الكاتب: د. أحمد عبد الله نشرت على الموقع بتاريخ: 22/07/2008
الحمد لله على نعمة الكتابة، لولاها ربما كنت أختنق!! في أعماقي، وأزعم أن في أعماق كل مصري، يسكن راهب زاهد لا يريد من متاع الدنيا شيئا، فقط كهف صخري، وحشية ينام عليها، وخبز وملح!!
بداخل كل مصري تقبع نسخة وطيف من الأب متى المسكين!! وهذا الراهب طبعا ليس وحده، بل معه أصوات أخرى، وربما كائنات تحب الحياة الدنيا وزينتها وتحتفي بها، وبمقدار ما يستطيع المصري تمييز هذه الأصوات بداخله، وتحقيق التوازن بين هؤلاء جميعا ربما يتألق ويتميز عن غيره، والجاهل يحسب هذا تناقضا أو نفاقا!!
وكل مصري يحتاج اليوم بشدة إلى دعم نفسي عميق وشامل ومستمر، يحتاج إلى من يكرر على مسامعه دون كلل ولا ملل أنه جميل، وأنه يستطيع أن يكون أجمل، ويستطيع أن يقدم للناس الكثير من السعادة والجمال، ويستطيع أن هو أن يسعد نفسه ومن يحب، ويستطيع أن ينجح جدا، وأن صورته المشوهة، وسيرة وطنه المزيفة والمدانة والمخربة على ألسنة الحمقى والمتخلفين لا تساوي في الحقيقة جناح بعوضة!! فقط محض شكاوي أدمنها المصريون!!!
وربما المصريون ليسوا وحدهم في هذا بعد أن أصبحت كراهية الذات وباءً عاما، ومرضًا منتشرا وعضالا، وداءً مستفحلا وشرا مستطيرا يستحق التوضيح والتشريح والتشخيص بغية العلاج!!
قال لي أخي د.وائل عندما قرأ مدونتي "الإصلاح ممكن"، ووائل هو القارئ الأول لمدوناتي حصريا، إذ يستلمها مني يدا بيد مكتوبة على ورق، ويقرأها قبل أن يدفعها للنسخ الإليكتروني. سألته عن رأيه فقال: رائعة كالمعتاد، وإن كانت تعارض ما يذهب هو إليه من أنه لا أمل، وأن أحوالنا من سيئ إلى أسوأ تسير!!
ولما ذكرت هذا لإحداهن، وقرأت المدونة بعد نشرها، وجدتها تقول: قل للدكتور وائل يطمئن، فلا شيء سيتغير بهذه الطريقة!! قلت لها: لماذا؟! قالت: لأنك تبني التغيير والإصلاح على خطوة أن نحب أنفسنا، ونثق في قدراتنا، ونرى نواحي الجمال والروعة بداخلنا، وحولنا، في ذواتنا، وفيمن نحب!! وهذا ليس متحققا، ولا أحسبه سيحصل!! هكذا أردفت.
أرسلت لي زوجة تقول: لا ينقصني شيء، وعندي زوج محب، وأولاد، ووظيفة، وصحتي جيدة، لكن لا أستمتع بالجنس مع زوجي إطلاقا، رغم كل محاولاته!! رددت عليها: يا سيدتي.. لست من أنصار التشخيص عن بعد، وقلت لها كلاما كثيرا من بينه أنها لكي تستمتع بالجنس فلابد أن تكون محبة لنفسها ولجسدها، فأرسلت ملتاعة: يا إلهي... لم أحب نفسي يوما!! من أين سيأتي هذا الحب يا دكتور؟!!
عندما ذهبت إلى ندوة مناقشة كتاب: لا تكره نفسك للدكتورة هبة ياسين، وكان يومها مباراة لفريقنا القومي فجهزت نفسي للمحاضرة في قاعة خالية، ولأفراد معدودين، فإذا بالقاعة ممتلئة والجمهور متفاعل، وكأن الكتاب ومعانيه لمست وترا حساسا بداخل الكثيرين، وكأننا بسبب "اللاتربية" التي نتلقاها في بيوتنا صغارا، وكأننا بسبب الحركة في بيئات محبطة، والتعرض لمسموم الكلام والنقد والملاحظات و"التقطيم"، وتكسير المجاديف من أهلنا ومدرائنا في العمل، وربما أصدقائنا وذوينا، نحمل في نفوسنا قدرا هائلا من الكراهية لأنفسنا وأوطاننا وللحياة كلها!!
وما أبشع أن يحصل هذا الخطاب: خطاب الكراهية والعدوان على الذات على زخارف وديباجات دينية فتكون كراهية مؤسسة على معتقد فاسد، ولكنه مزعج جدا، ويحسبه الإنسان شيئا محترما، وهو محض توهمات مرضية، والتباسات تحتاج إلى فك وإصلاح وتبيان، ولكن من يفعل هذا، والجهل سيد الموقف؟! والخوض في نفوس الناس، وكلام الله وتنزيله على واقعهم صار هو مهنة من لا مهنة له، وبضاعة رابحة و"اشتغالة" يتسلط بها ناس على أبدان ناس وعقولهم ليصبوا فوق رؤوسهم ركاما من الرعونة وقلة الفقه والسخائم والرذالات (من الرذالة)!!
