|
|
|
اسم العمل الأدبي: |
الربيع الراحل |
اسم صاحب العمل: |
سماح محي الدين شيط |
نوع العمل: |
قصة قصيرة |
الوزن الشعري: |
............ |
تاريخ النشر: |
05/09/2006
|
|
الموضوع |
رحل ذلك الوجه المضيء الباسم وسقطت رندا في حيرة قاتلة واندهاش مطبق لا تعرف كيف حدث ذلك، ولماذا؟ وهي الطفلة المدللة عند أبيها التي صحبها في كل شيء.... في رحلاته وزياراته للأقارب وفي نزهاته عند الغروب وحتى في شراء حاجيات المنزل....
ويتشاركان معا في إطعام القطط الصغيرة التي تحضرها رندا من آن لآخر, ويقومان معا بالاعتناء بالعصافير اللطيفة من إطعام وتنظيف وملاعبة وحب... وفي المساء دوما يشاهدان المسلسل التلفزيوني سوية وفي نهاية الأسبوع يشاهدان الفلم معا, ويتناقشان حوله وهو رجل في العقد الخامس من عمره وهي في العقد الأول من عمرها...... وفي كل صباح يستيقظان باكرا ليجلسا على شرفة المنزل يتناولان طعام الإفطار ويتحادثان عن الله وحكمته وعدله ورحمته. ويعبران عن ألمهما للظلم الذي لحق بالشعوب وأملهما الكبير بانزياح هذه الغمة وعودة العدالة لتحكم العالم..
استطاعت رندا بالرغم من حداثة سنها أن تخترق قلب أبيها وعقله وتكون أفضل صديقة له، فالحب الكبير الذي ولد بينهما من أول لحظة وقعت عيناه عليها قرب كل المسافات البعيدة التي فصلت بين جيليهما... فكانت أمتع لحظات حياتهما هي تلك التي قضوها بصحبة بعضهم البعض....
كانت حياة بهيجة وجميلة....اتسمت بدفء كبير وحنان واسع... إلا أن. كل تلك الحنية والمباسم والمباهج رحلت فجأة ودون سابق إنذار ووجدت نفسها تلك الطفلة وحيدة دون الصديق المحب المعطي الذي لم يرد شيئا من الدنيا سوى رؤية بسمتها الرقيقة على ثغرها الجميل والسعادة تشع من عينيها. تلك أعظم سعادة شعر بها..... فإذا بكت أو رأي أثار دموعها وقع في حيرة شديدة يريد مسح تلك الدموع وإحلال مكانها تلك الابتسامة الجميلة التي يحبها، وبالمقابل رأت فيه تلك الطفلة الصغيرة كل معاني الحب والحنان والعطاء.
إنه الأب الذي أعطاها دون حدود... أعطاها حبا وتفهما وقلبا كبيرا وصدقا ودفئا.... أعطاها كل شيء.... ثم رحل فجأة واخذ معه كل شيء... رحل دون أن يودعها أو يخبرها لماذا؟؟ في تلك الأيام الخوالي التي لم يبق منها سوى الذكرى الجميلة. كانت رندا مهجة القلب وفرحة الفؤاد، إذا مرضت احتار كيف يحضر لها الهدايا لتنسى ألمها. ويطل عليها كل ساعة ليطمئن عليها... فإذا ما أصابها العناد لأنها لا تحب الدواء لم ينهرها يوما بل جلس إلى جانبها ولاطفها وبكل الحب ساعدها لتتناول دواءها......
وهي بالمقابل أحبته حبا شديدا لدرجة استعدادها لتفعل أي شيء لإرضائه وكلما كبرت قليلا نمت معها أحلامها وطموحاتها التي لم ينثن يوما عن تشجيعها لتحققها.. وبارك لها حبها للخير ورغبتها في العطاء واستعدادها الفطري لمساعدة الآخرين.....
كانت أيام صفاء وحب جميل لم يعكر صفوها شيء أبدا.. فالحب بين تلك الصغيرة وأبيها كان حبا قويا متبادلا تزداد قوته مع الأيام وينمو وتمتد جذوره في قلبها لتترسخ فيه للأبد, فإذا كبرت لم تعد تذكر شيئا من طفولتها الجميلة أكثر من ذكرها تلك اللحظات الدافئة بالقرب من أبيها الحبيب...
أيام لن تعود أبدا.. وتبقى صورتها حية في الذاكرة...... وكلما حدقت في الماضي أكثر تنشقت عبير تلك المحبة التي لم تحظ يوما بمثلها واشتاقت لتلك العينان الطيبتان وذلك الوجه الطيب الجميل الممتلئ صحة وحبا وذلك الشعر الأسود المخطوط بشيب قليل...
أصبح الماضي السعيد هذا دنيا غير الدنيا التي تحياها الآن وأبطاله أناس لم تعد تعرفهم فلا تلك الأيدي الحانية بقيت ولا عيون تلك الطفلة عاشت..... كلاهما مضى واختفى..... تلك الأيدي أعياها المرض وأنهكها الم العادات والتقاليد فما عادت تستطيع ضم الطفلة الصغيرة التي أصبحت شابة رغم حاجتها للحب الكبير نفسه.... ولا عيون تلك الطفلة بقيت ترى الصفاء والنقاء في الدنيا الآن كما وجدته في طفولتها. في عهد البراءة والنقاء.....
