مذكرات رجل ما (1) ::
الكاتب: أحمد الكناني
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/03/2005
مبنى الجامعة شاسع للغاية, إذ يمتد على ستِّ شوارع كبيرة تخترق أقسامه التي علّقت جسور بينها. أسير بسرعتي المعتادة متوجها لقسم الفلسفَة. مبنى صغير على الطراز اليوناني, مطلي بالمصيص الأبيض وذا بوابات مزخرفة بأشكال هندسيّة من الجبس.
إن من مساوئ هذه الجامعة, كثرة الطلاب العرب فيها, و هذا يعني الكثير من الأمور المزعجة بالنسبة إلي. أنني ذاتي لأمتعض من سلبيتي من بني جلدتي, إلا أنها سلبية ضرورية واقعاً, إذ لا أطيق صراخهم بالممرات, تحيتهم الصاخبة نحوي, سرورهم الدائم والغير منطقي.
أفكر بهذا بينما أرمق مجموعة من الطالبات العربيات حلقات حول زنجي مدمن على المخدرات, ينهش أجسادهن المفضوحة, ويتمايلن على تفاهاته وصرخاته الفارغة. يتلفتن جميعا نحوي, وكيف لا يعرفنني؟ ألست من تشاجر مع أمل؟ تلك التي تسمح لحثالة الأمريكيين بالعبث بجسدها. كنت واضحا معها, إما أن تخلع الحجاب وتمارس ما يحلو لها, أو أن "تحترم نفسها" كما أخبرتها بهدوء صارم.
أتجاهلهن ونظراتهن العدائية, أمضي متوجها لقسم الفلسفة بينما أمسح المنطقة بحثاً عن "صبري". لقد مللت نصائحه المغرضة, عن ضرورة ذهابي لبلدي ومجاهدة الأمريكيين. كنت قد قررت أن ألكمه بهذا اليوم إن هو اعترض طريقي, لا لأجل النصائح البائسة, إنما لأجل تحريض "منى الكناني" ضدي. علي أن أقول, نحن العراقيون قليلون بالجامعة, فلا يوجد سوى ثلاثُ طالبات وشابين من هذا البلد, ومنى الكناني الأشد تدينا والأقرب لي من منطلق الأسرة والقبيلة, إلا أنها من الفرع السُني, الأمر الذي لا يشكل أي عقبة بالنسبة إلي.
كان واضحا أنها تحمل نوعا من الإعجاب الممزوج بالخوف تجاه شخصي, ولم أكن أنا من لاحظ هذا لوحده, إنما صبري كذلك. وكالعادة, كان صبري يأتي بأوراق مطبوعة من الإنترنت لمن يريد له أن يصدقه. أحاديث, تفاسير دينية, قصص وعيد وجحيم وأقوال شيوخ يعرفهم هو. وشخصيا, كنت قد قررت أن أعمق علاقتي بمنى, لعلي أنسى الأخرى التي ما تركتني أنام, علما أنها فكرة خاسرة مقدما, لأن الأخرى ستنتصر وستبقى بدمي من جديد.. تلك البدوية الجميلة.. أنها ليست المعركة الأولى على أية حال.
كنت أفكر بزواجٍ عادي, فهذا أفضل من محبة إنسانة تتخلى عني. ويبدو أن صبري لم يطق علاقة فتاة من الطائفة السُنيّة مع شاب من الطائفة الشيعية, حتى وإن كان من ذات بلدها و من ذات الجد أيضا! هذا ناهيكم عن عدم ثقته بحرية قرارها, فهؤلاء المتشددون الدينيون لا يعترفون أن للمرأة عقلا أو قيمة. لا هوية لها, لا منصب, لا رأي سياسي, لا رأي من أي نوع. وعليها أن تقبل من يختارونه لها, وأن تتعرى بمذلة لتُنكح بحيوانية- إياها أن تطلب منه ما تريده من هذا فعندها ستكون بغي- ثم لتحمل ولتنجب.