أنصت لنفسك ولمن حولك ستجد كلاما مشحونا بكراهية الذات والوطن والآخرين، وأنكد ما في الحياة يتصدر رؤيتنا عنها، ولا تسمر مجالسنا إلا بالخوض في هذه الأوساخ والنتن حتى صرنا كما قالت إحداهن: "صراصير عايشين في زبالة"، فهل تتوقع إصلاحا أو تغييرا ممن يرى نفسه صرصارا، أو هو بالفعل يعيش كالصراصير وسط القمامة: هي مضاربه ومتنزهاته، وطعامه وملاعبه، وسكنه وحياته!!
جلست أمامي أمس بالعيادة، وقالت: صرت لا أستطعم شيئا في الحياة!!
قلت لها: هل تحبين ذاتك؟؟ نفسك؟! جسمك؟! في البداية قالت: نعم، ثم ما لبثت أن أدركت أنها كانت متسرعة، استدركت، وقالت: لا أحب جسمي، وسمعت نقدا متواصلا ممن حولي مغلف بنصائح وشفقة وملاحظات من قبيل: أنت تتقدمين بالعمر، ومن يخطبك اليوم أفضل حتما ممن سيأتون غدا، ولن تجدي فارس الأحلام فتزوجي وخلاص!!
ومن قبلها أخرى: من حقي أن يكون لي بيت وأسرة وأولاد، ومن حقي أن أمارس جنسا كاملا وحقيقيا مع رجل هو زوجي، بعد عشرين عاما من إدمان العادة السرية، ولكن هل أستمر في الخطوبة رغم أنني لا أشعر تجاهه بحب أو بكراهية!! وإنه "مش فارق معايا"، هل أنا ظالمة له هكذا؟!
وهي تخفي عنه بعض دواخلها لأنها لو أظهرت فسيهرب لأنه يريد فتاة مثالية، ولا توجد هكذا فتاة إلا الكاذبات المدعيات أنهن كذلك!!
حياة بائسة ممتلئة بالكراهية الدفينة غالبا، والمعلنة أحيانا، ولن ينطلق إصلاح وهذا هو خبزنا اليومي، وزاد مسيرنا، وما نحمله في قلوبنا وعقولنا: إما كراهية عريضة لنا وللدنيا وما فيها، أو محبة هشة خرقاء، ولحظات خاطفة من متعة زائفة نرى فيها أنفسنا أجمل، ولكن تحت تأثير قناعة عابرة، أو مخدرات أو أشباه المخدرات!!
وحتى ترديد أحدنا لكلمة"أنا حلو" أو "أنا حلوة" لن يستمر تأثيره إلا إذا كان مؤسسا على استكشاف حقيقي وتنمية مستدامة لجوانب الجمال ومناطقه ومساحاته بداخلنا، الواحات والزهور والينابيع والأشجار والأطيار والألوان والعطور!! نعم بداخلنا!!
آن لنا أن نطوي صفحة البشاعة والقمامة والنكد والرذائل والكراهية، وكل المشاعر السلبية التي نعيشها تجاه أنفسنا على الأقل، ولقد نقلوا عن سيدنا المسيح عليه وعلى نبينا أفضل السلام والصلاة قوله: "أحبوا أعداءكم... باركوا لأعينكم..."
وأنا أقول ما هو أسهل: أحبوا أنفسكم، وادعموها بحب، وأحبوا من في جواركم، وقولوا لكل إنسان: أنت جميل.
أعرف أن العيون التي تعودت على رؤية القذى والقاذورات لن تكتشف دقائق وتفاصيل الجمال بسهولة، لكن من سيكتشف مساحات الجمال في نفسه بهدوء وتأمل سيكون قادرا على اكتشافها في غيره، ومن سيعثر على كنوز ذاته المطمورة تحت ركام الاعتياد والملل، والألم العام والخاص، والشعور بالفشل وعدم التحقيق والكفاءة، بل عدم الصلاحية لشيء!! والشعور الدائم بالذنب!!
من يستطيع الخوض من مياه البالوعات المكتومة التي فاضت لتملأ حياتنا بمياه المجاري، ومشاعر الصرف الصحي، وروائح المخلفات، من يستطيع تسليك بالوعاته، والعثور على أصوات الموسيقى الربانية الجميلة بداخله، والتعرف على ملامح ومعالم وتضاريس الجمال الداخلي له، هذا فقط هو من يستطيع أن يرى الجمال في الآخرين، ويرى الكون من حوله جميلا من صنع الله الجميل الذي يحب الجمال، هو فقط من يستطيع أن يقول لغيره: أنت جميل... وهذه المشاعر والكلمات هي: ألف باء تغيير!!"... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..."(الرعد:11).
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com