إغلاق
 

Bookmark and Share

رجل في حياتي ::

الكاتب: ناهد إمام
نشرت على الموقع بتاريخ: 27/05/2007


ترى ماذا يمكن أن تفعل الواحدة منّا عندما تجد رجلاً يحبها بإخلاص واستمرارية لا تنقطع لسنوات تتجاوز الثلاثين عاماً بقليل؟ بل وبماذا تشعر عندما يكون هذا الحب صافياً نقياً بلا شوائب من هوى أو منفعة شخصية أو شهوة أو متعة أو مقابل مادي من أي نوع؟ أو حتى مقابل معنوي هو الآخر من الممكن أن يدخل في دائرة غير المنتظر, أو غير المضمون فمن يدري هل يشعر الآخر ما يقدم ويبذل له أم يتعامل معه بعقوق أو يراه حقاً مشروعاً أو مكتسباً؟

وماذا يكون حالها وهي تعرف كما يقولون أن "الرجل أناني بطبعه" ثم تجد رجلاً يضع عمره وماله وصحته وشبابه وكل ما حباه الله سلماً لكي تصعد محبوبته عليه؟!
ليس هذا فحسب بل إن هذا الحب العجيب يزداد مع لحظات الضعف والانكسار فيتحول إلى "سند", تماماً كما يزداد في الفرح والسعادة فيتحول إلى شراكة وصداقة مخلصة, وهذا الحب هو بالأساس كان يمهد لك السبل ويهيء لك الظروف والإمكانات لكي تنجح وتتقدم, وبدون أن يتعامل معك بمنطق الحق والواجب. حباً غير مشروط.. يعبر بك التحديات ويكسر معك المعوقات فلا يكون هو نفسه مثلا وبدعوى "الحب" عائقاً, بل وربما يتنحى من طريقك إذا ما شعر أنه سيكون كذلك! هل جربتم حباً كهذا؟! هل تطمحون لحبِ كهذا؟!

واحدة من وسط ملايين البشر جربته أنا وتنعمت به وعشت فيه ومعه.. هو جزء من حياتي لا أستطيع العيش بدونه لذلك كنت أعتبره وكأنه أمراً طبيعيا ً خلقه الله لكي أعيش تماماً كالماء والهواء.. فلم أكتشف نعمته إلا متأخراً عندما نضج مفهوم ومعنى الحب عندي وخبرت الحياة ودرت في سواقيها!

لطالما أعجبت وأخذتني الدهشة كلما قرأت عن حب "محمد" صلى الله عليه وسلم لـ "فاطمة" وأنه كان يعبّر عن هذا الحب فعالا ومقالا.. فـ "فاطمة بضعة منّي".. وما يؤذيها يؤذينه فيعتلي المنبر معترضاً على زواج علي بأخرى.. صلى الله عليه وسلم.. وكان يقوم لها ويقبلها ويلاعب صغارها.. إلخ سيرته صلى الله عليه وسلم التي امتلأت حباً للابنة وأولادها.

ولم أكن أحلم بالطبع أن أجد لي أباً يتخذ من نبيه قدوة بالفطرة بدون أن يتعمد أو يقصد.. قدوته محمد صلى الله عليه وسلم في حبه للبنات, وذريته من البنات.. هذا هو أبي.. هدية السماء, وهذا هو الحب صاحب الأيادي والفضل.. قدر الله أن يمنحني أباً يسميني "ناهدا" وهو يعلم دلالة الاسم ويعرف أن لكل من اسمه حظ ونصيب, أفتح المعجم فأجد "ناهد: نهد الشيء أي علا وارتفع!".. ومن هنا ربما تبدأ القصة بكل تفاصيلها وتداعياتها.

فقصة أبي معي سارت على قضبان ما علا وارتفع.. وجدت أباً يدفعني باتجاه ذلك, فهو الذي رزق بذرية كلها من البنات لم يستجب في شبابه لإلحاح الأقارب بأن يتزوج مرة ثانية ربما ينجب "الولد" وكلنا يعرف ما يمثله "الولد" في مجتمعاتنا وفي صعيد مصر خاصة حيث ترجع أصول أسرة والدي, وكان يقول لكل من يستحثه أن الله منحه 4 هدايا يقرون العين في كل شيء وأنه لا يريد غير ما أراد الله, ولأنني الابنة الكبرى فقد حظيت بالكثير من عطايا وقناعات الرجل القانع والمحب للبنات!

