رام الله
9-2-2005م
واقرأ أيضًا على إبداعات أدبية: كائنات خالية من الضوء، اشرب واحمد الله ، الريح والورد، القضية، من ملفات المهجر ، ذكريات ومشاهد من الحرب، الشيخ عبيد ، قالت: هو الوداع
|