حكايا رمضان الحصرية ::
الكاتب: ناهد إمام
نشرت على الموقع بتاريخ: 04/10/2007
ومضى أغسطس أحزاني!
هكذا كانت جدتي تردد مقولتها المأثورة عندما تودعنا.. "الحي يلاجي - يلاقي – الحي" كانت رحمها الله شابة -نعم شابة– في الثمانين من العمر قبل وفاتها بأيام زغردت لنجاح أحد أحفادها بالجامعة, إن جالستها تجدها ضاحكة مبتسمة مصرة على أن تنقل إليك العدوى.
نكبت حبيبتي رحمها الله بفقد نور عينيها منذ 14 عاماً, ولم تفقد أبداً مع ذلك رضاها ولاروحها الجميلة وبسمتها الدائمة وحبها للحياة. كانت تحب من الأقمشة ألوانها الزاهية وملمسها الناعم ومن القصات الكرانيش والكشكشة على الصدر والأذيال.. كانت "جدة" جميلة تحب مباهج الحياة وزينتها التي أخرجها الله لعباده.. كف بصرها لكنها لكم تكف عن الإحساس بالحياة والناس والأحباء من حولها.
ساهمت جدتي بدور قوي في حياتي بدعواتها وبركة وجودها, وساهمت من حيث لا تدري أيضاً في بناء جزء من شخصيتي في طفولتي بحكايانها و"حواديتها" الممتدة السيناريو كقصر الشوق والسكرية.. نعم.. أجزاء وحلقات وسعة خيال مدهشة.
كانت حكاءة من الطراز الأول, ولا زلت أتذكر تلك الأيام التي كانت تقضيها معنا في رمضان صغارا من كل عام حيث نتسلل مساءا بعد نوم أمي وأبي وجدي قبل السحور إلى شرفة البيت, نغلق بابها بهدوء ونجلس إليها في أمسيات صيفية تمتد حتى موعد السحور!
لسنوات وسنوات وفي رمضان من كل عام كنًا قد وقعنا مع جدتي اتفاق حصري لهذه الحكايات, نجلس في الوقت نفسه من الـ11 مساءاً حتى الـ3 فجراً مشدوهين, مستمتعين, تبدو لنا جدتي امرأة مدهشة بلكنتها الصعيدية وحكاياتها الثرية بمؤثراتها الصوتية وموسيقاها التصويرية.. إنسان يحمل لك موروث ثقافي بعفوية وبساطة وثراء وسعة خيال وحبكة غير مدبرة ولا متكلفة.
وبرغم أنها رحمها الله كانت مرحة, حبوبة, إلا أنها أيضاً كانت كجدي مرهفة الحس قريبة الدمع, وكان غضبها شديد أو كما نقول بالعامية "زعلها وحش" فإذا غضبت من أحد لا تكلمه حتى تأخذ حقها وإذا لم يحدث فقد كانت تستخدم قدراتها الإعلامية على إثارة الرأي العام العائلي كله ضده حتى يرجع ويندم على إغضابها!
كانت رحمها الله "ذكية" لم يعلمها أحد كيف تحب الحياة, ولا كيف تسترد حقاً مغصوباً, لم يعلمها أحد "الحكي" ولا الحنان, ولا الإيثار.. لا أذكر أنها كانت تتناول نصيبها أبدا من اللحم على مائدة إفطار رمضان كاملاً وإنما لابد أن توزعه جميعه على الأحفاد.
وكان لها ذكاء من نوع آخر مكنها من الاحتفاظ بعلاقة زوجية متينة حتى آخر لحظة في حياتها مع جدي رحمه الله, وماذا يمكن أن ينتظر المرء من علاقة أحد أطرافها ذكي والآخر أصيل هادئ الطبع؟ نعم كان ذكاؤها الأنثوي واضح لا تخفيه, وكانت أصالته رحمه الله تمنعه من أن يجرحها أو يهينها أو حتى يغضبها! كنت أرى ذلك بعيني ولا أفهم ما يشاع عن الرجل الصعيدي وجبروته, وعناده, وبطشه, وخشونته, وصلافته في المعاملة خاصة مع المرأة, وخاصة إذا ما كانت الزوجة وكأنهما من كوكب آخر غير الكوكب الصعيدي الذائع الصيت!
