إغلاق
 

Bookmark and Share
اسم العمل الأدبي: البنت ليست نائمة يا رضوى 
اسم صاحب العمل: رضوى عاشور 
نوع العمل: قصة قصيرة 
الوزن الشعري: .............. 
تاريخ النشر:  16/08/2006
 
الموضوع
 

(1)
أرى الصغيرة بين ذراعيّ، مهدٌ مؤقت يضمها إلى صدري.
أتمتم: الآن نمسح الغبار عن وجهنا، نزيل التراب عن كفينا وقدمينا، نداوي هذا الجرح البسيط في الركبة، ونتحمم. نترك لماء الله العذب أن ينزل على رأسنا وجسمنا ونتليّف بمكعب طيب من الصابون البلدي، ننبسط لرائحة جسمنا ولملمس الثوب على جلدنا النظيف. ثم نصفِّف شعرنا وندهنه بنقطتين من زيت اللوز، ونضفر جديلتينا ونعقدهما بشريط من الساتان الأبيض. بعدها نغني ونلعب، أنت تركضين وأنا أحاول أن أجاريك الركض، ألهث وأقول: أنا في الستين يا بنت، لا أستطيع اللحاق بك!

"ولكن البنت ليست نائمة يا رضوى، البنت بين ذراعيك، ميِّتة يا رضوى" وليست بنتا واحدة، ولا ولداً واحداً.

عشرون؟ ثلاثون؟ كم عددهم اليوم في قانا وكم عددهم بالأمس في صور ومنذ أسبوعين في مروحين؟ وقبلها في بحر البقر، وقبل قبلها في دير ياسين؟ هل تذكرين عمر في دير ياسين؟ كان ابن عامين، في نفس عمرك يا رضوى، ولكنه ذهب وبقيت، لتتعلمي في المدارس وتعلِّمي وتنشئي أسرة وتكتبي وتبلغي الستين، ذهب وبقيت، ربما لتذكريه.

وما اسم الصغار الذين قضوا في الطنطورة أبناء وبنات جيلك؟ قل لي يا مؤرخ ما اسم هذا الولد؟ ما اسم تلك البنت؟ لم لازمك الصمت طوال هذا الوقت لتحكي فتقول لي أسماءهم؟

(2)
لو كنتَ إنسانا، أي إنسان، ستعرف كم هو فاجع أن يقتل طفل بصاروخ، وهو نائم، وهو يلعب، وهو يأكل، وهو معتكر المزاج يزِّن أو يبكي. ولو كنتَ امرأة سيحملك خيالك إلى شهور حملك التسعة وشهور الرضاع، والشهور التي أمضيتها وهناً على وهن، معلّقا بين جسدك المنهك وذلك التألق بامتلاك طفل جديد. لو كنتَ امرأة ستستعيد لحظة العُسر وسحر غيابها ساحة ينزلق الوليد منك إلى الحياة، فتسمّي عليه وتسمّيه، ستسترجع الفم التائه وهو يبحث عن الثدي مغمضاً ودؤوباً حتى يألف طريقه. سيمر بك الشريط بطيئا ومفصّلاً ومضيئاً بالقفزات: ومضات من الرضيع إلى ملابس المدرسة، من الأول الابتدائي إلى يوم عرسه، وبالوليدة من القماط إلى الجامعة، ومنها إلى الوظيفة والأمومة.

لو كنتَ امرأة لعرفت معنى أن يحصد منجلٌ مسنون حصاد بطنك ورحمك وحشاك.
أنا امرأة.
أنا امرأة في الستين.
أنا والدة.

عشت الحمل والولادة واللهفة على الولد، والزهو والخوف والرجاء، و"بسم الله ما شاء الله"، و"ربنا يحميه"، والرعشة الملتبسة والصغير تحمله ركبتاه يوما بعد يوم إلى غد تدعو أن يكون فيه سالماً غانماً.

وقبل أن أكون والدة، بسنوات، قبل أن أتم الرابعة والعشرين وقفت في موقع مدرسة بحر البقر، بين أنقاض المدرسة وانحنيت على الركام ورفعت أوراقا ممزقة من كتاب القراءة الرشيدة ملوثةً ببقع كانت قد صارت بُنيّة (عدت بها إلى بيتي في القاهرة). وفي نفس اليوم زرت عشرات الأطفال الذين أخطأهم الموت، في مستشفى الحسينية المركزي في الشرقية وكان معظمهم مصاباً في رأسه، أجروا له عملية "تربنة".

