إضـــاءة حول الشاعر (الجزء الأول)
يحتفل عُشَّاق الشعر؛ ومعهم العالم، هذا الشهر بالذكرى الثامنة بعد المائة بميلاد قامة شامخة في الشعر؛ إنه "شهيد الكلمة" و"عاشق الغجر".. فيديريكــــو غارسيــــا لوركـــــا.. فمـن هـو لوركــا؟
هو أحد أنشط أعضاء "27جيل "، وُلد في الخامس من يونيو1898 بـ"فوينتي باكيروس Fuente Vaqueros"؛ وهي قرية صغيرة تبعد عن غرناطة، غرناطته، بعشرين كيلوميترات، من أب فلاح وأم مُدرِّسة أدخلته إلى عالم المعرفة في سن مبكرة، ولم تكن تدري أنها بذلك حكمت عليه.
كان والده يمتلك في تلك المنطقة الفلاحية الخصيبة أراض زراعية وضيعات.. وسقط في فجر19 غشت من سنة1936 برصاصات آثمة رمته بها بنادق كتائبية حاقدة، خارج غرناطة؛ في منطقة "بيثنار Viznar" تحت أشجار الزيتون؛ قرب نافورة، وهو لم يكتمل عقده الرابع.
تلقى دراسته في قريته ثم في "الميريا"، أما المرحلة الثانوية فتابعها بغرناطة التي كانت أسرته قد انتقلت إليها؛ غير أنه لم يظهر اهتماما بدراسته، حيث كان همه الأكبر منصبًّا على القراءة الحرة وكتابة الأشعار إلى جانب العزف على البيانو، مما كان يُغضِب أساتذته؛ فكان ينال عقابًا ظلت ذكرياته محفورة في أعماقه وفي كراسة يومياته: "إنني أعرف الكثير الكثير، لكن في المعهد كانوا يعطونني صفعاتٍ هائلة"!!
وبعد نجاحه التحق بالجامعة ليدرس الأدب والفلسفة، وقد حدث لفتوره وقلة حماسته خلال هذه المرحلة أن رسب في مادة تاريخ اللغة الإسبانية، لكن الحدث لم يمر في صمت، كما يحدث مع غيره، فأساتذته استاؤوا منه كثيرًا،وأصدقاؤه استغربوا؛ لما يعرفونه عنه من ذكاء حادٍّ وذاكرة قوية يُحسد عليها.. أما الصحفي "ج. م غانيدو" فقد كتب مقالة، لنقل عنها مقالة تنبئية؛ ينبه فيها أساتذته هؤلاء إلى مكانة "لوركا" الأدبية، وأنه "سيأتي يوم يدرسون فيه شعره ويفسرونه من فوق منابرهم تلك"!!
كان من عادة الجامعة أن تنظِّم في نهاية كل سنة دراسية رحلات استطلاعية تثقيفية لطلابها تحت إشراف أساتذة الجامعة أنفسهم، وفي إحدى تلك النهايات نظم "دومينكيث بارويطا Dominguez Berueta"؛ أستاذ نظرية الأدب رحلة إلى "قشتالة" والأندلس شارك فيها "لوركا" رفاقه، وقد كان من نتاجها كتابه الأول "انطباعات ومشاهد Impresiones y paisajes"؛ الذي صدر في غرناطة سنة 1918 وهو في العشرين من عمره! وقد صدَّره بإهداء في ذكرى موت أستاذه "أنطونيو ساغورا Antonio Sagura" وإلى كافة الأصدقاء الذين رافقوه في الرحلة.
وفي سنة 1921 عقد صداقة عميقة وقوية مع موسيقار إسبانيا الكبير "مانويل دي فايا Manuel de Falla"؛ الذي تلقى على يديه دروسًا في الموسيقى ساعدته على صقل موهبته الموسيقية، ونمت في روحه تلك الرغبة الدفينة؛ فاستخدمها كما ينبغي في استيعاب وتسجيل الأغاني والألحان الشعبية؛ وبالأخص الأندلسية.