كانت تحبه, وكان يحبها ويكفي أنه قبل وفاته بساعات وبرغم ذاكرته الضعيفة ولزومه الفراش طلب أن يحمل إلى سريرها الذي توفيت عليه.. بعدها بساعات سالت دموعه في هدوء.. نطق الشهادتين وأغمض عينيه إلى الأبد!
منذ 14 عاماً قطعت حبيبتي الأميال من الصعيد لكي تكون في "فرحي" حاضرة.. لم ترني بعينيها ولكن شاشة قلبها المحب عكست لها صورتي, في ليلة زفافي اقتربت مني تحتضنني وتمسح على فستاني الأبيض وشعري وطرحتي.. تتشمم عطري.. تتلمس وجهي وتردد ببراءة وعفوية: "الله.. بتي.. بت ولدي.. الله.. حلوة صلاة النبي".. "إلهي يعمّر بيكي.. إلهي يبارك فيكي.. إلهي يتاجي عليكي"! زغردت وظلت تتمايل رقصاً وفرحاً وسط بنات العائلة والصديقات بخفة وجمال روح سبقت الكثيرات إلى جوارها. قبيل وفاتها بأيام أوصت بناتها وحفيداتها قائلة "أوعوا حد يلبس عليً أسود ولا يصّوت, وكل واحدة فيكم تنام ليلتها في حضن جوزها زي ليلة العيد"! هل رأيت إنسان لا يحب الحزن لأحبابه ولو عليه إلى هذه الدرجة؟ هل صادفت حرصاً كهذا على حياة الأحباء وفرحهم واستمتاعهم؟ "سندسية" و"ينسون" هكذا كانت تضاحك بناتي سندس وميسون, وكانت توصي من حولها بأن يوصلوا لهم سلامها وقبلاتها.. توفاها الله ولم أرها منذ أربع سنوات عندما عطرت بيتي زائرة, أحلت فيه بركتها وغادرت وقصرت أنا في حقها وانشغلت بشئون أسرتي الصغيرة ودوامة العيش, كنت أعلل نفسي بمكالمتها تليفونياً وكانت تتوق هي لرؤيتي ورؤية أبنائي برغم كف بصرها.
حبيبتي.. عندما جاءني خبر وفاتها في يوم مولدي غمرني شعور جارف بأنه لم ينقص من عمري هذا العام عام فحسب وإنما سقطت معه أيضاً ورقة مبهجة جميلة من أوراق شجرة عائلتي.. وجزءاً جميلاً مهماً من تاريخ حياتي قد دفن وأصبح هو الآخر رفات إلى رفات!
ويدور الزمان دورته, ويقارب رمضان أن يأتي صيفاً كما كان يأتينا صغاراً.. سيأتي يا أحبائي وما أقسى أن أتذكر طفولتي في رمضان الصيف بدونكم.. بدون حكايات جدتي ودعوات جدي وقرآنه! عند قبرهما دعوت.. بكيت.. انتحبت.. يا الله.. تحت هذا التراب حبيبة دعت وفرحت وحكت وآثرت. يا الله.. تحت هذا التراب حبيباً دعى وتمنى وفرح وأحب بصدق وآثر وأعطى. يا الله.. تحت هذا التراب جذورا توسدت التراب.. نشهدك أنهم أدوا الأمانة فاجعل لهم ذلك زاداً يبلغهم, وينجيهم.. يا أرحم الراحمين. فإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا لفراقكما لمحزونون, ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. أحبائي.. جذوري.. أراكم بخير!
اقرأ أيضاً: التاريخ وعاريات الصدور/ يا سنة سموكي!!/ مدونات قهرستان: كل الكراسي في الكلوب / العروسة.. ماما! الست دي أمي.. / لكني أتيت! / العشوائيات.. والأعشاش / ما وراء هالة.. وخبرها! / ارفعوا أيديكم عن ابنتي! / أمي.. حضني! / ذكرياتي مع الحلوة / مطلوب عريس / اعترافات قهرستانة مصرية! / مطلوب عريس 2 / سيد الرجالة كمان وكمان / انفلونزا الــــــ / أنفلونزا الكلاب في المعادى! / رجل في حياتي / دكتوراه عاشقة الورد! / محمد وشهد.. تعالى لي يا أما! / أم كلثوم ولا نانسي.. هوه الخلع لعبة؟!
الكاتب: ناهد إمام
نشرت على الموقع بتاريخ: 04/10/2007
|
|