الكاتب: د. أحمد عبد الله نشرت على الموقع بتاريخ: 20/02/2007
على باب الله: العزلة طبعاً: هل هناك اقتراحات؟!
كلما سافرت إلى الخارج تدفعني التأملات في أحوالنا إلى العجب والألم، وإلى الذكريات والأمل!! مؤخرا كنت مسافرا وقابلت أحدهم فوجدته يحمل رائعة ماركيز "مائة عام من العزلة" معه، وهو مسافر!! وسرحت في تأملاتي عن ذلك المصري الذي يحمل معه خيمة عزلته، وأدوات انغلاقه، وهو مسافر ليقابل الدنيا كلها، ولا أقصد هذا الرجل بعينه، ولكن بشكل عام!!
وكنا في ساقية الصاوي، والمتحدث الدكتور محمد المهدي زميلنا وأخونا يحاضر عن قراءة نفسية للمصريين، وكان مما قاله أن المصري متكيف في الداخل مع الأزمات والضغوط، والظروف بالغة الصعوبة، غير الإنسانية التي يعيشها، أما في الخارج فهو منعزل ينكفئ على ذاته وعياله، قليل التفاعل وإن كان يتعامل مع الآخرين، ولكنه تعامل دون تفاعل يذكر، ومثل المصريين غيرهم كثير من العرب والمسلمين، وهناك آخرون من جنسيات عربية أخرى يتفاعلون إلى حد الذوبان في الآخر فيصبحون مثلهم سواءً بسواء، ولا توجد لديهم مشكلة في أن يصبحوا على شاكلة غيرهم، بل هو الاندماج الكامل دون تحفظات!! وهناك من يحاولون ضبط التوازن، وإدارة معادلة العزلة والتفاعل على النحو الذي يرونه معقولا وممكنا ومفيدا ومطلوبا لهم بوصفهم مواطنين في هذه البلاد الجديدة عليهم، وكلامي ينصرف غالبا إلى الأجيال الأكبر التي كان لها في بلاد المنشأ تكوين وثقافة، أما من نشأوا في بلاد المهجر فالأمور بالنسبة لهم تبدو مختلفة جزئيا وكليا!!
والثقافة الغربية في أصولها الوثنية ثم روافدها المسيحية تبدو غير قابلة للتفاهم مع الإسلام وأهله بحكم الحروب الطويلة التي دارت عبر عصور ماضية، وبحكم التناقض والمغايرة في النظرة للكون والإنسان.
الوثنية والمسيحية ثم الحروب الحروب الصليبية ثم الخلافة العثمانية تبدو مراحل ومحطات تجعل من الصعب القبول بالمكونات الإسلامية الجديدة داخل النسيج الغربي، ولكن هناك مراحل وتجارب ومحطات أخرى مثل أسبانيا الأندلسية، ومثل غيرها من خبرات التفاعل والتبادل الثقافي، والإثراء لدي كلا الطرفين مما لدى الآخر، والأمر يحتاج إلى جهد، وهذا كله يحتاج إلى فرز وإلى تقوية وشائج التواصل وأواصر الحوار، ودعم جسور التشابك بيننا وبين الأطراف والمكونات المتنوعة في الغرب الآن، ومنها الإسلام والمسلمون هناك.
ولا يبدو أحدا من المسلمين ينشط على نطاق واسع في هذا الصدد، ولكن هناك محاولات ومبادرات محدودة من الطرف الإسلامي والغربي يجب التأكيد عليها وتشجيعها على أعلى المستويات. وهناك بدائل للعزلة تحتاج إلى تقييم وجهد وتطوير وبلورة، وهناك كتل واسعة في الغرب تبدو شاعرة بنفس القرف الذي يصيبنا، أو الغثيان من مظاهر التحلل، أو الإغراق في المادية الاستهلاك والدنيوية الطاغية هنا وهناك، وهذه الكتل تتحرك عبر مسارات وجهود بحث في الرومانيات، والعلاجات البديلة، ومعادلات التناغم بين الجسد والنفس والروح، وكلها مساحات تستحق الانتباه والتنقيب منا.