صيّرتني المدرسة المهدّمة والناجون من أطفالها أُمّاَ قبل أن أكون والدة. صرت أخاف على الأطفال أكثر فأحبهم أكثر، خوفا غريباً يدفع بي لا للنكوص بل للمواجهة، فلو كنتَ امرأة فلا بد ساعتها أن تعرف أن خوف ذوات الأرحام لا يعرف الهرب. هو خوف غريب عجيب خلاّق وعنيف، يأتي بنقيضه. خوف الأمهات، حين تمتد الذراعان على اتساعهما لتحتضن وتوفر المهد المؤقت، لا يسحب إلى وراء ولا يجر إلى خلف، لا انطواء فيه ولا نكوص بل فيه عناد شرس يستقتل في حفظ ما تخلّق في البدء في الحشا.

لو كنتَ امرأة، أو كنتَ رجلا تعرف نبض الحياة وتحيط بها على طريقة الأمهات لعرفت لماذا المقاومة، ولماذا الصمود، ولماذا الشعوب، ولماذا الأوطان تلك الأرحام الكبيرة التي تُخلِّقُنا في حشاها.

(3)
"الصغيرة ليست نائمة بين ذراعيك يا رضوى، الصغيرة ميتة"

أعرف أعرف، وجهها ترابي شاحب، شعرها مترب مهّوش، ثوبها ملوّث بدم تجمّد، متهدلة بين ذراعيّ رجل الصليب الأحمر، لا أرى الجانب الآخر من جسدها، هل هي كاملة الأطراف؟ لا يهم لا يهم. بل يهم جداً، يهم كثيراً. لن تكبر، لن تذهب إلى المدرسة، لن تفضِّل هذه المدرِّسة عن تلك، لن تهمل في واجبها المدرسي فيوبخها أبوها، لن تحب وتكره وتصاحب وتتشاجر وتصفو وتصالح، لن تصير امرأة وزوجة وأماً، لن يحدث أي شيء. وليكن.

ليكن: سنضع صورتها على الطريق، نحملها معنا في الطريق، ونواصل، نواصل بإصرار أكبر لكي لا يتمكنوا من قتل الصغيرة التالية.

نقلاً عن: جريدة السفير 1 أغسطس 2006

واقرأ أيضًا على إبداعات أدبية:
لا يُسترشدُ النصرُ  / الألم الصامت... والصمت المؤلم.../ أنا والمر / كل الحكاية تقصك -إلى الشمس العربية  / لبنان... المقاومة...  / إلـــى أين ؟ ....  / عروس السماء  / جمال الروح  / تلات رسايل للعصابة  / واحد اتنين الجيش العربي فين / لا شيء يُهِمُّ ولا حزنَ يُلِمُّ  / مرهفين الحس / عُــــــذراً لبنـــــــان  / سيجارَتي / أحبــــــــــــك حـــــــــــــبين  / حوارات الحب والكراهية  / في انتظار الفجر  / جندي مارينز أميركي يتغنى بقتل عائلة عراقية  / حصَادُ القمَرُ  / أنا مانفعكيش (وده مش اسمي)  / ورقة ُالتوتِ  / مؤامرة  / لوركا.. شهيد الكلمة (5)  / عرفت السِرَّ!  / كاس العالم  / عتمةٌ!  / هل صليت يا أحمد؟!  / لوركا.. شهيد الكلمة (4)  / خدعوك  / أمريكاني!  /  مُسَلِّمْ  / لوركا.. شهيد الكلمة (3).  / القهوة والشيطان!  / وجـبـة...!!!  / أحلام أب مسافر  / أحبك قصتان/ لوركا.. شهيد الكلمة (2)  /  النوّة  /  زمان العجب / قتـلــــــــــــت طفلة  / رباعية التراب  / لوركا.. شهيد الكلمة (1) / أحلام عبد المجيد  / السهل الممتنع  / الشيخ جعفر والنخلة  / أستطيع العد وحدي / المكونات أوراق نقدية / طيارتي الورقية  / آلام الحب  / أوجـاعُ الليل!  / أوجـاعُ الليل!  / رباعية واحد سعيد  /  غزالي  / الحضارةُ الساذَجةُ  / حدوتة راجل مفروووس جدًّااا  / فاقد الأمان  / جرِّدِيني مِنْ وَقارِي!  / عندما تكون وحدك  / دويَُ الرحيل  / المرسم المهجور  / رباعية كمبيوتر  / استغاثة / إنفلونزا  / لن أرضى..  /  مخاوف كانت صغيرة  / ليه..يا ظالم؟!  / مَـحْـدودَةٌ؛؛  / اعذريني  / فتاةٌ مغرورةْ  / نيسان  / شجرة القمر ! 2 / رباعيات مجانينو  / سباعيات المجنون الفصيح بعد 30  / شجرة القمر! 1  / منكوشة الشعر  / رسائل ((العراقي الشريد)) لعصفورة بعيدة (2)  / رباعيات..بدون عنوان  / في قطار الليل / رباعيات...أخص عليكِ...  / العَرَّافة 

 


الكاتب: رضوى عاشور
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/08/2006