|
|
|
ماستهم وماستنا.. كل الماس دامي! ::
الكاتب: ناهد إمام
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/03/2007
قبل أن تقودني قدماي إلى دار العرض تلك التي شاهدت فيها "الماسة الدامية", كنت اعتقده فيلم أكشن عادي, أو قصة حب فيها تحابيش سينمائية معروفة فما الذي يمكن أن يقدمه ليوناردو دي كابريوا بطل تيتانيك سوى ذلك, لذا لم أتحمس لتضييع وقتي هناك إلا أن إحدى صديقاتي أكدت لي عكس ذلك وأغرتني بأن الفيلم يقدم "الصحافية" –وهذا بالطبع أمر يهمني– بشكل مهني واحترافي عالي, ربما هو الشكل المقارب لما أحلم به كصحافية بالليل ثم تطلع عليه شمس نهار بلادنا الحارقة فتذيبه تماماً وربما تحوله إلى أشلاء.. المهم.. ذهبت إلى دار العرض ولاحظت قلة الجمهور في مقاعد المتفرجين وأنهم كانوا في الغالب الأعم أجانب أوروبيين وشرق آسيويين وقلة من المصريين "المثقفين" هكذا أوحت إلىً وجوههم!
وفي الحقيقة لم أجد في مشاهد الفيلم الأمريكي "الماسة الدامية" سوى لقطات واقعية طبيعية من الحياة.. ولأن دراما الفيلم تشعبت أبعادها وظهر فيها وبشكل طاغ البعد الاجتماعي والإنساني إضافةً إلى الأبعاد الفكرية والسياسية.. فأنت لا تستطيع أن تفصل نفسك عن تلك الأحداث وإسقاطاتها التي تمسك مباشرة وتلمس بعمق معناها الأجواء الاجتماعية والفكرية من حولك شئت أم أبيت.
فالماسة الدامية غيرت نظرتي لشبكة صديقتي الألماس "السوليتير".. تلك الحبات المرصعة في عقد ثمين أو خاتم أنيق ليست في حقيقتها هكذا ولم تصل إلى العنق الجميل أو تزين المعصم الناعم إلا على أشلاء أجساد لبشر لم تكن تعني لهم سوي كسرة خبز وبعض الفاكهة, وحضن أسري دافئ!
واكتشفت أن ماستهم الدامية هي نفسها ماستنا الدامية أيضا "الثروات المختزنة في باطن الأرض" والتي يتم الاقتتال والصراع بشأنها بين القوى الخارجية والداخلية.. فشعوب الماس هي نفسها شعوب البترول وشعوب الذهب وشعوب الغاز واليورانيوم وشعوب القمح والقطن و... و..
ستكتشف معي أيضا عزيزي قارئ مجانين عندما تشاهد الماسة الدامية أن الحياة من حولنا تعج بألوان شتى من الماس لا تخطر على بال.. فـ "الدفء الأسري".. ماسة "الأمان المجتمعي".. ماسة "مشاعر الأبوة والأمومة".. ماسة "الحلم بمستقبل باهر وسعيد لولدك"..ماسة "الحفاظ على الطفولة والبراءة".. ماسة "المشاعر الإنسانية".. ماسة "الحرية والكرامة".. ماسة "الوطن".. ماسة .."الحياة كلها" ماسة أيضا.. وستجد نفسك حيال تلك الأنواع كلها وغيرها من الماس تتصرف تماما كما تتصرف حيال ماسة ثمينة تمتلكها بداية من السعي الذي بذلته للحصول عليها وحتى الفوز بها والحصول عليها ثم المحافظة عليها والدفاع عنها.. وهكذا نحن جميعا نمضي في هذه الحياة نجمع "الماس" الذي يعنينا ويهمنا ويخصنا.. والتفريط في أي من هذه الأنواع لا يدفع ثمنه شخص بعينه وإنما مجتمع بأسره وربما دول وكيانات عظمى.
فقد إنسان الوطن "الماسة الدامية" تلك البدايات الأسرية الناعمة الدافئة لأسرة "سولومون فاندي" الصياد الفقير التي تعيش في سيراليون في التسعينات وهي الفترة التي كانت فيها المعونات الغذائية المقدمة من برنامج الأغذية العالمي بمثابة طوق نجاة لآلاف المدنيين الذين وجدوا أنفسهم وسط النيران..
.. الأب المحب لأسرته والعاشق لدفئها والذي يحاصرك طوال الوقت بمشاعره الأبوية الدافئة القوية تلك.. يعمل في صيد السمك ويري في ابنه "ديا" كل حياته.. طفل نجيب مؤهل للتعلم والتفوق حتى أن الأب الفقير يحلم بأن يراه طبيباً... وتمضي الأحداث هادئة حتى تقوم الحرب الأهلية التي استمرت لعقد من الزمان، والتي قام متمردو الجبهة الثورية الموحدة خلالها ببتر أطراف الأهالي، واغتصاب النساء، وقتل عشرات الآلاف من الأشخاص أثناء قيامهم بعملية تدعى "الموت للجميع".