وكبرت رندا. ورحل أبوها رحيلا قاسيا إذ لم يكن رحيل الموت المتعارف عليه وإنما رحيل المعاني التي زرعاها معا.... ذوت تلك البسمة الجميلة والعيون المضيئة والملامح الطيبة والأيدي العطوفة..... وذلك الجسم القوي الذي يشبه الجبل في ثباته ورسوخه وحبه للعمل......
أمسى بدلا من ذلك الجمال كله عيون غاضبة وملامح متجهمة وأيد قاسية وجسم ناحل ضعيف.. جسم أنهكه المرض وملامح أقستها التقاليد ووجدت تلك الطفلة نفسها فجأة ودون سابق إنذار كبيرة..
وجدت نفسها شابة تبحث عن أبيها الذي عرفته في عهود طفولتها الأولى فلا تجده.... ولا تعرف سبب هذا التحول الغريب الذي أطاح بحب الماضي السعيد ولحظاته البهيجة وأحل مكانها لحظات الألم والغضب والحيرة والوحدة....
رحل ذلك الصديق الحنون المحب.. ورحلت معه كل الذكريات السعيدة والملامح الجميلة...رحل فصل الربيع والعصافير المغردة والأنهار العذبة والسهول الخضراء الندية والفراشات الملونة والورود العبقة...... رحلت مظاهر الأنس والفرح وحلت محلها أيام كالحة سوداء مؤلمة شديدة البرودة.. شديدة القتامة... مريرة الوحدة.. وطال شتاء تلك الأيام ولم ينتهي....
وتساءلت تلك الطفلة الشابة عن سبب هذا التحول الغريب في تعامل أبيها معها. وفكرت وبحثت وتعبت في بحثها عن إجابة تشفي غليل قلبها الرقيق المتعب فلم تجدها أبدا... وتحولت للوم نفسها وذاتها وقست على نفسها واتهمتها بأنها هي التي أخطأت في حق ذلك الصديق ففقدت حبه وثقته... وحاولت مرارا وتكرارا استرجاع تلك الأيام الجميلة ولكنها فشلت.. ومع كل فشل كانت تزداد حدة الشتاء ضراوة وقسوة. ويوما بعد يوم نفدت كل عيدان الثقاب.....
نفذت عيدان الثقاب عندما أدركت بلاهة العادات، وفراغ التقاليد، وقوة الجهل المستحكم في عقول الناس.. تلك الأشياء الكريهة التي تدفع الأم للابتعاد عن ضم ابنها وبنفس الطريقة توسع الفجوة بين الأب وبناته.....
هذه العادات التي لا ترى أنه يمكن أن تكون هناك علاقة نقية طاهرة بين الأب وابنته فلم يعد أحد يتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم لتقبيل ابنته فاطمة كلما دخلت عليه... بل أصبح الخوف من كلام الناس هو مقياس تصرفاتنا وتعاملاتنا...
ماذا سيقولون إن رأوا أبا يضم ابنته؟ وبماذا سيفكرون إن رأوه يقبلها من جبينها؟ وماذا سيعتقدون ان رأوهما جالسين يتبادلان الحديث بضحك ومرح؟؟
تخلف شديد أودى بنا إلى هاوية سحيقة ملأى بظلمة مخيفة لا نرى فيها نور الحب النقي الذي يرشدنا في حياتنا... حب الآباء لأبنائهم الذي يظهرونه لهم دون خوف أو حذر.... ويرى الأب أن من الأنسب لابنته أن تصاحب أمها ناسيا بذلك كل ما عنته تلك الضحكات الجميلة والأيام العزيزة ودون أن يدرك أنه من المستحيل على أي شخص نسيان حب كبير أو إيجاد غيره...فلا أي حب في الدنيا يعوض حب الأب والأم إذا فقده الإنسان.
وازدادت الهوة اتساعا بينهما.... فلا هو استطاع تجاوز تلك الأعراف الحديدة ولا هي نجحت في إقناعه أنها ابنته وان دمه يجري في عروقها ..ومهما حدث فإنها قطعة منه لا تنفصل عنه.... وصدر الحكم الأخير.. الحكم الأليم.... وأقصيت ذكريات الماضي السعيد بعيدا وشكلت لوحة دافئة حريرية تضم الأب الرائع بشعره الأسود الكثيف وملامحه الطيبة الصادقة يلاعب ابنته البريئة المحبة بعينيها الضاحكتين في بستان اخضر مليء بكل معاني الجمال..... وعُلقت تلك اللوحة على جدار الماضي.
وأُديرت لها ظهورنا لنتابع المسير إلى المستقبل المجهول. فإذا ما أردنا استرجاع ذكريات ذلك الدفء الفريد فلا سبيل إلا لندير رؤوسنا ونلقي نظرة شوق محروق وابتسامة دامعة على تلك اللوحة الفريدة، داعين فيها أن تعود الأيام الجميلة..... ونعود لنتابع المسير من جديد في شتائنا القارس.
|
الكاتب: سماح محي الدين شيط
نشرت على الموقع بتاريخ: 05/09/2006
|
|
|
|
|
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com
|
حقوق الطبع محفوظة لموقع مجانين.كوم ©
|
|