كان حرصه على أن أكون في المقدمة دراسياً وخلقياً, علمياً واجتماعياً, ترجمة حقيقة وليست إنشائية لهذا الحب, تربية على الثقة بالنفس, التسلح بكل ما هو ممكن من علم وغيره جزء مما تربيت عليه, التواضع وحسن الخلق هي من العلو الارتفاع الذي لا يستغني عنه أبداً, الشهامة والأصول والواجب لديه "تطلع" من الرجل والمرأة, فالرجولة خلق عام. غير مستكينة لظروف أو ظلم, لا أتكل على أحد في إنجاز مهامي.. هكذا نشأت. ومن عزة نفسه شربت, ومن عصاميته تغذيت..

شرف آخر حظيت به بأن كنت ابنة لرجل من جيل: قم للمعلم وفه التبجيلا .......... كاد المعلم أن يكون رسولا!
لقد عاش أبي الزمن الجميل فالجيل الذي ينتمي إليه من المعلمين هو الذي أسهم في بناء الصروح العلمية لدول الخليج في الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات فعشت معه جزءا من هذه الرحلة الثرية, أما السعادة الأكبر فهي عندما تعلم أنك تنتمي لرجل تصلي عليه "أي تدعو" الحيتان في البحر والنمل في الجحر وهكذا معلمي الناس الخير كما ورد في الأثر, وكيف أن هذه المهنة هي مهنة الأنبياء على مر الزمن. ينال شرفها من يدرك كنهها وقدرها ويتخلق بخلقها.

في أوائل الثمانينات تعين عليه السفر للإعارة إلى سلطنة عمان ومن قبلها في السبعينات أدى المهمة نفسها ولكن في الكويت, وفي بلدة ثائية حيث تبني السلطنة مدنها وقراها, طلب منّا كأسرة أن نقيم حيث يؤسس والدي لمجموعة من فصول الإعدادي والثانوي في المدرسة الوحيدة بالبلدة قرب مدينة نزوي بالمنطقة الداخلية بالسلطنة وواجهتنا المشكلة.. فأنا بالصف الأول الإعدادي والبلدة الناشئة لا توجد بها مدرسة إعدادية للبنات.. فقط مدرسة ابتدائية!

ولم يكن هناك من حل سوى أن أنضم لمدرسة البنين التي تضم فصول الإعدادي والثانوي.. وكان التحدي كبير.. له ولي.. بنت وحيدة في مدرسة بنين إعدادي وثانوي و.. ليست من أبناء الوطن وإنما وافدة.. مصرية!

أبي معلم اللغة الإنجليزية والمتمكن من العربية والمبدع في الزجل والإلقاء كان موقعه وموقفه حساساً بالطبع, ولا زلت أذكر "الشيخ زاهر" معلم التربية الإسلامية العماني الذي كان يشاغب مع أبي مداعباً إياه أحياناً فيتعمد أن يناديني أمام والدي في المدرسة قائلا "إزيك يا بنت مستر إمام!" ولكن والدي كان لا يمررها أبداً فيمازحه قائلا "لا.. أنا هنا مستر لكل الطلاب ودي اسمها ناهد.. أما بنتي ففي البيت وبس" وهذه لم تكن مجرد كلمات وإنما تعبير عن معاملته لي بداخل المدرسة بالفعل فلم تكن هناك أية خصوصية أتمتع بها سوى الحرص على عدم احتكاكي بالبنين فقط, فالفتاة المحجبة -التي هي أنا- جلست في "ديسك" منفصل في مقدمة الفصل, وبمجرد أن تنتهي الحصة تخرج مع المعلم إلى غرفة المعلمين ثم تدخل الحصة التالية مع مدرسها, الفسحة أيضاً علي أن أقضيها في غرفة المعلمين, وهكذا سارت حياتي المدرسية لثلاث سنوات, ولكن المفاجأة التي لم تكن في الحسبان هي أن البنت المصرية كان يأتي دائماً ترتيبها "الأولى" على المدرسة وهذه كارثة وتحدي آخر من جهة أبناء المدرسة والبلدة وأهاليهم فعقولهم لا تستوعب ذلك ولا تقبله ولكنها الحقيقة التي لم تستطع الإدارة أن تتلاعب فيها, ومن ناحية أخرى بدا ذلك مدهشاً للبعض وبالتحديد لـ "مستر جون" البريطاني موجه اللغة الإنجليزية الذي كان يحاول إقناع العقول بأن الفتاة العربية تملك عقلاً وإرادة وتستطيع أن تفوق أقراناً من الذكور, والذي كان يتعامل معي بتشجيع وإعجاب.. ودماثة ولباقة لافتة وكأنني آنسة جامعية!