يستولي المتمردون على القرية وفجأة تتقطع أوصال الأسرة.. يتم اقتياد الأب ليعمل في البحث عن قطع الماس الطميي الخام الذي لم يتم تقطيعه والمغمورة في الطين والأوحال.. يمسكها بين يديه ولا يستطيع مجرد التفكير في الاحتفاظ بأي منها وإلا فطلقه مميتة من مسدس زعيم المافيا التي تقوم على بيع الماس للمهربين مقابل السلاح ترقبه وتنتظره في التو والحال.
وتنتقل أسرته للعيش بأحد مخيمات اللاجئين التي انتشرت على طول الحدود الليبيرية وفي جنوب غينيا, بينما يتم اختطاف "ديا" مع الأطفال، بين التاسعة و19 عاما، على أيدي المتمردين. وقد أرغم الكثير على العودة إلى قراهم لقتل أو لتشويه أقاربهم الباقين.. لتجد نفسك أمام أكثر ظواهر الحرب تلك بشاعة وهي استخدام الأطفال الجنود. ويتم بشكل مؤثر وصادم للنفس عملية تجنيد الأطفال في الجيوش وتحويلهم إلى وحوش وقتلة لا يعرفون سوي الضغط على الزناد أو الطعن بسكين حتى أن أحدهم يسمى نفسه "جثة" والآخر "سيد الكوارث".. وهكذا!
... سيصاب جسدك بالقشعريرة عندما يتعرّض الفيلم بشكل مفصل لعملية تحويل الطفل إلى قاتل صغير وهي تتم عبر مراحل مدروسة ويقوم بها مدربين اكتسبوا خبرة في ذلك المجال, من خلال برنامج معنوي وجسدي يجعل المشاهد يندهش للا إنسانية التي يمكن أن يصل إليها الإنسان. والمشكلة الإنسانية الحقيقية الأخرى هي أن إعادة أولئك الأطفال إلى حياتهم الطبيعية، يحتاج إلى كثير من الوقت, والجهد والبرامج عالية التأهيل.. وربما تتضح الصورة أكثر إذا عرفنا أن أن هنالك أكثر من 200 ألف طفل في أفريقيا يحملون السلاح تتراوح أعمارهم من السابعة وحتى السابعة عشر!
وتعتبر مشكلة الجنود الأطفال الذين يخطفون بواسطة الحركات المسلحة، أو بفقدانهم لأسرهم في الحروب مشكلة حقيقية عان منها السودان في جنوبه ولا زال يعاني منها في أجزاء أخري. على جانب آخر يظهر "آرتشر" مرتزق أبيض ينتمي لجيش من المرتزقة ويقوم هذا الجيش بمحاربة حركات التحرر المسلحة في بعض دول أفريقيا بدعوة محاربة الإرهاب, هذه المجموعة من المرتزقة تقوم بأدوار مزدوجة، فهي من جانب تقوم بدعم المتمردين بالسلاح من أجل الحصول على الماس وتهريبه إلى أوربا، من الجانب الآخر تتعاون مع حكومة سيراليون لقمع هذه التنظيمات المسلحة.
يتم كل ذلك بدعم الشركات الضخمة وبعض الحكومات الأوربية التي تغض الطرف عما يدور هنالك، يلتقي المرتزق مع صحفية شابة طموحة ذات مبادئ, تسعى لكشف دور الشركات الرأسمالية في تأجيجها الحرب في سيراليون من أجل الحصول على الماس. كما يلتقي أيضا -المرتزق والصحفية- مع صائد السمك الفقير الذي يحاول البحث عن ابنه الذي اختطفه المتمردين.. وإنقاذه.
يتوحد الجميع ثلاثتهم ولكل منهم هدف يساعده للوصول إليه الآخر الصياد يريد الوصول إلى ابنه وإنقاذه من المتردين بمساعدة المرتزق والصحفية, والمرتزق يريد الوصول إلى الماسة الوردية النادرة التي حصل عليها الصياد واستطاع أن يخفيها ويدسها في خرقة قماش ويدسها في حفرة بجوار النهر في مكان ناء, والصحفية التي شاركت من قبل في كشف عورات الحروب اللا إنسانية في البوسنة وأفغانستان تريد ممارسة دورها نفسه في هذه الحرب في إفريقيا هذه المرة ويمثل لها الصياد والمرتزق مصادر جيدة في الوصول إلى ذلك وإتمام مهمتها الصحفية.