ردد صبري ذات يوم أن عمراً بن الخطاب (رض) ما جامع امرأة إلا لولد (فتى أو فتاة), فرمقته بسخرية وقاطعته بقولي: وهكذا فإن عمراً (رض) لم يكن يملك أدنى شهوة على حد قولك, وأن علينا أن نتعاطى الكافور لنغلب شهواتنا بدلا من التعامل معها بشكل صحيح. أدار وجهه إلي مجيبا بشفاه قاسية: نعم. علت قهقهتي المستهزئة ثم أعقبت: تحذرون الناس من الزنا, فإن انتهوا حذرتموهم من اللذة الجنسية مع شركائهم بالزوجيّة.. أي أدمغة تحملون أيها المتحجرين الظالمين, ومالكم ومالعمر (رض)؟ اتركوا الرجل وكفّوا عن التكذيب باسمه, فلو كان حيّا لأمر بإخاطة أفواهكم. كان صبري مغتاظا, وككل متطرف أبله, حاول أن يحل المشكلة بقوة ذراعه, إلا أنه نال صفعة قاسية مني, أدرك بعدها أن حل الأذرع قد لا يكون الأنجح معي.
هكذا هو الحال, اعتذر صبري لاحقا وبدأت نصائحه التخوينية المغلفّة بالتعالي, إلا أنه حذّر "منى" بشأني, ولاشك أنها ارتعدت من تلك الفتاوى المرعبة التي أتاها بها, ولاشك أيضا أنها قبلت مكرهة على أن تخطب وتعقد لأشكوري. "برهان أشكوري", طالب باكستاني بليد, يدرس بقسم إدارة وأعمال. كان قد ألح على والده ليخطب منى من والدها (صديقه), لكنما منى رفضت الفتى لبلادته أو لشيء آخر, ولعل المفاجئة لم تكتمل إلا بعد أن قبلت به كمحاولة للهرب من شبحي أو شبح عذاب ما ينتظرها وفق أوراق "صبري".
كانت هناك, عند بوابة مبنى الفلسفة, تقف مع "أشكوري" البائس, ببطنه البارزة, بملابسه الغير متأنقة ولحيته الكثة المثيرة للقرف. توقفت قبالتهما مع مجموعة أخرى من الطلاب, كنا نتحدث عن الدراسة الأخيرة وطول القراءة المطلوبة فيها, في الوقت الذي كانت عيناي تمسح المنطقة بحثا عن "صبري", فالفتى يترك قسم "الحاسوب" ويتجول كغجري بالجامعة. كنت أريد أن أحرجه بحديث آخر أمام الطلاب وبالإنجليزية هذه المرة, ليعرف الكل غباء هؤلاء المتطرفين الإرهابيين.
"ليش مدا تسلّم" تقول ذلك منى الكناني بلهجة مستنكرة, أتأمل جمال وجهها لوهلة, أتأمل سحنة أشكوري الغبي خلفها, ثم أجيب- وبالإنجليزية- أنني شيعي كافر ولا أودّ تدنيس طهرها بتحيتي. وأن عليها أن تصدق قصص صبري عنّا, فنحن نشتم الصحابة إن أسميتم "الدراسة التاريخية" شتما, ونحن نضاجع أخواتنا ومحارمنا بعاشوراء. كان أشكوري يبتسم بظفر, لكنه أزال ابتسامته بعد أن رمقته بعصبية. حسنا يا أشكوري الوغد, ابتسم كما يحلو لك, لكنني أثبتّ لمنى غبائك, فهي لن تصدق كلمة مما قلته, لأنها أعرف ببني جلدتها منك أيها البائس. مسكينة منى, تهورت بعقد زواج لا يمكن الإفلات منه, لأن والدها سيقطّع حزامه عليها إن هي تراجعت, وقريبا سيشخر أشكوري بأذنها وسيرطن لها بالإنجليزية~الباكستانية خاصته, ويملأ بطنها بالكاري والبهار, تاركا إياها حبيسة المنزل (أشكوري لا يؤمن بعمل المرأة بالمناسبة) ذاهبا هو لمحاله التجارية لينصب على المتبضعين, ولم لا؟ أنهم "كفرة" مثلي ويجوز أذيتهم..