وكنت أسمع البعض من زملائي البنين يتهامسون أنني أرى بالبيت امتحان اللغة الإنجليزية التي يدرسها لنا والدي وأطلّع على أسئلة الامتحان وهذا هو سر تفوقي, وهم بالطبع لا يعلمون أنه أي والديكان يضع الامتحان في غرفة المكتب المغلقة ومنها إلى الشنطة "السمسونايت" المغلقة بالأرقام السرية ومنها إلى درج مكتبه بالمدرسة ومنه إلى طلبته جميعاً وكنت أنا من بينهم, وأن كل معلوماتي عن الامتحان هي ما يقوله للجميع بالفصل.

موقف آخر لا زلت أذكره ففي تلك البلدة النائية كانت الهوام "تسرح" أحياناً خاصة في الصيف وحرارته.. ولا أنسى أنني كنت أجرى يوماً وألعب بحديقة المنزل وإذا بي فجأة أجد نفسي بمحاذاة ثعبان كبير ملتف حول نفسه مدأ رأسه نحوي وإذا بأبي قبل أن أنهي صرختي فزعة قد تحول إلى إمام باتشان وطار بي بعيدا منهالا على رأس الثعبان منهياً حياته التي كانت ستخطف حياة محبوبته! وهكذا مثّل لي أبي دوماً "المنقذ", والصديق, وحصن الأمان في هذه الدنيا.

في الخامسة عصرا من كل يوم كنت أجلس إلى جواره أستمع إلى "إذاعة لندن" وربما تناقشنا بعدها حول بعض الأخبار فأتعلم وأفهم وأهتم, وبعدها يسترخي أبي في جلسات أصيل مع "أم كلثوم" وهو صاحب الأذن الموسيقية المميزة للجميل.. فحفظت "ولد الهدى" وكنت أقف في إذاعة مدرستي أنشدها وأقلدها.. وفي الليل ربما شاهدنا فيلماً أجنبياً في جهاز الفيديو بلا ترجمة حتى أتعود أن أسمع اللغة وأفسرها وأفهمها!

أثرتني هذه السنوات مع أبي بالفعل ونحتت بداخلي معان عززها هو.. وظل هو كما هو دافعاً لي على قضبان العلو بكل ما يملك. لا أذكر أنني سمعت منه يوماً سباباً ولا كلمة نابية لنا ولا لغيرنا ومهما تكن الظروف والملابسات, عفة اللسان لديه أمر محسوم ومنتهي, هذا فضلاً عن أن تمتد يديه ببطش وعقاب, فلم تصدر عن يديه سوى تربيته على كتف, أو ضغطة فخر في مصافحة, أو مسحاً على خدي في رضا, أو حملا لجسدي في مرض, أو إعطاء لمصروف في كرم وهذه طبعاً لا تنسى أبداً!

كانت أجمل كلمة تعجبني عندما يقول لي "لمّاحة أحب ذكاءك", والآن كلما ربّت على ظهر ابني "نور الدين" قائلا.. أتذكر على الفورتلك الصغيرة ناهد التي كانت يوماً ما لمّاحة ولا زالت تعافر! genius برافوا: وأجمل اللحظات عندما يتأثر بدموعي إذا ما اختلفنا حول أمر ما فيمسحها ويقول بحنو: "لا تنامي وأنت زعلانة.. غدا نكمل النقاش وربنا يقدم ما فيه الخير".

في مرحلتي الثانوية والجامعية مررت بتحولات فكرية عدة, والبداية أيضاً بدأت من عنده, فقد شدتني منذ الصغر عادة القراءة تأسياً به وأصبحت مكتبته قاسماً مشتركاً بيننا وأحياناً محلاً للنزاع! وكانت قراءاتي تلك تحرك عقلي كثيرا حتى جاءت اللحظات المناسبة بالجامعة لكي أتبنى بالفعل أفكاراً وأكّون عقلية وفكر, في البداية كان سعيداً وكنّا كعادتنا نتناقش في أجواء ديمقراطية وحرة جداً, وكثيرا ما كان يبدي إعجابه بنضج عقلي ومحاوراتي وتفكيري معه ولكن التحولات والتغيرات التي أصابتني كانت تعلو كالموج أحياناً بطبيعة مرحلتي العمرية المتحمسة..

