الكاتب: أ.د يحيى الرخاوي نشرت على الموقع بتاريخ: 21/06/2008
ضد كل الجاري حالاً: حولنا، وبنا، وعلينا، ضد هذا الواقع المؤلم المزعج المنذر المخيف، أطلت علىّ عيون مصرية: طفلة، وشاب، وفلاح، وعامل نظافة، ومجنون. كل تلك العيون قالت "لا"،... و"لكن...": "هناك شيء ما" لا ترونَه أيها العميان الجبناء. نفس الكلمات قيلت في نفس اللحظة. هذا الشيء ليس جديداً علىّ، سمعته من "خواجاية" محجبة اختارت أن تعيش في مصر جداً، فهمته منها دون أن تقوله ردا على تعجبي من أنها تترك بلادها الحرة جداً، لتعيش معنا، ونحن "هكذا"، ورأيته في شعر الأبنودي، وتشكيلات وتاريخ أحمد نوار، وتقشف وصوفية رمضان بسطاويسي، وابتسامة وقبلة هالة عزب، وتعقيبات وحضن هالة نمر، وطيبة غباء إبراهيم السهران، ونبض شعر عبد الصبور، وآلام ابنته، وفي كل نجيب محفوظ، وفي صوت "نور" وهي تناديني لأول مرة "جدي"، وفي أمانة حافظ عزيز، وفي طفولة واندفاعات إبراهيم عيسى، وصوت دقّات حذاء كلاكيت "هنَاَ" محمد الرخاوي، ورقص وغناء أطفال الأوبرا، ومثابرة وذكاء خالد صقر، وعناد وتدين مها عصام، وعند بائعة "الخضار" على الناصية، وفي حِجر ثوب زوجة البواب، وفي لؤم منادي السيارات، وخبث الولد الشقي يبحث عن كرته في شرفة جارتنا. كما سمعت حفيف احتكاك هذا الشيء على طول كل الطوابير، وفي جوف أنين الأطفال يتقلبون جوعا قبل أن يغلبهم النوم، سألت نفسي سرًّا: هل ما زال "هذا الشيء" موجودا حقيقة، أم أنني أصبّر نفسي؟
شيء ما في داخل داخل هذا الشعب يدعو للحمد والتفاؤل برغم كل الجاري، والذي سيجري، نعم هو نفس الشيء الذي أطلّ عليّ من تعقيبات وتساؤلات، وتداعيات الأصغر على نشرة "الإنسان والتطور" اليومية في الموقع الخاص بي، وهو الذي رأيته في عيون بعض المصريين في الخارج حين تطول بهم الغربة (الجيل الأول) وهو الذي يجعل مرضاي يثقون في أني أصدقهم، فيصدقونني، هو نفس هذا الشيء الـــ.. ما"!.
أعرف ما يمكن أن يصوّب إليّ حالا من قذائف، تتهمني أنني لا أدري ماذا يجري في قاع المجتمع، وأنني أجلس في برجي العاجي أكتب هذا الكلام، سوف تمّر القذائف الأرحم بجواري دون أن تصيبني وهم يفوّتون لي باعتبار أنني أهذي أو أحلم، أو لعلها تصفني بشفقة حانية: بالطيبة أو بالغفلة أو بالخيبة البليغة، وهي توصيني أن أترك "... الهَمّ لأصحابه"، لأتفرغ لمجانيني الذي يبدو أنهم أعدوني، لكن كل هذا لا ينجح أن يحول بيني وبين أن أظل أرصدّ "هذا الشيء الـ ماً". أعرف أننا شعب يتصف بالكسل، وأننا لا نعمل حتى وإن كان أغلبنا يذهب للعمل يوميا، وأننا لا نحترم الأرصفة، ولا إشارات المرور، وأننا نعيش بالتقريب، ونادراً ما نحترم الاختلاف، وأننا نحكم على بعضنا البعض بسرعة وسهولة لدرجة لا تسمح بتبادل أية آراءٍ حقيقية، وأننا نحب الاعتمادية، ونحذق كيف نلاعب الحكومة من أول الموظف الصغير بعلبة سجائر مارلربورو، حتى المسئول الكبير الذي بيده خرائط الأراضي القابلة "للتسقيع"، وهو يفوّتها للحيتان من تحت المكتب، أو في لقاء خاص، بفندق خمسة نجوم، وهو يحمل تحت إبطه أيضا الدليل السري لحركية البورصة هذا الأسبوع. أعرف كل ذلك، لكن يظل هذا "الشيء الـ ... ما" يلاحقني. كيف يستطيع أن يظل في موقعه هكذا مخترقا كل ذلك؟!!
أعرف ما آل إليه التجهيل المتمادي المسمى التعليم، كما أعرف أين موقعنا من البحث العلمي الحقيقي، ومن صراع التكنولوجيا، أعرف ما وصل إليه تهريج الجامعات، وضعف الإنتاج، وتشويه الدين ولفظنته، أعرف قانوننا الخاص بخلود الفراعنة على الكراسي، والمساجين في الزنازين، أعرف ما وصل إليه توحش الأثرياء وجشع الاحتكار، وترويج التبعية والاستسلام، لكنني لا أعرف – للأسف – لماذا لم يختف ذلك "الشيء الــ ...ما ". وراء كل هذا!!!
وبعد المساحة محدودة والحمد لله، وهى لا تسمح لي إلا أن أكمل التعتعة: بقسَـم صادق وشهادة تبرئة. أما الشهادة فهي أنني أعرف اسمي، وأنني أكتب الآن "تعتعة" الأسبوع، وأننا في شهر مايو، ولم يبق على خمسة يونيو "المجيد" سوى أسبوعان، وأن الجنيه هو أقل وحدات العملة المتداولة حاليا، وأن رئيسنا باق حتى لو تغير، وأنني أعتبر اليأس رفاهية الكسالى، وخيانة المنسحبين.
أما القسَـم الصادق، فهو أنني أقسم بالله العظيم ثلاثا أنني رأيت وأرى هذا الشيء بعينْي رأسي موجودا غصبا عني وعنك، وأنه سوف يتجلى "بنا" في يوم ما، ليفرض نفسه علينا. هل عندك مانع؟!!
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com