إن دعوات العزلة، وممارسات الانكفاء لم تعد كافية ولا نافعة ولا ممكنة في ظل دوران عجلات العولمة بسرعة كبيرة نراها جميعا عبر أدوات الاتصال الحديثة من فضائيات، وهواتف نقالة، وإنترنت تقفز في تقنيات التشغيل إلى أفاق لم يكن يتصورها عقل!!
وبالتالي فإن صيغة "تعامل دون تفاعل" ، أو "عيش دون تعايش"، أو الاحتماء بالحريات الفردية الواسعة التي تتيحها التقاليد والحياة الغربية الحديثة، وبالتالي المحافظة على خصوصية وقدسية رغبة كل إنسان في أن يعتقد ويعيش وفقا لاختياره، واستثمارنا لهذا تكريسا للعزلة، وللتعامل دون التفاعل، والعيش دون تعايش ومعايشة، أو تبادل ثقافي، وتواصل إنساني!!
هذه كلها صيغ باتت تحتاج منا إلى مراجعات جذرية وسريعة لأن مئات الملايين من الشباب والفتيات هنا وهناك، أقصد من العرب والمسلمين في أوطانهم الأصلية أو بلدان مهجرهم، في حاجة إلى أطر فعالة تتيح لهم التمسك بمقاصد وقيم وصبغة حضارتهم، وكذا التفاعل مع البشر في العالم ضمن ما يجري من انهيار للحدود، وطي للمسافات، وتأكيد على المشتركات الإنسانية، والبحث عن نواحي التميز والخصوصية عندنا وبالتالي بضاعة الجديد النافع الذي يمكن أن نقدمه للآخرين، فيبقى ويمكث في الأرض، وكثير مما نقدمه حاليا هو غثاء وزبد مصيره إلى الزوال لأنه مجرد تقاليد وشكليات علاقتها بسيطة وواهية بأصول الدين والتاريخ ومسيرة حضارتنا المتألقة!!
أتألم وأنا أرى مصارع المفتونين بما عند الآخرين وأرى دماءهم في رقاب الذي يقصرون في عرض ما لدينا وشرحه وتبيان حقائقه، ودفع الشبهات الكثيرة والغبش والشوائب التي علقت به عبر عقود، وربما قرون!! وفي العالم ملايين من الحلفاء والشركاء وأصحاب القلق والتساؤلات، والباحثين عن الحقائق وأنماط عيش جديدة وأكثر إنسانية بينما دين الله الخاتم الذي نزعم أننا نحمله يتم تقديمه بشكل ماسخ فاتر، وأحيانا مشبوه ومنفر، وتاريخنا متروك للموظفين عندنا أو للطاعنين من الخصوم يتفننون في جمع قمامته، وتقديمها بوصفها حضارتنا!!
والطنين والضجيج الهائل الذي يصدر عن فضائيات وتسجيلات وجهود مخلصة في الدفاع عن الإسلام، أو محاولة الاجتهاد في تقديمه بشكل عصري، هذا كله جهد مشكور ومأجور بمشيئة الله، لكنه يحتاج إلى تمحيص وتدقيق وتطوير يتناسب مع حجم وفداحة التحديات التي تواجهنا، والمنافسة الطاحنة من مؤسسات وجهود وأجهزة وأنظمة تجمع كيدها، وتأتي صفاً!!! معنا الحق، ونوايانا حسنة، ولكن منذ متى يكفي هذا في تحقيق الإنجاز أو ربح مدافعة حضارية، أو إحراز نصر في سباق؟!
إن العالم كله يتقارب، وما كنا نعتبره بالأمس خارج أرض الإسلام قد تداخل معنا، وتداخلنا معه على النحو الذي جعلنا نخوض يوميا آلاف الأسئلة والاشتباكات، ونواجه الشبهات والتحديات فرادى وجماعات، ولم تعد الإجابات البسيطة الطيبة العامة تكفي، كما لم تعتد العزلة تجدي، ولكن يفيدنا الدفاع فقط عبر المبادرة والفعل.
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com