فأخالفه الرأي بشدة ورغم ألمه لم أكن أجد منه مصادرة أو منع.. فلا يعدو الأمر اعتراضات هادئة توضح الرأي ثم يتركني لأقلب أموري وأراجع نفسي بدون غصب ولا إكراه, فقد كانت بيننا علاقة من الاحترام أزعم أنني حظيت منها بالقدر الأكبر فقد تمتعت مع والدي بقدر عالي من احترامه لذاتي لم يلجئني لتسول احترامات أو تقدير خارجي في مرحلتي تلك أبداً ووقاني الكثير من الاهتزازات التي كان من الممكن أن أتعرض لها.. هذا التفهم والتفاهم وسعة الأفق مع مزيج من الصداقة والعاطفة الأبوية الحانية كان لها الفضل الكبير في تعديل مساراتي إلى الأفضل دائماً, وإذا كان الإنسان يسلي نفسه أحياناً بأن قراراته الخاطئة كانت أقدارا علمته الكثير إلا أن ذلك لا يغني من الاعتراف بأن أشد الأمور إيلاماً أيضاً هو الندم على قرار خاطئ رآه الأب المحب بنور بصيرته وهداية حبه المخلص منذ البداية خطأً وحذر من عواقبه ولم ألق له بالاً فأمضيته وهو خطأ!

حظيت بتربية جميلة ولكنها مثلت لي تحدياً وأزمة في كثير من الأحيان خاصة تلك التي لم أكن أجد فيها من يماثل والدي أو من يتعامل معي مثله كما عودني, في محطات من حياتي كثيرة كنت أفتقد من سيّرني على قضبان الارتفاع ولكن لأنني كنت قد شببت عن الطوق.. وقد حفظت أيضاً السر الذي صار عهداً وخلقة وامتداداً.. عرفت أنه علي أن أحفظه وأنميه وأشّرفه, وأن من سيّرني على القضبان لا زال يرمقني ويلحظني ولكن من بعيد كي يطمئن.. سافرت منذ 5 سنوات وقد أصبحت صحافية وزوجة وأم إلى الكويت, وواصلت السير على القضبان وذات يوم أرسلت له بالمجلة التي شرفت بالعمل في إدارة تحريرها وكتبت بداخلها في ورقة صغيرة "ها هو اسمك على ترويسة هذه المجلة.. جهد المقال الذي تأخر كثيراً.. سامحني!"..

لقد كانت هذه هي الحقيقة التي كنت أراها دائماً.."اسمه" وليس اسمي, فاسمه هو أحد الدوافع والأسباب ونية من النيات التي أسر بها لربي عند قيامي بعملي وأعتبرها باباً من أبواب البرً لهذا الحب, كان علي دائماً أن أطمئنه أنني ربما أقع 4 مرات ولكنني أقوم خمساً تماماً كما أقوم خمساً لله وأن الخمس الأخيرة التي علمنيها هي سبب صعودي من حفر الطريق والعثرات.. الله وحده هو الذي يعين ويستجيب لدعاك, ولأنني لم أنسى "الحب" الذي أثمر بشراً لازال يقاوم كمد وكبد الحياة حتى يحقق حلم الحب وأمله, لن أتوقف بإذن الله إلا مع توقف أنفاسي راضيةً بقضائه وقدره.. تماماً كما علمتنا أن الرضا من أجمل العبادات وتماما ً كما رضيت عندما فقدت إحدى عينيك الحبيبتين في عملية جراحية منذ سنوات فحمدت الله أنك ترانا الآن أجمل, وأحب.. ولا زلت تذاكر لأولادي دروسهم في الإنجليزية, وتصحح لهم الامتحانات في دور ممتد كامتداد حبك ورضاك.

فيامن تعلقت بأستار الكعبة صارخاً مبتهلاً في حجك منذ شهور داعياً: يا رب بناتي.. يا رب البنات.. يا صانع الحب وراعيه.. مرضت منذ أيام فأثرت الأشجان, وحرّكت عميق الحب في الوجدان.. ولكن الحب يا أبتي لن يمرض سيظل حاملاً للآمال.. سائراً على القضبان!

اقرأ أيضاً:
التاريخ وعاريات الصدور/ يا سنة سموكي!!/ مدونات قهرستان: كل الكراسي في الكلوب / العروسة.. ماما! الست دي أمي.. / لكني أتيت! / العشوائيات.. والأعشاش / ما وراء هالة.. وخبرها!  / ارفعوا أيديكم عن ابنتي! / أمي.. حضني! ذكرياتي مع الحلوة / مطلوب عريس / اعترافات قهرستانة مصرية! / مطلوب عريس 2  / سيد الرجالة كمان وكمان / انفلونزا الــــــ 



الكاتب: ناهد إمام
نشرت على الموقع بتاريخ: 27/05/2007