* أزمة الجيل الثاني: على الرغم من كراهية الدكتور رأفت ثابت (المصري المهاجر ابن الباشا الذي يحمل ضغينة في نفسه لثورة يوليو ورجالها الذين سلبوه وأهله ثرواتهم بغير حق) لكل ما هو مصري أو عربي, ومحاولة اندماجه الكامل في الحياة الأمريكية وإعجابه بها كنموذج للحياة المنطقية المنظمة والهادفة والناجحة والطموحة والصاعدة إلا أنه يواجه امتحانا صعبا حين تكبر ابنته سارة وتمارس حريتها على الطريقة الأمريكية وترافق شابا أمريكيا فقيرا وصعلوكا "جيف"يعيش في أحياء الزنوج المليئة بالفقر والجريمة وتعاطي المخدرات. ويشكل هذا امتحانا قاسيا لرأفت ويجد نفسه وجها لوجه أمام الجانب الآخر للحياة الأمريكية ذلك الجانب الذي لم يكن يعيه وهو يتنقل في أروقة الجامعات والمعامل المتطورة ويتعامل مع العلماء وعلية القوم. هاهو الآن أمام رغبة ابنته في التحرر الكامل وفى اختيار من تصاحب وفى اختيار سلوكها بما فيه تعاطي المخدرات, وهنا يستيقظ الرجل الشرقي مرة أخرى داخل الدكتور رأفت ثابت في محاولة لاستعادة ابنته على الطريقة المصرية والعربية والشرقية ولكنه يفشل في ذلك ويتأكد بأن الحياة الأمريكية التي عشقها وانبهر بها وعبدها هي حزمة على بعضها لا بد وأن يأخذها بحلوها ومرها.
* الأحادية والاختزال الإنساني: من خلال شخصيات الرواية يشير المؤلف بقوة إلى سمة أصبحت سائدة وهي أحادية الرؤية وأحادية الإدراك وأحادية السلوك فشخصية طارق حسيب تعكس هذا الموقف حيث تبدو خالية من الأبعاد الإنسانية وهاربة من التواصل البشرى ومكتفية بالدراسة والتفوق ثم الإفراغ الذاتي للطاقة الجنسية ليلا بطريقة آلية وخالية من التفاعل الإنساني. وحين لاحت له شيماء المحمدي حدث التواصل بعد محاولات مقاومة من الطرفين ولكن هذا التواصل توقف عند مستوى الإشباع الغريزي عند طارق حسيب ولم يتحمس لتطويره إلى مستويات أخرى إلا في نهاية الرواية.
ونرى شيماء المحمدي فتاة قادمة من طنطا لا تعرف في الدنيا غير دراستها وعبادتها (بشكل طقوسي مختزل) تفاجأ في شيكاجو بأبعاد أخرى للحياة الإنسانية وتحاول التكيف معها بصعوبة فتقع في المحظور وهى تحاول في كثير من المراحل أن تبرره ليوائم منظومتها القيمية التي عاشت عليها, ويحدث الانهيار في النهاية بسقوطها فيما عاشت تتحرز منه بكل دفاعاتها.
وناجى عبد الصمد اليساري الثوري المضطهد في بلده والوحيد في غربته والذي لا يجد نفسه في دراسته ولا حتى في هوايته ويعجز عن الإنجاز الحقيقي على أي مستوى لذلك يفشل في تحقيق أهدافه ويفشل حتى في توصيل رؤيته المعارضة بسبب عزلته ورفض بقية الناس لتبنى رؤيته والدفاع عنها أو عنه, ويبقى وحيدا يجتر مرارته ويواجه احتمالات بطش السلطة به دون ظهر يحميه أو يحمى أسرته, ويظل يراوح مكانه بلا قدرة على التغيير سوى أبيات قليلة من الشعر المتواضع لا يهتم بها أحد, وكأنه يجسد أزمة اليسار وعزلته وإحباطه وضعفه على الرغم من شعاراته الرنانة والبراقة والموغلة في المثالية.
وفى المقابل كان المؤلف يرى الملتحين والمتدينين في صورة سلبية سياسيا واجتماعيا, وربما لا يراهم أحيانا كثيرة, وهذا عكس الواقع القائم والذي يشكل فيه الإسلاميون المعارضة الحقيقية ويشكلون قوة الحراك الأساسية ويساهمون بقوة في صنع الأحداث في السنوات الأخيرة, ولكن –كما ذكرنا – فإن المؤلف لا يوجه عدساته إلى هذا الفصيل الهام في روايته.
أما أحمد دنانة فهو مثال للشخصية الريفية المتسلقة الانتهازية والتي تخلو من أي ملكة أو موهبة لذلك تتطلع بطمعها الفطري إلى السلطة تعرض عليها نفسها وخدماتها مقابل تحقيق أهدافها في الصعود, فيقوم بدور العميل السري للمباحث في الأوساط الطلابية وفي أوساط المبتعثين والمهاجرين. والسمة السائدة في هذه الشخصية هي الإدعاء فهو يلبس مسوح المصري المتمسك بقشور الدين والذي يستخدم الرموز والنصوص الدينية في غير محلها, ويدّعى في ظاهره غير ما يحمله في باطنه, وهو يخلو من أي صدق إنساني أو كرامة إنسانية, ومستعد لأن يبيع نفسه وكرامته وشرفه لمن يستخدمونه, فهو يقوم بدور حذاء السلطة الأمنية فيتجسس على زملائه في الجامعة ويكتب عنهم التقارير ويواصل هذا الدور الدنيء والقميء في شيكاجو وينقل كل أدرانه ومساوئه وادعائه إلى حيث يعيش وسط المبتعثين والمهاجرين في شيكاجو ويلوث حياتهم بشكل يدعو للاشمئزاز.