ظل هاجسٌ خفيٌّ يعمل في نفسه، وطائر الأحلام يرفرف بأجنحته القزحية محاولاً تكسير أسلاك ذاك القفص كي ينطلق بعيدًا.. بعيدًا.. حيث الحب والدفء والخضرة، وحيث تتجمع كل العصافير المهاجرة حول ينابيع الضوء والمطر الأخضر.. ظل هكذا زمنًا إلى أن طار إلى "مدريد" واستقر بها، وفي سمائها لمع نجمه الأدبي وتألق.
ويوم22 مارس1920 تم عرض أولى مسرحياته "الرقية المؤذية للفراشة El Maleficio de Mariposa"، لكنها مُنيت بفشل ذريع! فبقي بعيدًا عن المسرح سنوات، إلى أن عاد إليه في فترة كانت فيها إسبانيا تعيش بقوة الحديد والنار، في ظل الحكم القمعي الديكتاتوري لأحد أدعياء الأدب الفاشلين "بريمو دي ريفيرا Primo de Rivera"! فألَّف مسرحية "ماريانا بينيدا Mariana Pineda" التي استوحى موضوعها من تاريخ إسبانيا النضالي، وتحديدًا من قصة فتاة تسمى "ماريانا Mariana"، وهي أندلسية ومن غرناطة، أُعدمت سنة 1830.
وإذا كانت أولى مسرحياته تعرضت للفشل وأخرسته زمنًا؛ فإن ظهور ديوانه الأول "كتاب القصائدLibro de Poemas" سنة1921 بشَّر بميلاد شاعر جديد؛ كما كتب الناقد "أودولفو سالاثار Salazar" على صفحات جريدة "الشمس El Sol"، ففيه تتجلى تلك الشفافية في الصور وتنوعها، والبساطة في الأسلوب وعفوَّيته، وبُعد في الرؤى، وغنى في المعنى.. إلى جانب نفس وجداني صادق، مع إيقاع شبيه بأغاني القرويات وأغاني الغجر.
لقد كان للنجاح الذي حققه ديوانه الأول هذا أن تفتحت أمامه الآفاق الرحبة، وشرعت له أبوابها المنتديات والنوادي..كما انهالت عليه الدعوات ليلقي المحاضرات ويشارك في الأمسيات الشعرية، وأصبح له جمهور واسع يضم جميع طبقات الشعب.. من الغجري البسيط إلى المثقف المتخصص؛ ومن جملة ما تلقى دعوة من المركز الفني بغرناطة؛ حيث ألقى فيه محاضرة حول ديوانه الذي لم يكن قد صدر بعد "قصيدة الغناء الغجريPoena del Cante Jondo"، نظَّم على إثرها مهرجان كبير دام يومين؛ وكان من إشراف وتنسيق الموسيقار "مانويل دي فايا".
وفي ربيع 1929 سافر إلى "الولايات المتحدة" مارًّا بـ"باريس" فـ"لندن" إلى أن وصل إلى عاصمة ناطحات السحب.. "نيويورك" في يونيو؛ حيث عاش كطالب في جامعة "كولوميا"، ومن على منبرها أعاد بعض المحاضرات التي سبق وألقاها بإسبانيا، ولحن بعض الأغاني التي استمد روحها من الموشحات الأندلسية ومن الفلامينكو إلى المغنية "أنطونيا ميرثي Antonia Mirce"؛ ومن بينها : "الطحانون الأربعة"، و"الحاجان الصغيران".
يُتبع
واقرأ أيضًا على إبداعات أدبية: عبد المأمور..!!، حين...وبعد..!!، تحريض!، مرافعةٌ أولى:، لم!!، حزنٌ لا ينتهي !، قل:..كما..،،، تشكيل...، عزفٌ منفرد...!، لا ترجعي، كلماتي، يا دورة الأقدار، القرارُ الأخير!!، فوضى!!!، مشروع قتل!، ازحفي، تشظّي، هي آخر الأشياء عنك، أمةٌ عجب! ، ..صمود.. ، شبه أسيرةِ العرب.. ، لوْ أنِّي قلتُ الشعرَ؟! ، الشعبُ المُمَهَّد! ، الواقي الذكري!
|