هذا هو إسلامهم المتطرف. إسلام اللحى المتطرفة, إسلام ضرب الأبراج التجارية, إسلام تفجير المدارس وقتل الشرطة بالعراق. وها أنتِ يا منى الكِناني, يا أكديّة الشفاه.. يا نخيل.. يا أمطار.. يا طمي الفرات ودرائحته المسكونة بوادي نهديكِ.. يا ابنة عشتار.. ها أنتِ تقفين بين رجلين؛ وغد يتصرف بعدائية وتطرف, وآخر يقف بملامح ثابتة, إنما غاضبة, ومحاولة للإنعتاق من القهر تحت أي عنوان كان. بمحاولة للعودة لأصل الأشياء, لبساطة الأشياء, لعقلانيّة الأشياء, لجمال الأشياء.. شيعي هو, أو غيره, فما يهمك؟ مادام مسلما وذا مباديء واحدة كمبادئك؟
"ليذهب أشكوري لقسمه السخيف بدلا من التسكع بالأقسام العظيمة" قلت هذا ومضيت. أتركها وسط نظراتها المتألمة- دون معرفتي لنوع الألم- وأجلس في القاعة الصغيرة, ذات المقاعد المدرّجة كمسرح روماني صغير مقام على كراسي وثيرة, بدلا من مقاعد متلاصقة من الصخر. جلست هي قربي تماما هذه المرة, بدلا من الجلوس بآخر القاعة كعادتها. قالت دون أن تحيل عينها عن خشبة المحاضرات: -الاحتلال من يريد زرع الفتنة يابن العم..عليك أن تكون حذرا.. =صبري أسوأ من أي احتلال وكذلك أشكوري.. -ربما يا بن العم. = ابن العم؟ منذ متى؟ -منذ البداية. = كذب.. -وما كان المطلوب كي تصدق؟ أنت انطوائي.. عليك أن تذكر هذا جيدا. = صحيح. -إذن؟ =إذن ماذا؟ -لا تتغابى.. =لم أطلب شيئا بعينه منكِ.. مجرد تفهم ولا طائفية, فأنا وأنت لم نخيّر بطائفتنا التي ننتسب إليها.. وعلى أية حال.. هذا ما كان مطلوبا. -كان؟ = نعم كان.. -و الآن؟ = الآن لاشيء. -المعنى =أنت متطرفة منهم.. -كذب. = أشكوري؟ -سأتركه.. أقهقه ساخرا, فتعيد كلامها متوترة وغاضبة: - سأتركه أقول لك.. = لا أعتقد. - سترى. = كيف؟ - سأطلب من ابن عمي حُسام في بريطانيا أن يساعدني بدعوى خطبته لي.. وسنفترق بعد حين.. أبي لن يتمكن من أذيتي لهذا لأنه يخاف من بطش حُسام. = الزواج من ابن العم وعدم السماح للبنت بالرفض..مقاومة التخلف بتخلف إذن؟ -هو ذاك. = وحسام؟ -ماذا عنه؟ = إن هو تمسك بك؟ -ليتمسك, ولمَ أنت مهتم؟ = لم أجد ما أقوله لها, فضلت الصمت وفعلت هي ذلك أيضا. حاولت النهوض فتمسكت بطرف ردائها, متمتما دون أن أحيل وجهي إليها: هناك محاضرة عن الجمال.. لنحضرها معا..هنا. جلست دونما كلمة, كنا عالمين مختلفين, متشابهين, متضادين, متساويين, ضائعين, وربما نتواصل بصرخات ضعيفة من قاربينا المتباعدين وسط لجاج العاصفة. كانت قربي, أكاد أشعر بحرارة أنفاسها, لكنما هي بعيدة للغاية الآن, تفكر بحسام ربما. بصوته الرجولي وقوامه الفارع مع حركاته البابلية المتعالية على نحو غريب. أعرفه, كان هنا, كان صديقي, كان يعامل منى كأخت له, لكنما الأمور تتغير.. أنها دوما كذلك. كنتُ أعرف أنّ ما من شيء من هذا سيبقى, حتى هذه اللحظات مع أكديّة الشفاه سترحل, لتبقى ذكريات تعاود الحياة مع زفرات الألم. مقاعد الدراسة, غباء صبري, تألق وجه منى وحماقاتي مع هذا وذاك. كلّها ستكون رموزا ذات أهمية بالمستقبل, لاستقبال الموت وللرحيل من هنا. كانت المحاضرة تنساب بسحرها الفلسفي وزخمها الأشبه بزخم غابة نخيل صامتة, لكنما كنت مشغولا بمنى وملايين مثلها-و مثلي أيضا- في ذاك الوطن البعيد القريب... وطن المطر الدفيء وغابات النخيل الصامت.
للتواصل: maganin@maganin.com
الكاتب: أحمد الكناني
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/03/2005
|
|