الماسة.. ماذا بعد؟ دور سلبي مخرب تلعبه بعض الحكومات ذات التأثير في السياسة العالمية.. شركات عابرة للقارات تقوم بتشكيل وتوجيه الأحداث في القارة الأفريقية وفقا لمصالحها واهتماماتها.. تجنيد الأطفال في الحركات المسلحة "الأطفال الجنود".. تحول الحركات المسلحة في أفريقيا إلى عصابات للنهب والسلب والقتل وتفكيك مجتمعاتها وتفتيت أوطانها تحت شعارات وطنية.. معسكرات اللاجئين الخيار الوحيد والعذاب الذي لا مفر منه حيث تتوطن الأمراض النفسية والأخلاقية وتفقد الأوطان إنسانها.. نهب منظم تنتهجه بعض الحكومات في أفريقيا لنهب موارد بلدانها واستيرادها لأسلحة الدمار لقمع شعوبها.. الدور المهم والإيجابي الذي من الممكن أن تؤديه صحافة الاستقصاء في كشف الحقائق وفضح المسئولين عن الفساد ومعاقبتهم, وتعرية حقيقة المآسي الإنسانية أمام الرأي العام المحلي والعالمي.. هذه كلها وغيرها قضايا ولقطات "الماسة الدامية"..
الماسة الدامية فيلم يغادرك بعد أن تشاهده وقد ازدحم ذهنك بتساؤلات مشروعة منهمرة بلا توقف مثل كيف يحدث كل هذا ولماذا وما الحل.. وسيتسلل إليك إحساس صادق مؤلم بأن كل من يجلس في مقاعد المتفرجين على ضياع "ألماسنا" مدان!!
وأخيرا "الماسة الدامية" من إخراج المنتج والمخرج الأمريكي اإدوارد زويك، وهو مخرج متمرس متعدد المواهب من مواليد العام 1952، تخرج من جامعة هارفارد ومن ثم معهد السينما, بدأ مسيرته كصحفي ومخرج وتلفزيوني ثم مخرجا سينمائيا ومنتجا.. من أشهر أفلامه، المجد -أساطير السقوط- شجاعة في مواجهة النار –الحصار– والساموراي الأخير للممثل الأخير توم كروز. وربما يطل هنا سؤال هو: لماذا قام المخرج الأمريكي بتبني قضية وإخراجها في شكل سينمائي وصفه النقاد بأنه إحدى روائع السينما الأمريكية كهذا؟
وتأتي الإجابة على لسان زويك نفسه حيث يقول: أن السينما تعد وسيلة قوية للمساعدة في نشر الوعي والاهتمام بمشكلة الجوع بصورة أكبر، وهي القضية التي يتجاهلها الكثيرون في العالم الغربي ويفهمها البعض بشكل محدود –كما يقول-، حيث يهتم اغلب الأشخاص بالمحيط الذي يعيشون فيه.. الجوع هو الإدارة السيئة، الجوع هو الاحتياج، الجوع هو الفقر، الجوع هو عدد من المشكلات.. إنه ثمرة نظام ما، فحينما يكون لديك نظام لا يساعد على إثراء حياة أشخاص يُساء استغلال موارد بلادهم، فإن هذا يؤدي بدوره إلى الجوع، وأعتقد أن هذا هو الوضع في كثير من المناطق في إفريقيا، وبقاع أخرى من العالم.
لذا فإن استطعنا من خلال فيلم أن نضع تلك الصورة وهذه المعلومات أمام قطاع كبير من الجمهور الذي لا علم له بها، فإننا نأمل بذلك أن نكون قد أسدينا إليهم صنيعا! لا أدري لماذا ذكًرتني تلك الكلمات الآن بـ "المسجد الأقصى" ربما لأنه "ماسة".. ولأنه أيضاً "دامية"؟!! وربما أيضاً لأن الوضع الآن بحاجة ملحة إلى مخرج مثل "زويك".. يستطيع من خلال فيلم أن يضع صورة ومعلومات أمام قطاع عريض من الجمهور "الرأي العام العالمي" ويأمل بعد ذلك أن يكون قد أسدى إليه صنيعاً! نحن بحاجة إلى "إدوارد زويك" قبل أن تهدم الماسة!
اقرأ أيضاً: التاريخ وعاريات الصدور/ يا سنة سموكي!! / مدونات قهرستان: كل الكراسي في الكلوب / العروسة.. ماما! الست دي أمي.. / لكني أتيت! / العشوائيات.. والأعشاش / ما وراء هالة.. وخبرها!
الكاتب: ناهد إمام
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/03/2007
|
|
|
|
|
|
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com
|
حقوق الطبع محفوظة لموقع مجانين.كوم ©
|
|