والدكتور محمد صلاح الذي لا يشعر بطعم النجاح في البيئة الأمريكية ويشعر بالندم على قرار الهجرة ويخرج من كل هذا بممارسة الإبحار في الماضي عله يجد معنى يجتره من حياته السابقة, فهو يشعر بفتور وعجز جنسي تجاه زوجته الأمريكية كريس, ولم ينجب أطفالا ينشغل بهم وبمستقبلهم, ولا يجد في حياته ما يملأها ويبدد وحشتها.
وصفوت شاكر (رجل الأمن) يفعل كل شيء من أجل إرضاء رؤسائه ومن أجل الترقي في المناصب الأمنية فيعذب المعتقلين وينتهك أعراضهم ثم ينتهك أعراض نسائهم, ويترقى فعلا في المناصب إلى أن يذهب للعمل في القنصلية المصرية في شيكاجو, ويحيل حياة المصريين هناك إلى جحيم بما يمارسه ضدهم من تتبع ومراقبة وتهديد بإنهاء بعثاتهم أو تعذيب أهليهم في مصر, فهو يمثل نموذجا كريها للسلطة المستبدة الطاغية المتحللة من كل المبادئ والقيم الإنسانية, وهو نموذج سائد وشائع في دول العالم الثالث وخاصة في العالم العربي.
ولا يتوقف الاختزال وأحادية الرؤية على الشخصيات المصرية في الرواية, بل يتبدى في شخصية كريس زوجة الدكتور محمد صلاح, وهى الأمريكية التي فقدت الدفء الزوجي مع زوجها ولم تجد في حياتها شيئا ذا معنى, فذهبت تبحث عن شيء يؤنسها أو يمتعها فلم تجد إلا ال "فيبريتور" تستخدمه كبديل للعضو الذكرى المفقود تحصل منه وبه ومعه على لحظات استمتاع حسي صناعي لا تجد في حياتها سواها, وهذا ربما يمثل ما يسمى بثقافة الفيبريتور في المجتمع الأمريكي وفى المجتمعات الحديثة على وجه العموم, ففي تلك المجتمعات حين يسود الإحساس بالوحدة والإحساس بالتعاسة يبقى التفريغ الجنسي الذاتي هو الخيار المتاح لتحقيق لذة وقتية خاصة حين تغيب المعاني العميقة والممتدة عن الوعي الإنساني.
* السلبية والخوف والتثبيت لدى المصريين: لا تتوقف سمات السلبية والخوف عند عامة المصريين وإنما تمتد لنخبهم وصفوتهم, فهاهم المبعوثون والمهجرون من صفوة العلماء يخشون التوقيع على البيان الذي أعده نفر منهم لإلقائه أمام الرئيس إبان زيارته لهم, وهاهو الدكتور صلاح بعد أن وافق على الخطة المعدة لقراءة البيان يعتريه الخوف في اللحظات الأخيرة ويتلو بيانا ممتدحا وموافقا للسلطة على الرغم من ضعف احتمالات تعرضه للأذى في موقعه العلمي ووجوده خارج مصر كمواطن أمريكي, ولكنه الخوف الرابض داخل الشخصية المصرية تجاه السلطة لم تنجح السنين أو الظروف في محوه أو التخفيف منه. والمصريون يفتقدون القدرة على التحرر من تراثهم القديم فيظلون أسرى له ويفشلون بسبب ذلك في الاندماج في المجتمع الجديد الذي هاجروا إليه, فهم يمارسون حالة من التثبيت وأحيانا حالة من النكوص فيحرمهم ذلك من النظر إلى خارج ذواتهم والتفاعل معه بشكل إيجابي.
والرواية تعكس تعاسة الشخصية المصرية في التعامل البيني مع المصريين وفي التعامل مع الثقافات الأخرى, وربما يرجع السبب في ذلك إلى ما تحمله الشخصية المصرية من آثار الخوف من السلطة والاستبداد ومن طول التعرض للظلم الاجتماعي وآثار الاضطهاد في الجامعة أو في الوظيفة, فغالبا لا تستطيع الخلاص بسهولة من كل هذا الإرث حتى وهي تعيش الحياة الأمريكية, ويضاعف من هذا ملاحقتها بالعملاء السريين في صورة موظفين في السفارة أو القنصليات أو رؤساء للجالية المصرية أو حتى مبعوثين مندسين وسط زملائهم.
والمجتمع المصري المضطرب في الداخل يأبى إلا أن يصدر رؤاه وصراعاته وانشقاقاته إلى أبنائه الذين يعيشون في الخارج على بعد آلاف الأميال, وكأن هذا يبدد أوهام من يعتقدون أنهم يهربون من بلادهم المضطربة لكي ينجو بأنفسهم من صراعاتها ومشكلاتها, فقد يبدو هذا سرابا في العصر الحالي مع سهولة الاتصالات والمواصلات والاختراقات. وهكذا يصبح الوطن المضطرب في داخل أبنائه المغتربين ليس شوقا وحنينا وحبا وإنما ألما وخوفا وغضبا. وهذه الأزمة تشبه في بعض جوانبها الأبناء الذين يتركون بيتهم بسبب تفكك الأسرة وصراعاتها المؤلمة, فهم كانوا يتمنون العيش في كنفها الدافئ والراعي, ولكن حين فقد الدفء وفقدت الرعاية خرجوا إلى الشارع وهم يحملون مشاعر متناقضة تجاه الأسرة التي احتضنتهم في مرحلة من المراحل ثم أخلت بالتزاماتها بقية المراحل.
واقرأ أيضا على إبداعات أدبية:
عمارة يعقوبيان بصقة على الذات تعديل المادة 76من دستور عمارة يعقوبيان شيزلونج مجانين: شهوة التصوير
|